بسم الله الرحمن الرحيم
أنزله الله وأسبحه، وأسأله التوفيق وأستمنحه. حامدًا له تعالى بأسمائه، على جلائل آلائه ودقائق نعمائه. حمدًا تتعطر مجاري الأنفاس بنفحةٍ من نفحاتهِ، وتتدفق بحار الأفكار برشحة من رشحاته.
وأصل ذلك ما دمت أنطق بكلام بصلات صلاة وأتم سلام، على من أبدع منشئ الوجود إنشاءه على أحسن فطرة وأجملها، ونظم به عقد الدين بعد نثره فدعا لأتم ملة وأكملها. الذي أوتي جوامع الكلم، ولم ينطق عن الهوى، فاقتفى أثره عصابة ما ضل أحد منهم باتباعه ولا غوى.
المبعوث في زمن هتفت فيه مصاقع العرب على منابر البلاغة، وقيدت شوارد المعاني في الأسماع بسلاسل الذهب فلم يبلغ أحد بلاغه. فأبطل سحرها المبين، متمسكًا بحبل الله المتين، وجاءها بالعقد الذي تحل به الزمان العاطل، والحق الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه الباطل.
والروض الذي تتفجر عيونُ البلاغة عن أصول معانيه، وتتدفق مياه البراعة عن فصول مبانيه. ونزه أسماعها في حديقة حميت بشوكة الإعجاز فلم تلمس ورودها أيادي إياد ولا أنامل الحجاز.
فلله وبالله ذلك المفحم المعجز، الذي أعيى على الواصف المطنب والموجز. لا برحت الصلوات الناميات في كل أوان، تحيي مرقده الشريف ما تعاقب الملوان.
ثم أحيي آله الكرام، وأصحابه ذوي الاحترام، بما يناسب رتبتهم السامية، من هذه التحية الزكية النامية، وعيلهم رحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني من منذ ألقيت الألواح، وميزت بين الصباح والمصباح. جعلتُ الأدب لناظري ملمحا، واتخذته لفكري من بين المعارف مطمحا. وكنتُ أعده لصحائف الشمائل عنوانًا، وأرتب لبيت قصيده في بدائع المآثر ديوانًا. وأشيم من آفاقه بوارق السحر، وأشم من أردانه روائح الشحر. فأرتشف منه ما هو أشف من الماء في زجاجه، وأشتف ما هو ألذ من الرحيق في مزاجه.
وأنا من الابتهاج به كما التقى الغدير بالزهرة، ومن التملي به كما تقابلت الثريا بالزهرة. فطالما وردت منه ما صفى من الأمواه، وبسطت حجري لالتقاط درره من الأفواه. وعكف طرفي في محاريب دفاتره، ورشف يراعي ماء الحياة من ظلمات محابره.
هذا وغصن شبابي غض وريق، وتحايا مدامي عض وريق. وأنا أجري في طلق الصبا طلق الصبا، وأذهب في نيل البغية مذهبًا مذهبًا. فكم ليلة نادمت فيها الأمانين ووفى لي في جنحها بالضمان زماني. فتناولت أحاديث كالأرياق، نظمتها كالعقود تلوح من الأزياق. وذلك في مسقط رأسي ومشتعل ذؤابة نبراسي. خطة السرور والفرح، وحلة القدح والقدح. ومنى الأماني، ومغنى الأغاني. وقبلة القبول، وشملة الشمول. البلدة الفيحاء دمشق، الطيبعة العرف والنشق.
لا زال خفاق النسيم يلعب بعذبات واديها، وهطال السحاب يراوح دمنها ويغاديها. وحيى الله أعزاها الذين بهم التقيت ونجوم أفقها الذين بصحبتهم ارتقيت أديبهم يهز له الأدب هيف معاطفه، وأريبهم يمد به الندى بساط عواطفه.
يرمون عند هدر الشقاشق في حدق البيان ويصيبون بالكلم الرواشق غرض التبيان. ويتنافسون من السحر في المناظم، وما يتصرفون فيه إلا على ذائقة الأعظم. من بدائع لو عثر عليها سحرة من موسى لتابوا، وروائع لو اطلع عليها المصورون لدلوا عن نهجهم وأنابوا.
وما منهم إلا من بطش فيما انتحى بباع بسيط، ولم يزل عن موقف الصواب مقدار فسيط. وكان بقي للشعر خصاصة فاستظهروا على سدها، وأنشوطة استنهضوا هممهم لشدها. صنيعهم صير الزمان من تقصيره في وجل، وأظنه أطلع الورد في خد الربيع إشارة لما عنده من الخجل.
فوسقت في بحارهم السفائن، واستخرجت من محاسنهم الدفائن. واجتنيت من ثمرات خواطرهم كل يانع مستطاب، وحشوت صدفة أذني من تلك اللآلئ الرطاب.
وملأت السمع منهم كلمًا ... يحسد القلب عليه الأذنا
لكني لم أقض من رؤيتهم مطمعا، حتى غربواهم وشمس الفضل معًا.
فعاينت الوجود دونهم كالنهار بلا شمس، وعاينت الأمر ولا هم كالراحة بلا خمس.
وفقدت بهم الوطر الذي شايعته، والأمل الذي على الوفاء والرعى للذمم بايعته.
فلم ألبث حتى كرهت الثوى وتحركت عزيمتي لداعي النوى.
أنضيت لجهة الروم العزم، وأدخلت على حرف العلة عامل الجزم.
فعل أمرئ جد جده، وما رأيه إلا في مفخر يستجده فإن في الانتقال تنويهًا لخامل الأقدار، ولولاه لم يكس البدر حلة الأبدار.
1 / 1