2
وقال الإمام أبو الحسين مسلم
3 (261ه): «واعلم - وفقك الله تعالى - أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات، وسقيمها وثقات الناقلين لها من المهتمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.» وقال أيضا: «حدثني محمد بن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو، قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بل قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه، وأقول لا تأخذوا عنه، وحدثني محمد بن أبي عتاب قال: حدثني عفان عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: لم نر في الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم: يقول يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب، وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد قال: قال أيوب: إن لي جارا ... ثم ذكر من فضله، ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة.»
4
وقال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (505ه): «العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه. فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب. ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة، وتطفيف في حبة قصدا، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية. كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو أكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح، والضابط في ذلك، فيما جاوز محل الإجماع، أن يرد إلى اجتهاد الحاكم. فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به، وما لا فلا، وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين، وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول، ورب شخص يعتاد الغيبة، ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع، لا يصبر عنه، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا، فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد، واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض.»
5
ومما له علاقة بهذا الباب، وهو من أجود ما قرأنا، كلام القاضي عياض بن عياض (544ه) حيث يقول: «الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه لا يجب أن يحدث المحدث إلا بما حفظه في قلبه أو قيده في كتابه وصانه في خزانته، فيكون صونه كصونه فيه في قلبه حتى لا يدخله ريب، ولا شك في أنه كما سمعه، وكذلك يأتي لو سمع كتابا وغاب عنه ثم وجده أو عاره ورجع إليه، وحقق أنه بخطه أو الكتاب الذي سمع فيه بنفسه، ولم يرتب فيه حرف منه ولا في ضبط كلمة، ولا وجد فيه تغيرا. فمتى كان بخلاف هذا، أو دخله ريب أو شك لم يجز له الحديث بذلك؛ إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدث بما لم يحقق أنه من قول النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويخشى أن يكون مغترا، فيدخل في وعيد من حدث عنه بالكذب، وصار حديثه بالظن، والظن أكذب الحديث، وقد هاب السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم الحديث بما سمعوه من قلق فيه، وحفظوه عنه مخافة تجويز النسيان، والوهم والغلط على حفظهم، ولا تأثير في الشرع للتجويزات، فكيف بما لا يحقق وبني على الظن وسلامة الظاهر؟ ولهذا قال مالك - رحمه الله - فيمن يحدث من الكتاب ولا يحفظ حديثه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل، وقد قال مثل هذا جماعة من أئمة الحديث وشددوا في الأخذ.»
6
وقام في القرن السابع للهجرة الحافظ الفقيه ابن الصلاح الشهرزوري (643ه)، ونزل دمشق ودرس الحديث في المدرسة الأشرفية. فاعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة وجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، وعكف الناس عليه وساروا بسيره فنظموا أقواله، واختصروها، واستدركوا عليها، واقتصروا وعارضوا وانتصروا.
ناپیژندل شوی مخ