قال: أخبرني أحمد بن محمد البزاز الأطروش قال: حدثنا أبو مسكين جعفر بن المحرز ابن الوليد عن أبيه قال الواقدي: كان إبراهيم بن المهدي قد ادعى الخلافة لنفسه بالري، وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما، وله أخبار كثيرة أحسنها عندي ما حكاه لي قال: لما دخل المأمون الري وطلبني أشد طلب وجعل لمن أتى بي مائة ألف درهم، خفت على نفسي وتحيرت في أمري فخرجت من داري في وقت الظهر وكان يوما صائفا، ولا أدري أين أتوجه فمررت على وجهي حتى وقعت في زقاق لا ينفذ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن عدت على أثري يرتاب بي، فرأيت في صدر الزقاق عبدا أسود قائما على باب داره، فتقدمت إليه وقلت له: عندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار؟ فقال: نعم، وفتح الباب فقال: يا سيدي أدخل بالرحب والسعة، أنا لك والمنزل وبحكمك. فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصير نظيف ومخدة جلد إلا أنها نظيفة ثم أغلق الباب علي ومضى فتوهمته قد سمع الجعالة في، وأنه خرج ليدل علي، فبقيت على مثل النار قلقا، فبينا أنا كذلك إذ أقبل معه حمال عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم وقدر جديدة وآلتها وجرة نظيفة وكيزان جدد، فحط من الحمال ثم التفت إلي وقال: جعلني الله فداك، أنا رجل حجام، وأنا أعلم أنك تقز نفسك مني لما أتولاه من معيشتي، فشأنك بما لم تقع عليه يد، وكانت لي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قدرا ما أذكر أني أكلت مثلها، فلما قضيت أربي من الطعام قال: هل لك في شراب فإنه لم يسلي الهم، ويطيب الفم، ويجيد النفس، ويذهب الغم؟ فقلت: ما أكره ذلك رغبة في أن أوانسه فأتى بقطرميز جديد لم تمسه يد، وجاءني بدنين من شراب مطيب وقال لي: روق لنفسك فروقت شرابا نهاية في الجودة، وأحضر لي قدحا جديدا وفاكهة وقلا مختلفة في طسوت فخار جديدة ثم قال بعد ذلك: أتأذن لي، جعلت فداك، أن أقعد ناحية منك وآتي بنبيذ لي فأشرب منه سرورا بك فقلت له: افعل فشرب وشربت ثلاثا، ثم أدخل إلى خزانة له فأخرج عودا مصفحا فقال: يا سيدي ليس من قدري أنا أسألك تغني، ولكن قد وجبت علي مروءتك حرمتي، فإن رأيت أن تشرف عبدك بأن تغني لنفسك فافعل، فقلت من أين لك أني أحسن الغناء، فقال متعجبا يا سبحان الله أنت أشهر من ذلك أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم، قال: فلما قال ذلك عظمت همته ومروءته عندي وعلمت أن نخوته أجل مما بذل في، فتناولت العود فأصلحته فغنيت، وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي:
وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو أسير
أن يستجيب لنا فيجمع شملنا ... والله رب العالمين قدير
فقال يا سيدي أتجعل ما تغنيه ما اقتضيتك إياه؟ قلت نعم قال عن لي:
إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره فيك يحسن حلها
فاصبر فإن الله يعقب راحة ... فلعلها أن تنجلي ولعلها
فغنيته ولم أكن أحسن لحنه لكنني لحنته في الوقت وتفاءلت به وحسن عندي إيراده، فشربت وشربت، وقال: عن يا سيدي:
فلا تجزع وإن أعسرت يوما ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل
ولا تظنن بربك غير خير ... فإن الله أولى بالجميل
وكنت أعرفه فغنيته فشرب وشربت وقال: لله علي نذر إذا آنستني بقربك وما كنت أحسب أن الزمان يسمح بكونك في منزلي فإن رأيت أن تغني:
وإذا تنازعني أقول لها اصبري ... موت يريحك أو علو المنبر
ما قد قضي بأنفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
فغنيته وحسن في نفسي اقتضاؤه وآنست به واستظرفه ثم قال: يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح وإن كنت من غير أهل هذه الصناعة فقلت: زيادة في أدبك ومروءتك، فأخذ العود وتغنى:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لما ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعا ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو إنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فوالله لقد أحسست البيت قد سار بي، وذهب عني كل ما كان بي من الهلع وأنسيته، وسألته أن يغني فغنى:
مخ ۲۱