أهلها بالولاية فيها والاكتساب، ولو قد رحلت إلى بغداد وسر من رأى لما أقمت إلا شهرا، ثم تتقلد أجل الأعمال، فقلت: والله ما أقمت إلا متوقعا لأمرك في الخروج، فقال: أعطني خط كاتبك بأن عليه القيام بالحساب، وأخرج في حفظ الله، فأحضرت كاتبي وأخت خطه كما أراد، وسلمت الخط إليه، فقال لي: اخرج أي وقت شئت، فخرج " من غد " هو وأمير مصر وقاضيها ووجوهها وأهلها وشيعوني إلى ظاهر مصر. وقال لي: تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ إلى أن أزيح علة قائد يصحبك برجاله إلى الرملة فإن الطريق فاسد، فاستوحشت من ذلك وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما املكه وجميع ما كسبت فيتمكن منه في ظاهر البلد فيقبضه ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكتاب ثان، يذكر أنه " صك " فخرجت وأقمت بالمرحلة التي يذكر مستسلما للقضاء متوقعا للشر، إلى أن رأيت أوائل عسكره مقبل من مصر، فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبنيه أو لعله يريد أن يقبض علي به، فأمرت غلماني بمعرفة ذلك وما الخبر؟ فقالوا: العامل أحمد بن أبي خالد قد جاء، فلم أشك في أنه قد ورد البلاء بوروده، فخرجت من مضربي فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس قال: اخلونا، فلم أشك " أنه " للقبض علي فطار عقلين وقام من كان عندي فلما لم يبق عندي أحد قال: أنا أعلم أن أيامك لم تطل بمصر، ولا حظيت فيها بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك لم أستجب إليك، وأخرت الأذن لك في الانصراف منذ أول الأمر إلى الآن، لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع وزدت في النفقات في كل سنة خمسة عشر ألف دينار " تكون " للسنتين ثلاثين ألف دينار وهو يقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني في ذلك الوقت، وقد " تشاغلت به حتى " جمعته لك، وهذا المال على البغال، وقد جئتك به فتقدم إلى من يستلمه فتقدمت لقبضه وقبلت يده، وقلت قد والله يا سيدي فعلت ما لم تفعل البرامكة، فأنكر ذلك مني وتقبض عنه وقبل يدي ورجلي وقال: ههنا شيء آخر أريد أن تقبله فقلت: ما هو قال: خمسة آلاف دينار وقد استحققها من رزقي، فامتنعت من ذلك، وقلت: فيما قد تفضلت به كفاية، فحلف بالطلاق أن أقبلها منه فقبلتها، فقال: وههنا ألطاف من هدايا مصر أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة فيقولون لك: وليت مصر فأين نصيبنا من هداياها؟ ولم تطل أيامك فتعد ذلك لهم، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت وأخرج درجا فيه ثبت جامع لكل شيء في الدنيا حسن طريف جليل القدر من كل جنس من ثياب دبيق وقصب وخدم وبغال ودواب وحمير وفرش وطيب حتى أقلام ومداد ما يكون قيمته مالا كثيرا، فأمرت بتسلمه وزدت في شكره، فقال لي: يا سيدي أنا مغرى بحب الفرش وقد استعملت لي بيتا أرمنيا بأرمينية وهو عشر مصليات بمخادها ومساندها ومساورها ومطارحها وبسطها وهو بطرز مذهبة قد قام علي بخمسة آلاف دينار على شدة احتياطي، وقد أهديته لك، فإن أهديته إلى الوزير عبدك وإن أهديته إلى الخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به كان أحب إلي، قال: وحمله فما رأيت مثله قط، ولم تسمح نفسي بإهدائه لأحد ولا باستعماله، فما ابتذلت منه شيئا يا بني إلا يوم إعذارك، فإني اتخذت منه الصدر ومسانده ومخاده، أفتلومني يا بني علي أن أقوم لهذا الرجل؟ فقلت: لا والله يا أبي؛ ولا علي ما هو أكثر من القيام، لو كان مستطاعا. قال: فكان أبي بعد ذلك إذا صرف رجلا عن عمل، عامله بكل جميل، ويقول: علمنا ابن أبي خالد أحسن الله جزاءه حسن التصرف.
مخ ۱۱