99

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

ولما فرغ من قوله وهم مرهفو الأسماع له، انثنوا يقولون له: «وماذا تريد أنت لكي تكف عن دعوتك هذه؟»

فقاطعهم قائلا في حماسة الأبي المترفع: «لست أبغي شيئا لنفسي خاصة، ومهما عرضتم على زملائي فإنني شخصيا لن أقبل التوظف في النيابات، وإنما الذي أطلبه لإخواني هو أن يعينوا في وظائف «مساعدي نيابة» بمرتب خمسة عشر جنيها في الشهر.» فقالوا: «إن هذا الطلب صعب التحقيق ، إذ ليس يتيسر الترقي بهم إلى وظائف مساعدي النيابة دفعة واحدة.»

فجعل مصطفى يناقشهم في ذلك وهم يناقشونه طويلا حتى أقنعهم برأيه، وألزمهم وجهة نظره، فارتضوا تعيين الخريجين في وظائف «معاوني» نيابة بعشرة جنيهات في الشهر.

وكذلك انتصر مصطفى ورفع من شأن إجازته، ونجح في زعامته الباكرة ومطالع قيادته، ووفق في الدفاع عن حقوق الجماعات بقوة يقينه، وجاذبية شخصيته، ورفعة نفسه عن الصغار والمادية، ونفاره من المساومة، ووقوفه موقف الشهامة والكرامة والإباء.

وكذلك بدرت نزعة الزعامة في نفس مصطفى وهو في العشرين أو قرابتها. وقد اقتضت منه الزعامة الباكرة يومئذ الوقوف بجانب الحق، فوقف بجانبه رافع الرأس، قوي المنطق، باده الحجة، بل لقد أريد على الكف عنها بالمساومة والإغراء؛ فأبى الإذعان إلى ما أريد عليه، فكانت تلك صورة مصغرة من زعامته الوطنية حتى توانت له الظروف المهيأة، وحان مطلعه على رأس الأمة ليقودها بتلك الزعامة الحريصة الحفيظة النزيهة ذاتها إلى ساحة الجهاد، وميدان الفوز والنجاح.

وقد رفض وهو قائم في ذلك الموقف الخليق بالإعجاب دخول الوظائف، وكان دخولها يومئذ مرمى آمال الشباب، وغاية أماني الطلاب، رفض الوظيفة ولم يكن أهله أغنياء مكثرين حتى يستغني عنها الاستغناء كله؛ ولكنه كان أبيا على المساومة، بعيد مطارح الأمل، قصي مسافة الأماني، يحس في أعماقه أن الميدان الحر أوأم له، وأصلح لمثله، وأكثر إبرازا لمواهبه.

رفض مصطفى وظائف معاوني النيابة، وأبى راتب عشرة جنيهات في الشهر، ولو أنه ارتضى ذلك وقبله، لأعطي أكثر من ذلك وأكبر أمدا، ولكن بثمن زعامته الأولى في حلقة الشباب، وبتضحية الفضيلة النامية في نفسه، الثجاجة من منابع إحساسه، الغزيرة المورد والمعين ...

لقد كانت عشرة جنيهات في الشهر يومئذ راتبا حسنا، يقر عين كل شاب، ويرضي أمانيه؛ إذ لم تكن في ذلك الحين أزمات اقتصادية، ولا ضوائق متراخية الآماد، ولم تكن ثم قيود مالية على العلاوات، وحد من الترقيات، كما ترادف ذلك وتكاثر في العهود الأخيرة، حين اشتد الزحام على الوظائف، وكثر على الحكومة وخدمتها الزمر والحشود وجموع المتهافتين.

وهكذا استكمل مصطفى حياته الدراسية بإبراز مظهر جديد من مظاهر الإباء والرفعة، وفرغ من دور النشأة أحسن ما يكون الفراغ، وانتهى من مرحلة التكوين أجل ما تروح النهاية؛ فكان ذلك كله توطئة مناسبة لما كان يرتقبه في حياته العملية من مواقف عظيمة، وأحداث كبار، وفعال جسام.

لقد استقبل مصطفى النحاس حياته العملية شابا مستقيما، والاستقامة في الشباب قوة لا يستهان بها، ومزية ترجح على كل المزايا، وعدة لا تتخاذل أمام الطوارئ والحادثات، واستهل مصطفى الدور الثاني بعد التكوين فتى قوي الإرادة. وقديما كانت قوة الإرادة أكبر معوان على النجاح في الحياة، إذ بقوة الإرادة استطاع النوابغ والعظماء أن يشقوا طريقهم في الصخر، ويبلغوا غاياتهم البعيدة بالدأب في غير كلال، والمثابرة في غير يأس، والإقدام دون تردد أو إحجام.

ناپیژندل شوی مخ