98

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وكان كل همه في الدرس والمذاكرة، ولم يكن ليشترك مع الأقران في لهوهم ومراتعهم، حتى إن نقاء حياته أرسل أفقا من الطهر والنقاء فيما حوله، وطهر جوه ومحيطه.

وعقب دخوله المدرسة الخديوية شاء اللورد كتشنر أن يأخذ من المدرسة عددا من طلابها لإلحاقهم بالمدرسة الحربية، وكان مصطفى من بينهم؛ ولكنه كان يؤثر مواصلة دراسته والانتقال منها إلى المدرسة العالية، فرفض النقلة إلى المدرسة الحربية، وعند ذلك ظن الموظف الإنكليزي الذي يحاول تنفيذ مشيئة المعتمد البريطاني أنه مستطيع أن يؤثر في هذا الطالب الذي اجترأ على الرفض، من ناحية ضعيفة، يحسبها مطعنا قابلا للجرح؛ فقال له إن كل تلميذ يتعلم هنا «بالمجان» لا بد من أن يلتحق بالمدرسة الحربية، ولكن مصطفى - في شمم وعزة وشجاعة - راح يجيب قائلا: «ما طلبت أنا المجانية عن فاقة، ولا سألتها عن عوز؛ ولكن ناظر المدرسة هو الذي شاء ذلك مكافأة للمتقدمين، وجزاء للمتفوقين.»

فأسقط في يد المفتش، ولم يحر جوابا.

وظل مصطفى متفوقا على أقرانه في المدرسة الخديوية، على رأس الفرق جميعا، حتى أصاب «البكالوريا»، وانتقل إلى مدرسة الحقوق، حيث المضطرب فسيح لبروز النبوغ، والمجال متسع أمام الذكاء الوقاد، والشخصية القوية من النشأة، فلم يلبث مصطفى أن ظهر بأول مقدمات «الزعامة»، ومطالع قيادة المجاميع، وقد ظل على تفوقه أول فرقته في جميع سني الدراسة، وهو البارز على رأس إخوانه، الظاهر وسط الحلقات، حتى أحرز «الليسانس» وكان أول الناجحين.

وكانت بوادر زعامته في هذه الفترة الباكرة من حياته، بسبيل مصير طلاب الحقوق وخريجيها إذا ما فرغوا من دراستهم القانونية؛ فقد وقف مصطفى النحاس يومئذ موقفا رائعا من أمر هذا المصير وسبيله، وأبدى من الرزانة والرصانة والثبات على الحق ما كان مقدورا له أن يبدي في مجال السياسة بعد ذلك، ومواقف الوطنية الصادقة، حتى لم يعد عن ذلك الأمر إلا وهو الناجح الموفق المنتصر.

وتفصيل ذلك أن خريجي الحقوق كانوا يومئذ يعينون «كتبة» في النيابات بمرتب شهري لا يتجاوز خمسة جنيهات، وكان ذلك الإجراء سوء تقدير لهم، ووضعهم في غير مواضعهم، وإنزالهم في خدمة القانون دون منازلهم الخليقة بهم، فلم تكد نتائج الامتحان النهائي تظهر، وتعرف أسماء الناجحين فيه، حتى دعا مصطفى أفراد فرقته الذين نالوا الليسانس معه إلى حفلة أقامها لهم في القناطر الخيرية، فجاءوا متوافين إليه ملبين.

وحين اكتمل عقدهم نهض مصطفى فيهم قائلا لهم إنهم بنيلهم إجازة الليسانس قد أصبحوا من رجال القانون في البلاد، وإنه من الجرم أن يقبلوا وظائف كتبة في النيابات براتب خمسة جنيهات، فقال قائلهم: «وماذا نصنع إذن؟» قال: «أريد أن نقاطع الوظائف الحكومية، ونخوض معترك الحياة العامة أحرارا طلقاء المشيئة غير مقيدين.»

فاستقبل فريق منهم الفكرة راضيا محبذا، على حين لزم فريق الصمت وأطالوا السكوت، فعاد الزعيم الشاب يقول: «أما من جهتي فإنني أرفض الدخول في هذه الوظائف من الوجهة المالية، فإذا كان فيكم من تضطرهم حالتهم المالية إلى التوظف وهم كارهون، فليعلنوا ذلك من الآن، فنحلهم من الاشتراك معنا؛ فإن ذلك خير من أن ينشقوا علينا بعد أيام، فيعوقوا علينا سير حركتنا، ويفسدوا علينا تضامننا.» فقال أربعة منهم إن ضيقهم المالي يكرههم على قبول هذه الوظائف صاغرين، فقال الزعيم الشاب المتحمس لفكرته، الحريص على كرامته: «هذا حسن، فليتحد الباقون، وليتناصروا، وليكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.»

وما لبث نبأ هذه الحركة أن اتصل بولاة الشأن المصريين والإنكليز، فخشوا العاقبة وعهدوا إلى ناظر مدرسة الحقوق بأن يدعو مصطفى النحاس إليه فيبحث معه الأمر في رفق، فلما دعاه الناظر ذهب إليه، ولكنه لم يكد يدخل عليه حتى وجد حوله وكيل المدرسة وبعض الموظفين الإنكليز، ومن بينهم مندوب من قبل دار الوكالة البريطانية.

وراح القوم يسألونه عن الباعث الذي بعثه هو وزملاءه على القيام بهذه الحركة، فبسط لهم الأسباب في لهجة الجد والحزم والغضبة الصادقة للكرامة.

ناپیژندل شوی مخ