نشأ مصطفى في ذلك البيت الطاهر، ودرج في ذلك الأفق الساكن الوديع؛ فاكتسب الاستقامة، وحرص على الصلاة من العاشرة، حتى لقد سئل فيما بعد عن سر هذا التمسك الصادق بشعائر الله، فقال إنه حين انحدر به أبوه إلى القاهرة ليسلكه في المدرسة، ذهبا من ساعتهما رأسا إلى ضريح سيدنا الحسين - رضي الله عنه - فلم يكد والده يقف به أمام المقام الطاهر حتى انبعث في خشوع يقول: «لقد سلمت لك مصطفى!» فشعر الطفل في تلك اللحظة بوحي خفي دب إلى نفسه، واستفاض في مشاعره، وغمر حواسه؛ فظل يذكر تلك الوقفة الدينية الرهيبة طيلة الحياة، ويتمثل تلك الكلمات تدوي في أذنيه على الأيام، ومنذ ذلك الحين لم يترك فرضا، ولم يهمل ميقات صلاة؛ بل لقد كانت هناك جوائز ومكافآت للصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية، فأحرزها جميعا، وفي سائر أعوام دراسته.
هذا هو أول أثر للمحيط العائلي في نفس مصطفى عند طفولته، وهو تأثير خلقي يتصل بالشعور، ويلقي في الوجدان بذور الفضيلة، وتشيع في النفس من أفاعيله كرائم الآداب، ورفعة الأخلاق، والتنزه عن الدنايا، ويضع في أعماق الخاطر قوة الإيمان والاعتماد على الله، وجلال اليقين الذي لا يتطرق اليأس إليه في أشد الحلكات، وأبلغ المحن، وأرهب البلاء.
وكذلك بدت بوادر نفسه الصالحة الطاهرة قبل ظهور مخايل ذكائه ورفعة ذهنه؛ لأن النشأة النفسية إنما تكون من عمل البيت، وصنع المؤثرات العائلية، وأفاعيل الوسط الأول والبيئة الخاصة. وعلى مبلغ هذه النشأة من القوة والنقاء والخير والطبيعة تكون الرجولة، ويروح المصير، ويتيسر النجاح، ويتواتى الفوز والتوفيق.
بفضل التربية المنزلية والتكوين النفسي الأول، ظهر مصطفى النحاس في شبابه موضع الإعجاب، وتجلى في رجلته محل الإجلال والإكبار، وفي زعامته الوطنية كاسب الإيمان ومكسبه، ورابح اليقين وموحيه، والمتجمل بالثبات والمنادي إليه، والرفيع النفس والنفوس ألفاف حوله، والمتغلب على خصومه وإن تكاثروا عليه، بقوة تلك المزايا التي استمكنت منه بفضل النشأة والتكوين.
وخارج البيت لم تلبث استعداداته الذهنية أن ظهرت بادهة مدهشة كمواهب نفسه، ولم تكن في سمنود مدارس كبيرة في ذلك الحين، وإنما كانت ثم مدرسة لتعليم الفرنسية أنشأها قبطيان من أهل المدينة، وهي مدرسة صغيرة متواضعة، لا تكفل تعليما كبيرا ولا حسن تنشئة، ولكن الصبي مصطفى جعل يختلف إليها في طفولته ليأخذ عنها المبادئ الأولية.
وفي تلك الفترة، وقبل أن يبلغ العاشرة، ظهرت مطالع نجابته فجأة، وبوغت القوم بسرعة التقاطه للعلم، وخارق ذكائه، وعجيب حافظته. وقد ذكر كثير من الناس قصة عن طفولته وما كان منه في مكتب التلغراف، وهي في الحق قصة صحيحة غير مصنوعة، وإن لم يأت رواتها على الدقائق الصادقة فيها وحقائق التفاصيل، ونحن موردوها هنا على وجهها الصحيح.
في ذات يوم شهد مصطفى وهو في طفولته عبد الحميد حافظ أفندي المستخدم في مكتب التلغراف يحرك أنامله على جهاز آلي أمامه، فينقل الجهاز إشارات معينة، فوقف يتأمل هذا العمل مليا، وقد هاج حب الاستطلاع في نفسه؛ فكاشف الموظف برغبته، وكان عبد الحميد صديقا لأبيه، فدفع إلى الصبي بكشف طويل يحوي الحروف الهجائية وبجانبها مصطلحاتها التلغرافية، بين شرطة ونقطتين، أو نقطة وشرطة، ونحوها. فلم يكن من الصبي إلا أن أكب من لحظته على حفظها، واضعا كل ذهنه وقلبه في استظهارها، حتى لم يكد يؤذن مغرب الشمس حتى جاء الغلام إلى العامل طالبا إليه أن يسمع عليه ما حوى ذلك الكشف من نقط وإشارات وشرطات.
وما كان أشد عجب الرجل ودهشته لما قال الغلام، فراح يقول له: «كيف تكون حافظتك قد وعت في يوم واحد ما لا تعيه ذاكرة سواك في شهر؟!» فألح مصطفى عليه في سماعه قائلا: «إذا تلخبطت فعاقبني!» فأصغى الرجل إليه وراح هو يتلو ما حوى الكشف من أوله إلى آخره تلوة المستظهر الحفيظ العليم؛ فاشتدت دهشة العامل، وعجب لقوة ذاكرة الغلام الباكرة ووقدة ذكائه العجيب.
وتسامع أصحاب أبيه بما جرى، فأشاروا عليه بأن يعنى بهذه المخايل الخارقة للمألوف، والمواهب النادرة في الغلمة والأصبية، ناصحين له بأن يدخله إحدى مدارس القاهرة ليتلقى العلم بانتظام، ويبرز ما وهبه الله من ذكاء غريب.
ولقد جرى شيء كذلك في طفولة مازيني زعيم إيطاليا العظيم، ومنشئ وحدتها الحديثة؛ فقد كان في السادسة أو الخامسة من العمر وليدا ذكيا باده المخايل، واتفق أن زار البيت أحد أقرباء أمه، وهو ضابط كبير في المدفعية، فوجده في المهد وقد أحاطت به الكتب؛ فعجب لمشهده على هذه الصورة، وراح يبدي الأثر الذي اعتمل في نفسه من أمره في كتاب بعث به إلى والدته بعد سنتين من ذلك التاريخ، وكانت السنيورة مازيني قد طلبت إليه أن ينصح لها أي أنواع الدراسات يصح أن تسلك فيها وليدها العزيز، فقد قال في كتابه إليها:
ناپیژندل شوی مخ