94

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وكانت والدته سيدة تقية، صالحة، قوامة، صوامة مزكية كما كان والده، إذ كان أفق العشيرة كذلك، جوا طاهرا تسوده العبادة، ويغمره التقى، وتراعى فيه الفرائض، وترفرف عليه أجنحة السكينة والدعة والسلام.

وكانت التقوى في آل النحاس مسموعة عنهم في المدينة من قديم الزمن، والتمسك بالدين أول صفاتهم التي عرفوا بها في المجامع والندوات.

وكان لمصطفى أخ من أبيه وهو المرحوم أحمد النحاس، وخمسة أشقة، قضى كبيرهم - وهو محمد النحاس - نحبه؛ فله اليوم من الإخوة الأستاذ سالم النحاس ومحمود النحاس التاجر، وعبد العزيز النحاس بك كبير المفتشين في وزارة الداخلية، وله أخت وحيدة هي حضرة صاحبة العصمة السيدة زهرة النحاس، وكانت زوجا للمرحوم إبراهيم شوقي بك، نجل المرحوم إبراهيم فوزي بك محافظ القاهرة في إبان الثورة العرابية، وكان قد وكل إليه يومئذ بحماية أرواح الأجانب فلم يرق في الثورة دم واحد منهم، ولم يطل قتيل، فكان ذلك حقيقا بفخار، حريا بأن يسجل له صفحة ناصعة في كتاب الشهامة والوطنية ومنعة الجوار. وقد وجدت هذه السيدة الفاضلة عند شقيقها مصطفى أعز الحنان، وأكبر الحب، وأعطف الرحم، وأندى القربى، كما وجد أبناؤها النجباء - وحيد وإخوته - عند خالهم الأب الراعي، والعميد الحنان البر، والولي الكريم.

وكانت وفاة والد مصطفى في سنة 1920، بعد أن رعى مصطفى ولزمه وحنا عليه إلى سن الأربعين، فلم يغادره يوم آذن الرحيل إلا وهو على طريق المجد مصعد، وفي أول النبوغ الوطني متألق النجم، وفي سبيل الوطن مجاهد يسير إلى ربوة الزعامة بخطى فساح، وقد قضت والدته بعد أبيه بثماني سنين.

في سمنود إذن، ذلك البلد الطيب، ملتقى الحضارتين: حضارة مصر الفرعونية، وحضارة مصر العربية، في تلك الوحدة التي أنشأها التسامح الديني، والسهولة الإسلامية، ووصى بها صاحب الرسالة المحمدية قومه، كما رأيت في خطبة عمرو بن العاص فاتح مصر، بسبيل منازل الربيع فيما تقدم لك في سمنود الممرعة الخصيبة، وعلى شرف من أمواه النيل، ووسط الحقول النضيرة، والمروج المترامية - كان مولد مصطفى النحاس، وذلك في الخامس عشر من شهر يونيو سنة 1879، بل في ذلك الأفق المنزلي الوادع الهادئ الذي ترف عليه السكينة، وتملأه أنفاس التقى والفضيلة، فتح عينيه على ضياء هذه الدنيا وليد من أطيب الأعراق، كتبت له العناية الإلهية أنه سوف يصبح الرجل العظيم الذي يتولى أمر أمة مجاهدة لأشرف ما جاهدت له الأمم في هذا العالم، ويسير بها إلى غايتها شجاعا قويا جلدا على الأحداث حتى يدرك النجاح.

لقد اختارت الطبيعة له أحضانها الحانية ليعتنقها من الطفولة، ويمرح في جنباتها صبيا يرتع في الحقول، ويقفز إلى اليم ليتعلم السباحة، ويذهب عاديا في المروج، ليس عليه خفق الرياح، ولا زفيف الهواء، تحت ضياء الشمس يباكرها في مثل نشاطها، ويودعها عند المغيب.

كذلك جاء مصطفى النحاس من أهل القرى مثل سعد آتيا ليكون المولد صحيا، من قلب الطبيعة التي أرادت به معنى من أكبر معانيها، وهيأته لمقصد من جليل مقاصدها؛ لأن الطبيعة تؤمن على مصنوعاتها، وتتخير لأخيار قوالبها، وتتكفل بإفراغها وانتخاب الظروف المساعدة لإخراجها، وقد أرادت أن يكون مصطفى بالنشأة فلاحا ليناسب الأمة التي سيتولى قيادتها، وأعطته كل مزايا القرويين في سراح الأفق، وسعة المحيط، وقوة التربة، وسلامة المناخ؛ ليدرك من الصفات الخلقية والمنازع النفسية التي تهيئ له السبيل إلى البروز، وتفتح له الطريق إلى التفوق، وتعينه على التمرس بالشدائد، والتجلد للصعاب والمشاق، واحتمال كبار الأعباء والصبر على عظائم الخطوب.

نشأ مصطفى في تلك البيئة الطبيعية لكي تتناسب النشأة مع الحياة العملية التي ترتقبه، إذ كان قد خلق ليكافح ويناضل ويجاهد لكبار الغايات وعليا الأمثلة؛ فاقتضى ذلك كله أن يكون قويا بالفطرة، سليم البناءة من الحداثة، مكتمل الخلق من الطفولة، حتى يظل على السنين شابا مدخر القوى، موفور العافية، لا يحسب عمره بالأعوام، وإنما يحسب شبابه المحفوظ عليه بالجدة الظاهرة، والقوة الزاخرة، والخليقة المكتملة، وصحة البنيان.

وإذا كان قد أخذ ذلك كله عن الطبيعة التي ولد في أحضانها ليظل شبابه باقيا، فقد أخذ كذلك عن البيئة المنزلية التي درج فيها الصفات والنزعات الكفيلة ببقاء شبابه، واستدامة قواه، والاحتفاظ بكيانه، إذ تأثر بمحيطه «العائلي» والتقوى الغامرة للأفق الذي نبت فيه، وورث الاستقامة المكينة من أهله؛ فليس أحفظ للشباب من الاستقامة، ولا أعود من التقوى على سلامة الأبدان.

ولقد رأينا جمهرة الناس في بلادنا يذبلون، ويغيض ماؤهم، وتنفد قواهم، وتخبو حرارة نشاطهم، قبل أن يدركوا الخمسين؛ بل يروحون مع مطالع الكهولة شيوخا مدبرين من إسرافهم على أنفسهم، وحملهم على قواهم في مراكض الشباب، وميادين الشهوات، ومطاوعة إغراءات النفس اللوامة، ومتابعة اللهو، وإركاض أفراس اللذة، والمتع الملحة المستبدة المحطمة للأعصاب.

ناپیژندل شوی مخ