84

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وأنشأ بعد ذلك ينظم الوفد، فجعل له لجنة مركزية في القاهرة، ولجانا فرعية متعددة في عواصم الأقاليم والمراكز والجهات، كما جعل للسيدات لجانا خاصة، وهذه اللجان جميعا بمثابة برلمانات صغرى ووفد محلي ومجامع شورى صغيرة، يتمثل فيها الشعب بكل طبقاته وهيئاته، ويبرز فيها الرأي العام واضحا قويا متماثلا مؤتلفا في غير تخاذل ولا اختلاف.

وهذا هو الذي جعل للوفد قوة ظاهرة في البلاد، وحمل الإنكليز على الاعتراف بأن للوفد نظاما لا يجاريه في العالم نظام، وحتى قال سير فالنتين تشيرول الصحفي السياسي الكبير الذي كتب طويلا في القضية المصرية، حين قارن بين الحركة الوطنية في مصر وبين مثيلتها في تركيا: «إن الأولى تمتاز عن الأخرى بالتنظيم.»

وكان من فضل هذا النظام الدقيق أنه حين اعتقل سعد ورفاقه قامت في البلاد هيئة أخرى من الوفد تحمل علم الجهاد، وتتولى الأمر في غيابه، وتشرف على هذا النظام المكين، وتوجه الروح المعنوي في السبيل الصالحة والطريق القويم ، وحين قبض على أعضاء الوفد «الثاني»، وألقي بهم في غيابة السجون وحوكموا أمام المحكمة العسكرية وحكم عليهم بالإعدام، ثم عدل الحكم اكتفاء بالسجن؛ لم تلبث أن نهضت هيئة أخرى حلت محلها، وتسلمت العلم منها، وأشرفت على حركة الجهاد؛ وكان ذلك كله بترتيب سابق من سعد قبل معتقله، وتنظيم دقيق عين فيه الأشخاص تعيينا، وحدد الأسماء أدق تحديد.

ويكفي هذا للتدليل على أن سعدا أوتي «فن القيادة»، وكان حاذقا لكل أساليب الزعامة الوطنية؛ فإن قوة الرأي العام التي تعهدها سعد من مطالع الثورة ومبادئها وتوفر على تغذيتها، وحشد لها أكبر العناية بها، هي التي سندته في سائر مواقفه حيال السياسة البريطانية، وإزاء الوزارات المصرية التي كانت تصطنع لمحاربته، وتحرش بمقاومته؛ بل هذه القوة الإجماعية البارزة هي التي حملت الإنكليز على التراجع عدة مرات إزاءه، ورده إلى وطنه بعد المنفى في سيشل وجبل طارق؛ فكانت عودته يومئذ انتصارا باهرا له على خصومه واستقبلته البلاد استقبال الأمم للغزاة والفاتحين.

سعد العظيم وهو يخطب ومصطفى النحاس يكتب الخطبة.

وكان من سعد السياسي الذي يعرف كيف يخرج من أحرج المواقف ويعالج أدق المشكلات، ويستعين اللباقة والعبقرية السياسية وفنون القيادة على توجيه الرأي العام في أحكم الاتجاهات - كان من سعد السياسي سعد الخطيب الذي بلغ القمة في خلابة المنطق وبلاغة التأثير وسحر البيان، ذلك الخطيب الذي أنشأته الطبيعة من الشباب، فأقامته في الأزهر يستمكن من اللغة، ثم عطفت به على ميدان المحاماة ليبرز استمكانه فيها، ويتدرب على سحر الخطابة وبواعثها وأفانينها، قد عاد في قيادة الشعب وزعامة الأمة يجد في الخطابة بعض أدوات تأثيره، ومظاهر سلطانه على النفوس واختلابه للألباب.

وقد عد سعد بحق من أكبر خطباء العالم في العصر الحديث، وقرنوه بلويد جورج وبريان ودي فاليرا وجوزف تشمبرلين وكثير غيرهم من الطراز ذاته، ولكنا نعتقد أن سعدا يفضلهم جميعا، ويجب أن يوضع على حدته؛ لأن عبقريته كخطيب لا تقف عند جلال حركاته وقوة بيانه وبلاغة عباراته، ولكنها تتجاوز ذلك كله إلى سحر شخصيته، وإلى فهمه الظروف ، ونفسية الجماهير، ومواطن التأثير، ومستدق الخوالج، والدبيب إلى أعماق الشعور.

لقد كانت كلمات سعد دستورا للوطنية، وخططا للجهاد، وأساليب للكفاح، ووسائل دفاع وهجوم؛ إذا قال أصغت أمة بأسرها، وأنصتت بريطانيا وإمبراطوريتها، واستمع العالم بجملته.

وهو في ذلك كله ينماز عن الخطباء الآخرين من الساسة الكبار في الغرب؛ لأن هؤلاء إنما يخطبون في شئون سياسية أو استعمارية، ويرمون إلى أغراض خفية أو مقاصد يحبكها الدهاء والمكر السياسي، على حين يخطب سعد عن شعور ثجاج وإحساس مستفيض نباع، وخلجات نفس متقدة جياشة متسعرة؛ لأنه يتوجه بالكلام إلى مشاعر الجماهير، ويدق أوتارها الحساسة، وينفذ إلى مساربها الخفية، ويستمكن منها كل استمكان.

وكان سعد على قوة غير مألوفة في الجلد على الخطابة، حتى ليمكث الساعات الطوال، ولقد اعتمد سعد على هذه المقدرة الخارقة للعادة في مكافحة الوفد الرسمي الذي ذهب للمفاوضات الأولى برياسة المرحوم عدلي باشا. وكانت صحف سعد قد حوربت جميعا، وبات ولم يكن له صحيفة ولا لسان حال، فكان يخطب الوفود تلو الوفود من الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء في غير كلال ولا تبرم ولا إعياء.

ناپیژندل شوی مخ