83

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وكان ذلك في 7 أبريل سنة 1919، فكان يوم فرح عام وابتهاج عظيم، قامت فيه المظاهرات الهاتفة الداوية، وانتظمت جماعات وحشودا حاشدة، وساهم فيها الرجال والنساء وكافة الطبقات، حتى لقد كانت العين تشهد خلال تلك المواكب المستطيلة الجرارة الحافلة عالما أزهريا يأخذ بيد قسيس، وقسيسا يعتنق شيخا، ورجلا يصافح شابا، والولدان من حول المواكب حافون، والبلاد كلها تموج من فرط الفرح وهجمة السرور.

ومن ذلك اليوم انتقل سعد من دور البطولة المنتظرة إلى دور العبقرية السياسية، والزعامة الوطنية، وقيادة الرأي العام.

وفي هذا الدور الخطير من حياة سعد تتجلى مقدرته، وتبرز شخصيته، وتتمثل عظمته، وكأن تلك الاستجابة له من الأمة والتفافها حوله وتفانيها فيه قد أنسته تقدم عمره، وضعف شيخوخته؛ بل أحالته شابا متجددا قويا فياض الحس بالحماسة والحمية والنشاط، فقد ذهب يجاهد ويكافح، ويتحمل من المتاعب والأذى ما لم يكن منتظرا من شيخ في مثل سنه أن يتحمله، وراح يجالد ويصطبر للبلاء كشاب في ميعة الشباب، وعنفوان الأعصاب، وقوة الحياة.

لقد برز سعد بعد سنة 1919 في دور الزعيم السياسي، حيال إنجلترا التي اشتهرت بالمكر والدهاء وبراعة السياسة، فاستطاع أن يحاربها بمثل سلاحها، ويكافحها بأشباه أساليبها، وكانت كلما أوشكت أن تنهزم في الميدان السياسي تعمد إلى مجرد القوة، وتلجأ إلى محض الغشم؛ فتقبض عليه وتنفيه، وتبعده من الأرض وتقصيه، حتى لقد ذهبت به إلى جزيرة نائية في المحيط غير مراعية أي اعتبار لشيخوخته، ولا حافلة تقدم سنه، ولا آبهة بأنه رجل متزوج تنزعه من أحضان زوجه وشريكته؛ فكان يسخر من هذه السياسة اليائسة، ويتهكم بهذه القوة الغاشمة، ويقول باسما بسمة الازدراء: «لتفعل القوة بنا ما تشاء!»

وعادت تنقله إلى جبل طارق وهي لا تدري ماذا تصنع به؛ فقد أحارها سعد في أمرها، وأفسد عليها كل سياستها ومكرها، وأحبط تجاريبها جميعا واختباراتها، فإن شخصيته كانت بعض أسلحته، وقوة حب المصريين له درعه المسردة وبعض خطوط دفاعه الحصين المكين، وبالشخصية الجليلة والحب الصادق العام، أوجد سعد من أشتات الناس أمة متحدة، وأقام رأيا عاما، وألف للدفاع كيانا ونظاما، وكانت هذه كلها قوة معنوية استطاع سعد بعبقريته أن يجعلها في كفه يقودها حيث يشاء، ويتصرف بها كيف يريد.

ومنذ كان سعد في الجمعية التشريعية وكيلا عن الأمة، وهو في دفاعه عن سلطتها، وتمثيله لإرادتها، يرتكز على الشعور الذي كان يكتسبه خارج جدران الجمعية وأسوارها بترديد صوته، وتأييد مواقفه؛ فكان ذلك هو النواة التي أنبتت فيما بعد وعلى مهاب الثورة، الرأي العام.

وكان من فضل الثورة أنها بظهور سعد أحالت هذا الرأي قويا ملموسا واضحا بارزا، وبعد أن كانت أجزاؤه مختلفة منقسمة بسبب الدين، ومخافة الأقلية من الأكثرية، راح سعد يوحد بين العناصر، ويؤلف بين القلوب، وينسيها العصبية الدينية، ويجعلها تقبل العصبية الوطنية، ويتجه بوحدتها الجديدة تحت ظل الهلال متفقا مع الصليب، نحو الدستور والاستقلال.

ويكفي أن يكون سعد مؤلف هذه الوحدة بعد أن كان الإنكليز يظنون أن الخلاف الديني معوان لهم على نجاح سياستهم وتثبيت أقدامهم، يكفي أن يكون هذا التآلف الروحي في ظل الوطن من عمل سعد وسحر شخصيته؛ ليكون شهادة بأنه كان رجلا سياسيا نادرا، وزعيما عبقريا من أروع طراز؛ فقد أوجه بهذه الوحدة الروحية الوطنية صخرة النجاة، وخلع على النهضة المصرية لونا من أبهى الألوان، وأبرزها في منعة وأمان من كل خطر، وترك للقضية الوطنية تراثا فخما تشعر الأجيال بأن أول واجبها هو الحرص عليه؛ لأنه الحصانة الدائمة من كل شر وبلاء.

سعد في تفكيره العميق.

وقد ظهر سعد في الثورة حكيما، بعيد مطارح البصر، وقائدا وطنيا غزير الموارد، قوي السلطان، ملهم الروح، سديد الرأي، صائب الفكر؛ لأنه لم يقف عند إيجاد رأي عام، بل ذهب ينظمه أحكم تنظيم، فبدأ قبله معتقله في مالطة يحصل على تواقيع الأفراد على توكيله عن الأمة في السعي إلى استقلالها التام، فاستطاع سعد بذلك أن يجابه كل معترض، ويواجه كل خصم مكابر، ويثبت أنه وكيل الأمة المعبر عن مشيئتها، المتحدث باسمها، الناطق عن إرادتها ورغبتها الصادقة.

ناپیژندل شوی مخ