مصطفى النحاس

عباس حافظ d. 1378 AH
79

مصطفى النحاس

مصطفى النحاس

ژانرونه

وكذلك انتهى يومئذ دور الأزهري الكاتب، والأزهري الوزير، والخطيب السياسي، ليبتدئ دور الزعيم، قائد الثورة، وحامل لواء النهضة، ووكيل الأمة، والمتحدث باسم الشعب بعد أن تمهد الأقدار له الحوادث، وتسوق له السياق، وتفسح الميدان لظهوره.

زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس

حين نشبت الحرب العظمى في أغسطس سنة 1914، كانت وزارة رشدي باشا قائمة بالأمر، وكان الخديو غائبا في الأستانة، فارتبكت البلاد، واضطربت الحكومة، إذ حالت إنجلترا بين الخديو وبين المآب إلى مصر، لصلته بتركيا المحالفة لألمانيا، ولم تلبث إنجلترا أن فرضت الحماية على البلاد، وغيرت الخديوية، فأبدلت بها سلطنة، وعين الأمير حسين كامل سلطانا، وبقيت وزارة رشدي تتولى الأمر في تلك الفترة العصيبة، وراحت السلطة العسكرية البريطانية تعتقل خلقا كثيرا من مختلفي الطبقات اشتهروا بالحماسة لبلادهم، وعرفوا بنزعاتهم الوطنية فملأت بهم المنافي والمحابس والسجون.

وفي وسط تلك الزوبعة الهوجاء كان رجل عظيم يعيش في أكناف العزلة، مخلدا إلى الوحدة، وهو مع ذلك يتحرق لبلاده، ويترقب السانحة للوثوب، وإن رجلا كسعد عاش طوال عمره على الدأب والجهاد لم يكن بلا ريب يستطيع أن يدع نفسه بلا عمل، أو يسكن إلى الفراغ؛ لأنه من معدن حساس لا يجلد على برودة السكون، ولا يعيش في ظلال العزلة فارغا.

فلا عجب إذا رأينا ذلك الرجل العظيم الذي شهده الناس في المرحلة الرابعة من عمره يجلس إلى درس اللغة الفرنسية، ويتوفر على تفهم أسرارها ودقائقها، قد عاد وهو في الخامسة والخمسين يمسك بالكتاب متهجيا في لغة جديدة لم يكن له بها عهد، وهي اللغة الألمانية؛ لكي ينقذ ذهنه الكبير من ألم العزلة وصدأة الفراغ، ولكي يعرف طرفا من لغة ذلك الشعب الجبار الذي راح يومئذ يقذف بالعالم كله في شعلة نار عظيمة أحرقت جميع نشاط الدنيا، وهدمت الحضارات، وجاءت بأفكار جديدة، ودفعت آخر مراحلها برجل عظيم يحلم بالأمثلة العليا، وهو «ويلسون»، ويحمل رسالة جديدة إلى العالم، صائحا مناديا الإنسانية إلى مبادئ سامية تدعو إلى إنقاذ الشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها من ربقة الاستعباد وتقرير مصيرها واستعادة حريتها الضائعة، وإن كان قد خدع عند التنفيذ، واستغلت مبادئه أسوأ الاستغلال، وجاء التطبيق مصطنعا ملفقا.

وحين وقفت رحى القتال، وخمدت نار الحرب، وتهادن الأعداء في سنة 1918؛ أدرك سعد الذي أوى إلى العزلة ولبث في الوحدة طويلا، أن الفرصة قد حانت، وكان منها على مرتقب، وأن السانحة قد سنحت، وكان لسنوحها بالمرصاد.

لقد أحس سعد يومئذ أن أمته التي أكرهت على دخول الحرب في صفوف الحلفاء إكراها، وأجبرت على المساهمة فيها حتى ضد تركيا المسلمة إجبارا، واستمعت إلى نداء الحلفاء بأنهم إنما يحاربون للحق والعدل والإنسانية وإنقاذ الحضارة ... لقد أحس سعد يومئذ أن أمته التي استنزفت خيراتها، واستنفدت مواردها وأقواتها وأنعامها وبهمها وغلاتها، وسيق شبابها ورجالها وعمالها إلى ميادين القتال وسوح المجزرة، واصطبرت على الألم طيلة السنين، وعانت أشد البلاء متجلدة متحملة - قد حان أن تظفر بأمانيها القومية، وتشترك مع الشعوب المطالبة بالاستقلال والحرية، وتستمتع بجزاء ما أبلت في الحرب وميادينها الرهيبة.

أحس سعد ذلك كله، يوم التنادي إلى الهدنة، فجعل يضع المذكرات والتقارير، ويجمع إليه الأعوان والأنصار، واستقر رأي القوم بعد البحث والمشاورة على أن يتألف منهم «وفد» يحضر مؤتمر السلام نائبا عن الأمة، ومكافحا لقضية مصر أمام الإنسانية المنتصرة الظافرة، وطاف الجمع بالشعب في المدائن والريف يجمعون التواقيع ليعطوا الوفد قوة التوكيل عن البلاد.

وفي الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة 1918 بدأ الجهاد الوطني، وظهرت بوادر الثورة، عقب ذهاب سعد مع بعض رفقائه إلى دار الوكالة البريطانية للقاء «المعتمد»، وكان يومئذ رجلا عسكريا، وهو سير ونجت باشا، وطلب السماح لهم بالسفر إلى أوروبا لحضور المؤتمر، والذود عن قضية مصر في الخارج؛ فرفض المعتمد طلب «الوفد» تعنتا وإصرارا.

لقد كان ذلك الرفض بداية نشوب الثورة أو سببها المباشر، إذ كانت في الواقع من حيث معانيها تعبيرا عن ألم وبيانا لأمل؛ فقد احتمل المصريون فواجع الحرب وتكاليفها، وخاضوا أهوالها وحتوفها مكبوتي النفوس، مكبوحي الغرائز، مسلوبي الإرادة؛ فلما انتهت ولم يجدوا تعويضا عن ذلك الألم، جاءت الثورة لتكون تعبيرا بليغا في تأدية معناه، كما أتى الأمل شرحا لمبلغه ومداه ومرماه. واحتاجت الأمة في أملها إلى تجسيم هذا التعبير عنها، فكان سعد هو «الرمز» القومي له، والفرد الأوحد الذي يتمثل الشعور العام فيه، وتتحد كل العناصر في ظهوره، وترتسم كل الأماني في بلاغة منطقه، وروعة صدقه، وجذوة وجدانه، وسحر بيانه، وتتصور في مناسبته للمعنى الجليل الذي دل عليه، والغرض السامي البارز منه؛ فكانت مصر الوطنية ماثلة في سعد الوطني بكل روعة الرمز، وجلال الصورة، وجمال المثال.

ناپیژندل شوی مخ