لقد كان سعد يومئذ شجاعا جديدا، إذ كان العصر كله يومئذ في ناحية الوظائف والموظفين، عصر استسلام وتهيب، وعهد مصانعة ومخافة من السلطة غير الشرعية التي يخشى الاستهداف لغضبها، وتعتقد السلامة في تحامي خطرها، واجتناب التعرض لما تملك من نقمة وعقاب.
وكان سعد يومئذ في الشجاعة جديدا أيضا إزاء السلطان الشرعي في البلاد، إذا اقتنع بفكرة فلا يبالي في تنفيذها أحدا، حتى لقد وقفت شجاعته هذه بجانبه في ذات مرة إزاء الخديو، وكان هذا قد أراد رفض مشروع من مشروعات سعد بشأن الإصلاح في جلسة من جلسات مجلس الوزراء، فلم يمتثل سعد ولم يتهيب الاعتراض، ولم يطق صبرا على هذا الموقف من جانب سموه، فضرب المنضدة بيده مغضبا محتجا وهو يقول: «أنا الوزير المسئول، فلا بد من إقرار مشروعي.»
وقد بهت الوزراء في المجلس، واستولت الدهشة عليهم إذ نكروا هذه الجرأة من سعد، ولكن سعدا لم يألف إيلافهم، ولم يكن ليخنع خنوعهم، ولا عرف الاستسلام معرفتهم، ولم يكن ليسكن إلى المواربة، أو يلقي بالا إلى المجاملة في الحق، حتى لقد وقف في جمعية الاقتصاد والتشريع إزاء «سير برونيات» - وكان يتقلد منصب المستشار القضائي في ذلك الحين - موقفا رفيعا جليلا، يدل على هذه الشجاعة الصادقة التي كانت أبدا مظهرا من مظاهر شخصيته الساحرة البارزة، فقد قدم سير برونيات يومئذ مشروعا بتعديل قانون العقوبات، ودعا كبار الأساتذة والمحامين ليقولوا رأيهم فيه، فلم يكن من سعد إلا أن بادره قائلا: «من الذي وكلكم عن الأمة المصرية لتسنوا لها القوانين، ومن حقها هي وحدها سن القوانين بنفسها؟» فكانت تلك مجابهة قوية تستحق الاحترام والإعجاب.
كذلك كان إعداد المقادير لسعد قبل الثورة: جاءت به من الأزهر صحن الثورة وميدانها، ثم ثنت به على القضاء فكان قاضيا ثائرا على كل ما يمس استقلال القضاء ونزاهته، ثم عطفت به على الوظائف فانتهى إلى مركز الوزارة ليختبر مساوي الاحتلال من قرب، ويجرب عيوبه وجناياته تجربة خبير، بل ليشترك أيضا في تلك العيوب حينا والجنايات بنفسية الموظف أو الممثل القائم بدوره فوق المسرح، لا بنفسية المتفرج المشاهد الذي تبدو له المعايب أوضح وأبرز مما تبدو للممثلين، حتى إذا حان الوقت لمحاربة تلك المساوئ ومقاومة تلك المفاسد، تحدث عنها حديث الملامس لها، البصير بها، المدرك لجميع نواحيها، النادم على ما كان قد ند منه فيها وأخطأ فيه مرمى الصواب.
وبقي لاستكمال استعداده للغد القادم شيء آخر، وهو أن ينتقل من تجربة براعته الخطابية كمحام بصدد قضايا الأفراد، إلى تجربتها كخطيب سياسي بصدد قضايا المجاميع.
وكان قد غادر الوزارة في سنة 1913، وهو العام الذي وضعت الحكومة فيه مجلسا تشريعيا هيكليا، لا تتجاوز سلطته حد الاستشارة غير الملزمة، فوقف سعد حيال ذلك المشروع وقفة المحتج المستنكر، ونظر إليه نظرة الغاضب الساخر، ولكنه مع ذلك لم يستطع التحول عنه، وفتحت «الجمعية التشريعية» - كما سمي يومئذ ذلك المجلس - واشترك سعد في عضويتها منتخبا عن الأمة وهو لا يزال نافرا غير راض عنها؛ لأن القانون الذي سن لها لم يكن سوى «مسخ» بالنسبة للدستور، وراح سعد في البداية عند انتخاب الوكيلين وتحديد أيهما يصح له رياسة الجلسة في غياب الرئيس، ينادي جهير الصوت رفيع الغضب بأن الوكيل المنتخب من جانب الأمة ينبغي أن يكون المقدم عن الوكيل المعين من جانب الحكومة؛ لأن إرادة الأمة مقدمة فوق إرادة الحكومة، وسلطان الأمة فوق كل سلطان.
وعلى ضآلة الجمعية التشريعية وصورية وجودها وفرط القيود المحدودة بها، كان صوت سعد يدوي في جنباتها، وكان منطق سعد يقد الباطل بفأسه قدا، وكأنما هيأت الأقدار لسعد ذلك المجلس الابتدائي كمجال تحضيري يجرب فيه براعته المعجزة كخطيب، ويختبر مبالغ برلمانيته كممثل للأمة، ويدرب ذلاقة لسانه، وحر وجدانه، وقوة يقينه بحق الأمة وإيمانه، على مطالب الغد القادم، والغيب الوشيك الظهور.
في الجمعية التشريعية استكمل سعد كل معدات البطل المنتظر، واستوفى سعد سائر لوازم القائد الثائر، وإن له في جلساتها لكلمات جرت مجاري الأمثال، وآيات نواطق عن بطل الأبطال، وعبارات بلغت الذروة من الحكمة السياسية وقمة البلاغة والبيان.
لقد نضجت مشاعر سعد ومزاياه العقلية وجبروت ذهنه وزئبقية إحساسه، وجياش عاطفته، فأثمرت جميعا ذلك الخطيب النادر الذي يهز القلوب من الأعماق، وينزل صوته الساحر المرنان إلى أغوار الشعور، ويثير في النفوس أبلغ الحماسة، وأشد لهب الحمية، ووقدة الوطنية، وأعلى حرارة الإيمان.
لقد مثل أمام الناس في الجمعية التشريعية الخطيب المتمكن، النفاذ المعجز، الفاتن الحركات والإشارات، المطاوع صوته لخلجات شعوره وأدائه وتعبيره، المتفق جرسه صعودا وهبوطا وحنينا وترجيعا وتدوية وجلجلة وتدويما، نبضات قلبه، وجلال وقفته، وروعة شخصيته، وموضوع خطبته؛ حتى لو أن أجنبيا حضر سعدا وهو يخطب ولم يكن بلغته ملما، لتأثر بسماعه، كأنه المدرك لما يسمعه، وهذا هو نهاية ما تسمو إليه الخطابة وعبقريتها الساحرة ونغمها الرفيع، فكأنما هي عند سعد قد استحالت مقطعات موسيقية ينشجي بها كل إنسان، وترهف لها الأسماع والآذان، وتتحرك لها المشاعر الوجدان.
ناپیژندل شوی مخ