إن نقاء الذمة يثير الاحترام ويكسب الإعجاب ويوجد الأنصار والمشايعين، ولقد مشى لنكولن على قدميه ستة أميال بعد جهد النهار ومتاعبه ليرد بضعة دراهم إلى سيدة اشترت شيئا من المتجر الذي كان يعمل فيه، فتقاضاها خطأ أكثر مما يجب أن تدفعه. وقد اشتهر لنكولن وهو محام بأنه لا يقبل المرافعة في غير القضايا الصالحة، حتى قيل عنه في القضايا الحسنة: يعد لنكولن أحسن محام في أمريكا كلها، وفي القضايا السيئة يعد «دوجلاس» أكبر المحامين فيها على الإطلاق، ولا عجب في أن رجلا مخلصا نقي الذمة كإبراهام لنكولن ليس في وسعه أن يضع كل قلبه في الدفاع عن الشر والباطل، بل لو فعل لكشف عن حقيقة القضية من عجزه عن الإقناع، وقد سئل يوما أن يدافع عن متهم كان مقتنعا بإدانته، فقال: إن الرجل مدان وأنتم تستطيعون الدفاع عنه، ولكن أنا لا أستطيع؛ إذ لو حاولت أن أتكلم فإن المحلفين المستمعين لي سوف يرون أنني أعتقد إدانته فيدينونه. ولا غرو، فإن النزاهة الصحيحة أو الذمة النقية لا تعرف الخداع ولا تجيد المداجاة، وإن الزعامة الصالحة الناجحة الموفقة لا يمكن أن تبنى على التستر والغش والدهان.
إن أرفع مستوى الإخلاص والأمانة والصدق إنما يكسب الاحترام؛ لأنه لا يرتضي تسامحا ولا تساهلا ولا مصانعة إذا ما كان في شيء من ذلك أقل مساس بالمبادئ، ولأن الأمانة لا يمكن أن تبيع نفسها، وهي كذلك لا تضحي بالحاضر من أجل مغنم قابل أو لكسب محتمل، فقد كتب إلى لنكولن في سنة 1860 صديق له يقول: إن أصوات طائفة من النواب يمكن ضمانها إذا نحن وعدنا زعيمهم أو رئيسهم تقلد منصب وزير المالية، فلم يكن من لنكولن إلا أن بعث إليه بكتاب يقول فيه: أنا لا أرتضي مساومات ولا أتقيد بها، فلا تعط وعودا كهذه ولا تصارح بأدنى ارتباطات ...
إن الشخصية القوية الكفيلة باكتساب الحب والاحترام والتفاف الناس حولها ليست جافة ولا صلبة ولا خشنة العاطفة، بل هي الشخصية الحنون العطوف الجاذبة، هي الشخصية التي تعرف هموم الناس ومتاعبهم وخيباتهم وهزائمهم، وهي الشخصية التي تشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، وتشاطرهم سراءهم وضراءهم، بل هي التي تمد يدها فتأخذ بأيديهم، وتتقدم إليهم فترفعهم فوق نفوسهم، وتعينهم على السخرية من المكاره والخطوب.
على أن هذه العاطفة في نفس الزعيم ليست مشابهة لمثلها في نفوس السواد من الناس، ولكنها عاطفة متزنة رزينة لا تسرف على نفسها، فتتشابه والحساسية اللينة المتمادية المتجاوزة الحدود؛ لأن العطف المنظم الذي يتوخى صلاح الذين يبدى لهم في المحن ويظهر لهم في الكوارث وعند مس الحاجة، هو العطف المشاهد في الزعامة، المشهود له المعترف به عند أنصارها والمشايعين.
ويجب إذن أن يكون اشتراك الزعيم مع الناس في شعورهم منظما مشدود الأعنة، مكبوح الجماح، وإلا فسد ولم يحدث الأثر المطلوب، كما أن العطف لا يكون تمثيلا ولا رئاء الناس، إلا إذا كان من جانب زعامة غير صحيحة ولا صادقة المنبعث ولا قوية التكوين.
ومن صفات الزعامة الرشيدة الصالحة، الجنوح إلى الاختلاط بأنصارها وتفقد أحوالهم والتماس معرفة شئونهم وحاجاتهم، والرفق بالصغار قبل العناية بالكبار منهم؛ لأن ذلك يكسب قلوبهم، ويؤثر في نفوسهم أبلغ الأثر، فإن الناس يودون أن يفعلوا أو يكونوا، كما يعتقدون أن الزعيم الذي يعنى بهم ويشترك في العاطفة معهم يريدهم أن يفعلوا ويكونوا، فإن هذا يهيئ لهم إحساسا يعيشون به، وينمي في نفوسهم العاطفة التي تقبل عليه، ويعين أمامهم ما يراد منهم، ويبصرهم بما هو منهم مرتقب وفيهم منشود، وإنهم ليشعرون بالاغتباط والفرح إذا هم انطلقوا يحققون آمال الزعيم فيهم، ورغباته إليهم، بل يومئذ يشعر الناس بأن هناك حاجة إليهم، وأنهم مطلوبون، ولهم قيمة وفيهم رجاء وأمل وخير مرقوب.
ومن أخص مميزات الزعامة ولاؤها لمبادئها ووقوفها بجانب عقائدها متأبية الانحراف عنها ولو قليلا، مهما كلفها ذلك من جسامة التضحية أو تقاضاها من بالغ المقاومة والمجالدة والجهاد.
ويروى عن صمويل جومبرز أنه وقف في وجه الرئيس تافت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقفة رجل مخلص لمبادئه محارب لها، لا يرتضي أن يزحزح عنها قيد أنملة، فقد قال له يوما الرئيس تافت: إذا أنت حذفت المادة كذا من مشروع القانون المقدم منك إلى المجلس، فلست أمانع في إقراره، فكان جوابه: ليس في وسعي أن أفعل ذلك أيها الرئيس، ولا في رغبتي أن أقوم به، بل أرى من الضروري حتما أن تبقى تلك المادة حيث هي لا يمسها شيء، فسكت الرئيس تافت لحظة كأنما يفكر، وراح يقول: حسنا، أحسب الموقف وقد وصل إلى هذا الحد يضطرني إلى توقيع هذا المشروع.
وقد جعل الولاء للمبادئ أو الثبات على الفكرة التي هي موضع الإيمان عند صاحبها واليقين، هنريك إبسن، رجلا عظيم القدر خالد الذكر في العالم، وهو القائل: أعظم الرجال شأنا هو من يقف وحده بجانب عقيدته.
وقال ودرو ويلسون في بعض خطبه وهو يواجه خصومه وأنصاره على السواء: لكم إذا شئتم أن ترفضوا هذا الذي أعرضه عليكم، بل في وسعكم أن تمتنعوا عن متابعتي وترفضوا المسير في إثري، وفي استطاعتكم أيضا أن تقيلوني من عملي، وتنزعوني من منصبي وتنفضوا من حولي، ولكن ليس في وسعكم ولا مقدوركم ولا مستطاعكم أن تحرموني من قوتي وتجردوني من سلطاني ما دمت الثابت الصامد الواقف بجانب ما أراه حقا وعدلا، وفي صالح الشعب وخير المجموع.
ناپیژندل شوی مخ