الشخصية البارزة وصفاتها ومختلف مظاهرها
الشخصية هي مجموعة أخلاق الإنسان في نظام مستكمل، وكل مجتمع، ووحدة مؤتلفة. وقد يكون المرء - من حيث المعاني النفسية «البسيكولوجية» للشخصية - قويا أو ضعيفا؛ أما الفرد ذو الشخصية الضعيفة فهو الذي لا يعرف ذهنه، ويجهل اتجاه نفسه، وتكون الأخلاق الشخصية فيه مفككة منحلة واهية الروابط والصلات، مضطربة في غير تواصل ولا نظام، ومثل هذا لا تتاح له يوما فرص الزعامة؛ أما الفرد صاحب الشخصية القوية فهو الذي يحس دافعا عظيما، وحافزا قويا في أعماقه، بل هو الذي يعرف ماذا يريد، ويدرك ماذا هو طالب، ويتبين كيف هو محققه، وهو الذي لا يتردد ولا يتوانى ولا يتراجع إذا أراد شيئا وابتغى أمرا؛ لأن كل صفاته الشخصية مجتمعة معا منظمة، حسنة السياق مؤتلفة الترتيب.
ومن ناحية المعاني النفسية على هذا القياس قد يكون المجرم صاحب شخصية قوية، فترفعه شخصيته إلى مرتبة «زعيم عصابة»؛ وذلك لأن دافعه الرهيب لا يلبث أن يجمع إليه أتباعا، ويجتذب نحوه أنصارا ومشايعين، ولكنه إنما يقودهم إلى الجريمة، ويسير بهم إلى السوء، ولئن كان على طريق الخطيئة أو شريرا بتفكيره وانبعاثه، فهو مع ذلك يقتضيهم الاحترام له ومهابته والإعجاب به، بل قد يرتفع إعجابهم بالزعيم لقوة شخصيته إلى حد العبادة والإيمان العظيم.
ومن الناحية الاجتماعية تعد الشخصية هي مجموعة الأخلاق الفردية من جهة القيمة الاجتماعية، فقد يكون الفرد صاحب شخصية نبيلة خيرة، أو أخا شخصية شريرة سيئة، فمن أوتي الشخصية الشريرة هاجم القيم الاجتماعية، ومن أوتي شخصية طيبة بنى قيما اجتماعية جديدة، وأتى فيها بحديث وطريف.
ومن ثم تنشئ الشخصية القوية فرصا للزعامة، وتمهد لها أحسن تمهيد، وتقوم بمثابة لازمة من لوازمها المتعددة؛ لأن هذه الشخصية هي التي تضع الحجر الأساسي في بناء الزعامة الاجتماعية المنشئة المصلحة، فإذا ما اجتمعت الطبيعة والقوة الشخصية لزعيم كانت زعامته باجتماعها موفورة مستكملة تامة البنيان.
ولا ريب في أن جوهر الشخصية كأحد عوامل الزعامة وأفاعيل تكوينها هو الإخلاص؛ إذ هو الأمانة والصدق، وأنت إذ تصف رجلا بأنه امرؤ يحفظ كلمته؛ إنما تمدحه بأنه المطمأن إليه، الموثوق به. ومن أجمل الصفات أن يقال عن امرئ إنه الوفي الواضح كالنهار.
الصدق أو الإخلاص أو الأمانة هي أن المرء لا يمكن أن يظهر بغير ما يبطن، أو يبدو على غير حقيقته، أو يتراءى بأنه يعرف أكثر مما هو في الواقع عارف، بل هي أن المرء يلقي بنفسه وبكل قلبه وشعوره وحقيقته في عمله ومسلكه ومظهره، وفي ذلك يقول هنريك إبسن: كن كما أنت بكل نفسك ولا تكن باديا من ناحية واحدة، أو من أجزاء متفرقة.
على أن الفرد الذي يصبح زعيما اجتماعيا لا يلبث أن يجد نفسه أمام مسألة تطلب الحل، وهي إلى أي مدى يصح له أن يركن إلى أنصاره، ويطمئن إلى أشياعه والتابعين له، وهل يجوز له أن يصارحهم بكل نقائصهم وعيوبهم وهناتهم فيغضبهم وينفرهم ويفضهم من حوله، بل يخلق منهم بالصراحة خصوما له وحاقدين؟ أم ينبغي له أن يكون «دبلوماسيا» على حد التعبير الجديد، وأن يكون الفرد دبلوماسيا معناه أن يعمل بروح المتهرب من الحقائق، المتحاشي لمواجهتها، المتطامن للأكاذيب في بعض الأحايين.
إن الركون إلى الأنصار يوجب الصراحة، وينطوي على خطر التنفير والإغضاب، ولكن الزعامة القوية هي التي لا تخشى هذا الخطر، وتعرف كيف ترتفع فوق الدبلوماسية وتسمو على صفات السياسة؛ لأن من يصانع مرة لا يلبث أن يجد نفسه مصانعا في أمور كثيرة، وذلك من شأنه أن يذهب بالهيبة، ويجرد الزعامة من قداستها بين الناس.
لقد كان إخلاص إبراهام لنكولن وصدقه وصراحته العوامل التي حببته إلى الملايين، فكانت كلماته خلية من المظاهر إذا هو تكلم، نقية من شوائب المواربة أو المداجاة إذا هو تحدث إلى الناس، وكان مسلكه حيال الجماهير يوحي الأمانة، ويحملهم على التصديق والاقتناع والإيمان، حتى لقد سمي «آب ... الأمين»، وقد وصفه أحد الذين سمعوه وهو يخطب الجماعات فقال: لقد كانت قطرات العرق تسيل من جبينه إذا هو اهتز وتمايل مع نغمات خطابه وتيارات فكره، ولم يكن يخطب بلسانه وحده، ولكن بكل قطرة من دمه المتدفق في كيانه، حتى لقد كان كل سامع في الحشد المجتمع يحس أنه معتقد صحة كل كلمة تخرج من بين شفتيه، وأنه كمارتن لوثر ليفضل أن يذهب إلى المشنقة على أن يمحو حرفا واحدا منها ...!
ناپیژندل شوی مخ