تدور عليها القصيدة، وظاهر ان القضية ليست تعني الشاعر وحده، ولا الممدوح وحده، وإنما هي تعني قوما من الناس نحس أن الشاعر عظيم الاعتزاز بهم، عميق الثقة بسلامة قضيتهم التي تتحدث عنها القصيدة، ونجد في ذلك حرارة لا تكون في الشعر عادة الا أن تكون هنا مشاركة وجدانية بين الموضوع والشاعر:
وردوا إليك الرسل، والصلح ممكن وقالوا على غير القتال سلام فلا قول الا الضرب والطعن عندنا ولا رسل الا ذابل وحسام فان عدت، فالمجروح توسى جراحه، وان لم تعد متنا ونحن كرام فلسنا وان كان البقاء محببا - بأول من أخنى عليه حمام (1) وحب الفتى طول الحياة يذله وان كان فيه نخوة وعرام وكل يريد العيش، والعيش حتفه ويستعذب اللذات وهي سمام (2) فلما تجلى الأمر، قالوا تمنيا: ألا ليت أنا في التراب رمام وراموا التي كانت لهم وإليهم وقد صعبت حال وعز مرام وإذا كانت المصادر التي نرجع إليها الآن في سيرة أبي العلاء لا تلقي ضوءا على موضوع هذه القصيدة أو على صاحبها الذي يخاطبه فيها أبو العلاء، برغم الجهد الذي بذلناه في استنطاق الحوادث التي عاصرها الشاعر قبل رحلته إلى بغداد وبعد هذه الرحلة، وفي مقارنة روح القصيدة ومضامينها بتلك الحوادث نقول: إذا كانت المصادر لا توضح لنا شيئا يطمئن إليه الباحث بهذا الشأن، فإننا نميل إلى الحدس - الحدس وحسب - بأن أبا العلاء أنشأ هذه القصيدة خلال البرهة التي كانت الحرب فيها سجالا بين الفاطميين والبيزنطيين في بلاد الشام، وذلك قبل ان يرحل أبو العلاء إلى بغداد، وحين كان في المرحلة الأولى من حياته، مرحلة الشباب.
وهذا الحدس، إذا دعمه دليل أو شاهد تاريخي مقبول، إنما يوجه هذه القصيدة لأن يكون صاحبها الذي قيلت فيه واحدا من قادة الجيوش الفاطمية التي حاربت البيزنطيين في بلاد الشام نحو أربع سنوات، كما مر، فإذا استطعنا أن نطمئن إلى هذا التوجيه، وضعنا دليلا جديدا بيد الباحث الكبير مارون عبود على صحة رأيه بأن أبا العلاء كان فاطمي المذهب.
غير أن هذه النتيجة، إذا أمكن الوصول إليها من الوجهة التاريخية بالأقل، لا تمنع ان تظل القصيدة هذه ذات وجه عربي تتلامع فيه من أبي العلاء ملامح الاعتزاز بعروبته والانتخاء لكرامة قومه وعزتهم.
وقد تزيد هذه الملامح تألقا حين نطوف مرة أخرى في أشعار " سقط الزند " فإذا أبو العلاء يستوقفنا أيضا عند هذه القصيدة التي مطلعها:
إليك تناهى كل فخر وسؤدد فأبل الليالي والأنام وجدد ولكنه يبهم علينا الأمر هنا كذلك، فلا يزيد في عنوان القصيدة عن هذه الكلمات: " وقال أيضا مادحا "... أما من هو الممدوح هنا، فكل شئ مبهم لا يرد جوابا عن ذلك. ولا ندري أ كان قصدا من أبي العلاء إلى هذا الابهام، وهو جامع " سقط الزند " كما نعلم، أم كان ذلك من صنع الأيدي الكثيرة التي تداولت نسخ الديوان، أم من صنع الناشرين بعد ذلك؟
المرجح أن ذلك من صنع أبي العلاء نفسه، بدليل ما جاء في مقدمته لسقط الزند من اظهاره التنصل من مدائحه التي وجهها إلى الأمراء والحكام، إذ قال:
" ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس " الطبيعة ". ثم قال في تفسير مدائحه: "... وما وجد لي من غلو علق في الظاهر بآدمي وكان مما يحتمله صفات الله عز وجل سلطانه، فهو مصروف إليه، وما صلح لمخلوق سلف من قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به وما كان محضا من المين لا جهة له، فأستقيل الله العثرة فيه ".
فإنه لظاهر من هذا النص أن أبا العلاء حين جمع " سقط الزند " وهو معتكف في " محبسيه " كان حريصا ان يتنكر لعلاقاته السابقة برجال السياسة أيام شبابه و قبل اعتكافه، وبتأثير هذا الحرص تعمد ان يغفل أسماء ممدوحيه في سقط الزند ليطمس معالم العهد الذي سبق عهد عزلته. وهذا سر آخر من أسراره التي غمضت على المؤرخين له والباحثين في شأنه. ولكن هل تنصل أبي العلاء من مدائحه تلك في عهد عزلته يغير شيئا من الواقع نفسه، نعني الواقع الموضوعي الذي أنشئت تلك القصائد من أجله؟ ان رغبة أبي العلاء ذات صفة أخلاقية وفكرية مرهونة بحاله في عهد خاص، وأما ذلك الواقع فله صفة تاريخية موضوعية لا يغيرها شئ.
ولكن مؤرخي أبي العلاء هم المقصرون، فلم ينفقوا جهدا في كشف العلاقة بين قصائد المدح وروابطها التاريخية، في حين ان مثل هذه المهمة تدخل في صميم التاريخ الحقيقي لرجل ذي شأن كشأن أبي العلاء... ويقينا لو أن المؤرخين، قدماء ومحدثين، قد عنوا بهذه المسألة لانكشفت لنا غوامض جمة من سيرة الرجل، ومن مذاهب الرأي فيه، ومن أسباب عزلته وتزهده، ومن اتجاهاته العقلية والدينية.
وكيف كان الأمر، فإن أبا العلاء يستوقفنا الآن في " سقط الزند " عند هذه القصيدة، فإذا نحن نعلم - كل ما نعلم - ان الممدوح بها أمير عربي محارب، وانه من القادة الذادة عن ثغور الدولة العربية الإسلامية على حدود الروم من شمال سورية، وذلك إذ يخاطبه أبو العلاء:
ولولاك لم تسلم " أفامية " الردى وقد أبصرت من مثلها مصرع الردي (3) فأنقذت منها معقلا هضباته تلفع من نسج السحاب وترتدي وحيدا بثغر المسلمين كأنه بفيه مبقى من نواجذ أدرد (4) بأخضر مثل البحر ليس اخضراره من الماء، لكن من حديد مسرد (5) وقبل أن نفرع من أمر هذه القصيدة، نرى من المهم أن نشير إلى بصيص من نور يلوح لنا خلال أبياتها، ذلك إذ ترد كلمة " الشريف " في هذه القصيدة مرتين يطلقها الشاعر على ممدوحه حين يخاطبه:
متى أنا في ركب يؤمون منزلا توحد من شخص " الشريف " بأوحد يذكرن من نيل " الشريف " مواردا فما نلن منه غير شرب مصرد فمن هو هذا " الشريف " المحارب للروم في عهد أبي العلاء إذ ثغور العرب قد تساقطت حصونها إلى أيدي الروم، ولم يبق منها غير واحد يسميه الشاعر " أفامية " وقد أنقذه هذا " الشريف " نفسه؟...
نرجع إلى التاريخ السياسي لذلك العهد، نبحث فيه عن قائد عربي شغل نفسه في محاربة الروم أيام كان أبو العلاء يمدح الأمراء والقواد، ويعني بالثناء على ذادة الثغور ومنقذي الحصون العربية من البيزنطيين أنفسهم. نرجع إلى ذلك التاريخ، فلا نجد من يصح أن يتوجه إليه مثل هذا الخطاب من أبي العلاء، ويكون مع ذلك من " الشرفاء "، غير قائد ينتسب إلى جيوش
مخ ۱۴