219

مروج الذهب او معدن جواهر

مروج الذهب ومعادن الجوهر

والكهانة أصلها نفسيئ؛ لأنها لطيفة باقية ومقارنة لأعجاز باهرة، وهي تكون في العرب على الأكثر وفي غيرهم على وجه الندرة؛ لأنه شيء يتولد على صفاء المزاج الطبيعي، وقوة مادة نور النفس، وإذا أنت اعتبرت أوطانها رأيتها متعلقة بعفة النفس وقمع شرها بكثرة الوحدة وإدمان التفرد وشدة الوحشة من الناس وقلة الأنس بهم، وذلك أن النفس إذا هي تفردت فكرت، وإذا هي فكرت تعدت وإذا تعدت هطل عليها سحب العلم النفسي، فنظرت بالعين النورية، ولحظت بالنور الثاقب، ومضت على الشريعة المستوية، فأخبرت عن الأشياء على ما هي به وعليه وربما قويت النفس في الإنسان فأشرفت به على لراية الغائبات قبل ورودها.

وكان كبراء اليونانيين ينعتون هذه الطائفة بالروحانية، ويقولون: إن النفس إذا هي زادت وكانت كبر جزء في الإنسان تهدت إلى استخراج البدائع والأخبار المستترات، واستدلوا على ذلك أن الإنسان إذا قوي فكره من وذادت مواد نفسه وخأطره فكر في الطارىء قبل وروده فعلم صورته فيكون وروثه إلى حال على ما تصوره وهكذا النفس أيضا إذا تهذبت كانت الرؤيا في النوم صادقة وفي الزمان موجودة.

الرؤيا وأسبابها

وقد تنازع الناس في الرؤيا، والسبب الموقع لها وماهيتها وكيفية وقوعها، فقال فريق: إن النوم هو اشتغال النفس عن الأمور الظاهرة بملاقاة حوادث باطنة فيها، وذلك على وجهين: أحدهما معروف بالعين،قائم بالصفة في خواطر تحدث في النفس معاني تعبرها وتفرق بينها، فتشغل به عن استعمال الظاهر، والباطن فيه يؤعي إليه الحواس الخمس فتبطل الحواس عن الإدراك إلى الحاس أعني الروح لاشتغال الروح عن استعمالها، وإذا وجب بطلانها سمي نوما عرضيا، لأنه ليس النوم الكلي الذي يعم الأطفال والعجائز والشيوخ الذين خرجوا من موقع السرور أو مخافة الشر. وكذلك نوم الليل على ما وصفنا، والوجه الأخر - وهو النوم الكلي الذي يعم الأطفال والعجائز والطبقات الحيوانية فوات الفكر وغيرها - وهي طبيعة توجبها الخلقة في وقته ضرورة كما يوجب الجوع في وقته ضرورة؛ لأن الجوع عند أهل صناعة الطب علة، وهي الموجبة تحديد الكبد من الفراغ من الأغذية.

ومنهم من رأى أن النفس تحرك صورة الأشياء على ضربين: أحدهما حس والأخر فكر؛ فالصورة المحسوسة لا تحركها إلا في هيئتها؛ فإذا تخلص علمها عندها كان إدراكها مفردا من طبعها؛ فيكون فكر الإنسان ما لم يتم تابعا للحس، حتى إذا نام فعدمت النفس الحواس كلها كانت تلك الصورة التي أخذتها من أعيان الأشياء فيها قائمة كأنها محسوسة؛لأن الحس بها في أعيانها كان قبل استيلائها بالفكر ضعيفا، فلما ارتفع الحس قوي الفكر فصار يصور الأشياء كأنها محسوسة يخطر على بال النائم منها كما يخطر على باله إذا كان يقظان الشيء الذي قد كان أنيسه، وليس لذلك نظام، وإنما هو ما اتفق؛ فلذلك يرى الإنسان كأنه يطير وليس بطائر، وإنما يرى صورة الطيران مفردة كما يعلمها إذ غابت؛ ولكن فكرته فيها تقوى حتى كأنها معاينة له، فأما ما يراه النائم من الأشياء التي تدل على ما يريد فإنما ذلك لأن النفس عالمة بالصور، فإذا خلصتفى المنام من شوائب الأجسام أشرفت على ما تريد أن ينالها، وهي عالمة أنها في حال اليقظة لا يمكنها معرفة ذلك فتتخيل خيالات تدل بها على تلك الأشياء التي تريد أن تكون، حتى إذا أنتبهت تذكرت تلك الخيالات وتلك الأشياء؛ فمن كانت نفسه صافية لم تكد رؤياه تكذب ومن كانت نفسه كدرة كانت تكذب كثيرا، ثم ما بين الكدرة والصافية وسائط على حسب مراتبها من الصفاء والكدر يكون صدق ما تخيلته وكذبه.

وقال فريق آخر: إذا بطل استعمال النفس للحواس ظاهرا لم يبطل استعمالها في نفسها، ولم يبطل استعمال قواها، فتنتقل في الأماكن، وتشاهد الأشخاص بالقوة الروحانية التي ليست بجسم، لا بالقوة الجسمانية الغليظة، وذلك أن القوة الجسدانية لا تدرك إلا بمشاركة وملامسة الأشياء: إما باتصال كاتصال اللون من الملون وإما بانفصال كانفصال الجسم من الأماكن، والروح تحرك المتصل والمنفصل جميعا، لا بمشاركة الجسد الذي يوجب الحاجة إلى قرب المدرك.

ومنهم من رأى أن النوم هو اجتماع الدم وجريانه إلى الكبد.

مخ ۲۳۸