216

مروج الذهب او معدن جواهر

مروج الذهب ومعادن الجوهر

وقد ذهبت طائفة ممن سلف، من أهل البحث والتنقير إلى أن القيافة: اسم مشتق من القفو، وهو معنى استدلالي، وأصل ذلك: أن الأشكال انفصلت في صورة أنسابها بأشياء تخص الأنواع بالتشكيل وخواصم وجدت لما به ضربت الفواصل إضرابها في وحيدات الأشخاص، وكان التناسل على وساعة وقدر من الغير لما توجبه الطبيعة من اتفاق كل شيء في حوزته، وصرفه إلى وجهه، كما خصت الطبيعة كل نوع من الجنس بفصل أبانته من أغياره، وفرقت بينه وبين أشكاله، فكذلك أيضا خصت أوحد الأشخاص المنفصلة في الهيئة، بتغير الغير من أغياره. وكذلك لا تكاد فنون الصور تتراءى في المرائي لغير من أغياره،وكذلك لا تكاد وإن ضمها النوع وشملتها المادة فالقائف يقارب بين الهيات، فيحكم للأقرب صورة لأن تشبيه النسل أقرب من تشبيه النوع. وكذلك تشبيه الشخص إلى النوع أقرب منه إلى الجنس،لأن النوع والشخص ضمهما حدان مشتركان وإنما ضم الجنس واحد فهو أصل القيافة عند هذه الطائفة، وهو ضرب من ضروب البحث، وإلحاق النظير في الأغلب بنظيره، ومن حيث تساويهما من حيث ذكرنا في قضية العقل، وهو القياس بعينه، وليس هذا الاستدلال من كلام أحد من فقهاء القائسين ولا غيرهم من المسلمين، وإنما هذا الكلام انتزعناه من كلام طائفة من الفلاسفة المتقدمين؛فيجب أن يكون نظر القائف على قول هذه الطائفة إلى القدم؛ لأنها نهاية الشكل وغاية الهيئة، والولد لو خالف صورة أبيه في كنه أفعاله، و باينه في سائر شكله في الأغلب يوافقه في القدم؛ لأن النسل لا بد له من تخصيص قوته بشيء يميزه عن غيره ويبينه من سواه، ولذلك وجدوا الطول في أزدشنوأة، ولذلك صار الجفاء والغلظ في الروم، وأصحاب الأجبال، والأكثر من أهل الشام وأوباش مصر، واللؤم في الخزر وأهل حران من بلاد ديار بكر، والشح بفارس، واللؤم على الطعام بأصفهان، وصار تفرطح الرجلين وفطس ! الأنوف في السودان، والطرب في الزنج خاصة.

وهذا الذي وصفنا عند هذه الطائفة من أسرار الطبيعة، وخواص تأثير الأشخاص العلوية، والأجسام السماوية، وقد تقصينا هذا الشأن على كماله في كتابنا في الأسرار الطبيعية وخواص تأثير الأشخاص العلوية والغرائب الفلسفية في كتابنا في الرؤوس السبعية في أنواع السياسات المدنية وملكها الطبيعية وفي كتاب الاسترجاع في الكرم على من زعم أن العالم متغير جوهره إلى الظلمة، وأن النور فيه غريب مختار، وأن ستة أنفس كانوا نورأ بلا أجساد: شيث بن أدم وزرادشت، والمسيح، ويونس، واثنان لا يمكن ذكرهما، وأن النور والظلمة قديمان، وأنهما لا يريان إلا غير ممتزجين وأن الأشياء لا تعمل إلا في جوهرهما ثم امتزجا من تلقاء أنفسهما، من غير داخل عليهما ولا مكره أكرههما، وهذا الخلف من الكلام والفاسد من المقال، وأعجب من هذا القول قول زردشت نبي المجوس: أن القديم تعالى ذكره طالت وحدته فطالت فكرته، فلما أن طالت فكرته، واشتدت وحشته، توالد الهئم منه، وهو الشيطان، من تلك الوحشة التي ولدتها تلك الفكرة، ونتجتها الوحدة، وأن الله عز وجل لو كان قادرا على إفناء ألهم منه لما ضرب له أجلا، ولا أخل له أمرا يغوي عبادة، ويفسد بلاده. وهذا هو المحال بعينه، والتناقض بنفسه، وعجب آخر من الأراء من قول بولص: إن المسيح عليه السلام هو الذي أرسله، وإن المسيح إنسان وإله؛ لأنه إله صار إنسانا، إنسان صار إلها، وقد أتينا على جمل من متناقضات أهل الآراء، في أثناء ما تقدم من كتبنا، وإنما تشعب بت الكلام إلى هذا النوع، وتغلغل بنا القول إلى هذا المعنى، لأنه من جنس ما كنا فيه، لكن عند ذكرنا لما أودعناه كتاب الاسترجاع والإبانة عن غرض فيه.

الزجر

فلنرجع الآن إلى ما كنا فيه من هذا الكتاب: وحدث المنقري عن العتبي، قال: وقف عبيد الراعي ذات يوم مع ركب بفيفاء قفر، وكانوا يريدون استقصاد رجل من تميم؛ إذ سنحت ظباء سود منكرة، ثم اعترضت الركب مقصرة في حضرها، واقفة على شأنها، فأنكر ذلك عبيد الراعي، ولم ينتبه له أصحابه، فقال عبيد:

ألم تدر ما قال الظباء السوانح؟ ... أطفن أمام الركب والركب رائح؟

مخ ۲۳۵