ولكي يضع معدته أمام الأمر الواقع كما يقولون، دعا بفنجان قهوة «سادة» وشربه ولعق ما ترسب في قراره! وجعل يتشاغل بالحديث عن المقيم المقعد من أمر تلك المعدة، عليها خيبة الله!
ثم أطرق إطراقة طويلة لم يدر حاضروه ما علتها، ثم بان أنه يحاول المعدة ويصاولها، ويصابرها ويطاولها، وما زالت حجتها عليه تقوى وتشتد، وسطوتها به تقسو وتحتد، وما زال عزمه أمامها يضعف ويتخاذل، ويسترخي ويتزايل، ويظل على هذا قرابة عشر دقائق، ثم إذا هو يهب فجاءة ويصفق، حتى إذا أقبل الخادم، عاجله بطلب ... «واحد رز»!
ويحسن أن أقول لك: إن ثمن صفحة الرز في ذلك المطعم هو قرش صاغ واحد ولله في خلقه شئون!
ملحق ...
ومما يتصل بهذا الباب، ويضم إلى هذا الجنس، حديث «فلان بك» رحمه الله، وكان معروفا بسعة العلم، وشدة العقل، وكان شديد البخل، قاسيا في الضن على النفس، وقد ألحق في شباب سنه بخدمة الحكومة ويده لاصقة بالتراب من شدة الفقر، فكان يدخر وظيفته الشهرية كلها إلا ما يكفي لشراء رغيف «وطعميتين» كل يوم، وأما الثياب فلا يكفي لتغييرها أن تحول، أو يلحقها النصول، أو أن تبلى خيوطها، أو أن تتخرق عروضها، فهو لا يتركها بل هي التي تتركه حين يدركها الفناء، فتطاير عنه تطاير الهباء، وعاش كذلك يجمع الدرهم إلى الدرهم، ويضم المليم إلى المليم، حتى اجتمع له في غاية عمره نحو أربعمائة فدان من أجود أطيان الدنيا، وحوالي عشرة آلاف الجنيه، أرضخها للوارث نقدا وعدا.
وليس شيء من كل هذا بعجيب، إنما العجيب ما استكشف من خلاله في مؤخرات سني حياته، ذلك أنه ظهر - بحكم إحدى المصادفات، وللمصادفات أبلغ الفضل فيما يجري في هذا العالم من وجوه المستكشفات - أقول ظهر أن الرجل لم يكن يحب المال ولا يحفل به، ولا يعنيه أن يجتمع له منه كثير ولا قليل ، ذلك أن كل هم الرجل وكل خلته أنه لا يحب المتاع، ولا يطيق التقلب في النعمة، فإذا أكل أصاب أيسر ما يمسك الحوباء، وإذا لبس ففي ستر الجسم بالخلق غناء، وإذا استصبح تغنى بالزيت، وإذا أوى استغنى بالكوخ عن البيت، فهو إذا جمع بعد ذلك المال، فليس يجمعه لحب فيه أو شهوة إليه، وإنما يجمعه لأنه لا يجد له مفيضا عن الكفاف وهو غاية مناه!
قلت لك إن هذه الخلة قد استكشفت في أخريات سنيه، وذلك أن بعض من يحملهم لاحظوا بعد طول ما أعتروا به من ضيق الحياة وشظف العيش في كنفه، أنه لا يضن عليهم بشيء مما يطلبون من الأموال، بالغة ما بلغت، على شرط أن يستأثروا بالمتاع بها وحدهم، فلا يشركوه في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا يفرغوا عليه مثل أرديتهم، ولا يرقدوه على مثل فرشهم، ولا يدخلوا عليه شيئا من رفاهيتهم ولين عيشهم! •••
بقيت هنالك مشكلة، وهي أنهم يحبون أن يستصبحوا بالكهرباء، وهو لا يطيق أن يطلق النظر على ضوئها، فكيف الحيلة في هذا الإشكال؟ لقد ظلت المشادة دهرا بين الطرفين، حتى عرض هو حلا معقولا: ذلك أن يستأجر لهم دارا في حي المنيرة ذات غرف وأبهاء، ليزينوها بما شاءوا من ثريات الكهرباء، على أن يدعوه في مثواه ببير المش، يستصبح بالزيت ويفترش القش! •••
في الحق إن المؤلفين في علم الأخلاق في حاجة إلى مراجعة كتبهم لاستقصاء مثل هذه الأحوال، وضبط الكلام فيما تدل عليه من الغرائز والخلال.
اقتصاد سياسي! ...
ناپیژندل شوی مخ