314

وليس لدي على هذا بحمد الله أي تعليق!

إقناع معدة ...!

أعرف شابا من ذوي البيوتات ذكيا غنيا، يضطرب دخله بين الثمانية الآلاف والاثني عشر ألف جنيه في كل عام «عدا وظيفته التي يجريها عليه المنصب في كل شهر»، وهو فوق هذا ظريف حاضر النكتة، وأنه ليعرف كيف يصوغها بالقلم كما يحذق إطلاقها باللسان.

وإذا أنت لابسته واطلعت على دخيلة شأنه حير رأيك فيه، فما تدري أهو أكرم الناس أم أبخل الناس؟

والواقع أن مما يغلط فيه سواد الناس، ظنهم أن البخيل من لا يجود بالمال، ومن تغلب عليه عادة الشح به، وشدة الحرص عليه، وأن السفيه من لا يعتد بالمال، ومن يبادر إلى إتلافه ما وقع إلى يده، وقد دلت المشاهدة على أن هذا على إطلاقه غير صحيح، فإنك لتجد في الناس من يحرص على الدانق، ويضن حتى في موضع المروءة بالسحتوت، وتجده نفسه لا يكترث بالآلاف، ويعمد في غير حاجة، إلى السرف والإتلاف، وذلك شأن صاحبنا الذي أومأنا إليه في مستهل هذا الكلام: ولقد يعلم أن من عماله على ضياعه من يفتلذ من غلاتها الآلاف فلا يكرثه الأمر ولا يعنيه، ولقد يولم لأصحابه، بل لمن لا ترتبطه بهم الصداقة القوية، فيقرب إليهم أشهى الطعام، وأفخر الشراب، ويسمعهم أحذق المغنين، وقد يدعو لهم بفاخر الطرف وغالي الألطاف، ثم تراه في غده يشح بالدرهم، ولو سئله لتغير وجهه وتقلصت شفتاه، وظهر عليه من الكزازة والكيص ما لا يرضى به لنفسه أحد في الدنيا، ولقد يكون في المجلس المونق، يغمره لطف الحديث أو حلو الغناء، فينتفض عنه فجاءة زاعما أنه قائم لبعض شأنه «وما به من حاجة»، ولكنه إنما يطلب مرافق الدار أو المقهى ليشعل سيجارة، خيفة أن يفتح في المجلس علبة سجايره، فيتورط في الميل بها على من إلى يمينه أو من إلى يساره!

ومن عجيب شأنه في حسابه أنه قدر لنفقته اليومية الخاصة قدرا لا يعدوه أبدا، فجعل لسجايره عشرة قروش مثلا، ولنزهته عشرين، ولعشائه خمسة عشر إلخ، فإذا اختل حسابه بالزيادة في أحد هذه الأبواب، التمس القصد في غيره والتعويض من سواه، وراح يجري ألوان التعديل في أبواب «الميزانية»، حتى لا يزيد الخارج في النهاية درهما واحدا، فإذا ازدادت نفقة الطعام قرشين مثلا عوضها من باب «البنزين»، فرد السيارة من مطلع شارع الهرم، وإذا زادت نفقة السجاير قرشا مثلا، أسرع إلى «التليفون» فأمر الخدم أن يطفئوا نور الدار، ولا يطلقوا إلا مصباحا واحدا، وإذا تورط في عشرين قرشا لم تدخل في حسابه، اعتل على أحد الخدم فطرده ثلاثة أيام أو أربعة ثم أعاده، وهكذا.

ومن أظرف نوادره في هذا الباب أنه اعتاد العشاء في أحد المطاعم، وكان فيها «حات»، وكانت وجبته في كل ليلة رطلا من الكباب، فلوحظ عليه ذات عشية أنه دعا بنصف رطل فقط، وتبين بعد ذلك أنه تورط في عشرة قروش لم تكن في حسابه، فأراد أن يعوضها «خصما» على «بند» العشاء، فأتى على نصف الرطل، ولكن المسكين لم يشبع، لأن معدته لا تزال تتطلع إلى مزيد!

وهنا تستطيع أن تتمثل أبدع حوار جرى بين إنسان وبين معدته: هو يحاول إقناعها بالحجة الكلامية، بأنها قد شبعت وهي ترد عليه بالحجة الفعلية إنها ما برحت جوعى، فيكر عليها بالدليل العقلي أنها قد أخذت قسطها، واستوفت من الطعام حقها، ويستشهد على دعواه بفلان وفلان ممن لهم في نصف الرطل أو في ربعه مقنع! فتدمغه بتهييج الشهوة وتفتيح اللهوة، وسيلان اللعاب على ما يضطرب به الخدم من صحاف «الكفتة» والكباب، فيباديها بأنها ما دامت قد انحرفت عن سبيل القناعة، وتمردت على رأي الجماعة، فإنه مضطر إلى أن يردها إلى حدود الطاعة، بإنزالها على المخمصة وتعذيبها بطول المجاعة!

فتجيبه في عزة واستكبار، وعزم لا يطاوله وعيد ولا إنذار: إذن أهد حيلك، وأؤرق ليلك، وآخذك عن نفسك، فما تدري أفي يقظة أنت أم في منام، وحقيقة ما ينتظر لك من ألوان الطعام، أم هي أضغاث أحلام! •••

ولما أعنتته بطول نشوزها على رأيه ، وشدة تمردها على حكمه، جمع كل عزمه، وشد مجامع أعصابه، وتنحنح وتسعل، ثم استمكن من كرسيه، وأعلن في صراحة وحزم، أنه قد شبع والحمد لله!

ناپیژندل شوی مخ