309

لاحظت ظاهرة غريبة، لا أدري إذا كان الأطباء والباحثون في أحوال النفس قد فطنوا لها أو لم يفطنوا، ولا أدري إذا كان قد تقصاها منهم أحد، وترسم عللها وأسبابها، وكيف تؤثر تلك الأسباب في خلق بعض الناس هذا التأثير وتصوره هذا التصوير وتنكره هذا التنكير، ثم إنني لا أدري إذا كان أحد هؤلاء الباحثين المتقصين قد نشر في هذا بحثا في العربية أو في أية لغة من لغات العالم؟ ... اللهم إنني لا أدري شيئا من هذا ألبتة، على أنني أنتظر من أصحاب المعرفة رأيا أتهدى به إلى الصواب:

شهدت في طول حياتي ثلاثة من الناس لم أشهد غيرهم على الحال التي سأذكرها لك، والعجب أن ثلاثتهم يشتركون في دعة النفس، وطيبة القلب، وارتياح الأعصاب، ما يزال هذا شأن كل منهم وطبعه وجبلته حتى يستوي للطعام، وما إن يأخذ فيه حتى تراه وقد تبدل خلقا غير خلقه، واتخذ صورة غير صورته، فإذا وجهه قد احتقن احتقانا شديدا، وإذا أوداجه قد انتفخت انتفاخا عظيما، وإذا أجفانه قد انفرجت إلى حد التقلص، وإذا حدقتاه قد اتسعتا في محجريهما حتى كادتا تستهلكان بياض العينين جميعا، وقد لمعت عيناه لمعانا يخيف ويروع، ودلت ملامحه على أقسى ضروب الشراسة ومحاولة الفتك والافتراس، وجعل يزحر زحيرا عاليا أشبه بهمهمة الفهود، وبزئير الأسود، حتى ما تشك في أنك إنما تؤاكل نمرا لا إنسانا، بل لقد يوسوس لك هذا المنظر المرعب بأنك في النهاية مأكول لا آكل!

وقد توفي واحد من هؤلاء الثلاثة، وبقي اثنان، بسط الله لهما في صدور الأعوام، ولقاهما أجزل الطعام، بما يواتي غريزة الافتراس والالتهام، وكتب لمؤاكليهما الأمن والسلام، آمين!

غرام ...!

صديقي «فلان» تعشق في شباب سنه إحدى بنات جيرانه، وقد غلبت عليه وذهبت بقلبه كل مذهب، ولما برحت به آلامه، وفضحته في الهوى أسقامه، أدركتها رقة له ورحمة به استحالتا من بعد حبا، وهو رجل يتذوق الأدب، ويحفظ من مصطفى الشعر صدرا، فكان إذا ذكرها وهو فينا أقبل يروي لنا أحسن ما قال قيس المجنون في ليلى، وأرق ما أرسل قيس بن ذريح من الغزل في لبنى، وأحلى ما قال جميل في بثينة، وأبدع ما شبب كثير في عزة، وكلما لحقه الوله عليها بكى واشتد نشيجه، فيواسيه صدقانه من جميل القول بما يطامن لوعته، ويكفكف دمعته.

وقد بانت لهذا العاشق الولهان خصوصية عجيبة جدا: ذلك أنه لوحظ عليه أنه كلما حدث تهاجر بينه وبين «معشوقته»، راح يلتمس السلو كله في الطعام، فيلحق الأكلة بالأكلة، ويتبع الوجبة الوجبة، إلى أن تعود إلى صلته فيعود إلى الإقلال والتخفيف! وعلى قدر شدة الصرم والإلحاح في الهجر يكون الدسم، وعلى قدر فتوره وضعفه يكون اختيار الأرفق من الألوان!

ولقد جزت يوما بشارع خيرت في طريقي إلى الدار، وكان ذلك بعد انتصاف الليل، فإذا صاحبنا مستو على منضدة في دكان الحاج عبد الرحمن (الحاتي)، وبين يديه صحفة تحمل ستة أرطال أو خمسة على الأقل من اللحم السمين، وهو يفترسها افتراسا، والدمع منهل على خديه، فأدركت لساعتي أن قد تمت القطيعة ولم يبق إلى اللقاء سبيل! فأقبلت عليه أعزيه وأصبره، وهو ينزف من الدمع من عينه، بقدر ما ينزف من اللحم في شدقه، فعذرت الرجل وانصرفت عنه وأنا أدعو الله تعالى أن يرأف بحاله، ويلقيه حسن العزاء!

ويسرف المسكين على نفسه في هذا حتى كاد يكسر عيشه على القضم والخضم، إلى أن بدن واسترخت كرشه، ودعا بالطبيب وأظهره على داخل شأنه، ولما استصعب عليه علاجه، سأل أهله أن ينأوا به عن القاهرة (مثوى الحبيبة) ويعزوه، ويختلفوا عليه بألوان السلوى، لعله ينسى فتصلح حاله، وتعود إليه نحافته وهزاله!

من خلق الله! ...

يظهر أن عند بعض الناس كثيرا أو قليلا من الشك في أنهم موجودون، أو على الأقل إنهم يشكون في أنهم من ضمن الناس، فهم دائبون جاهدون كل يوم، بل كل ساعة، في جمع الأدلة على إثبات وجودهم، أو على إثبات أنهم ناس من الناس، ومن هؤلاء المساكين شاب حدرت له الظروف مالا جليلا يهيئ له العيش في أخفض العيش، والتقلب فيما شاء من النعم، إذ كان الإنسان إنما يطلب إكرام نفسه وتنعيمها لإيتاء لذائذها، لا ليثبت بمظاهر الترف وجوده، أو إنسانيته عند الناس!

ناپیژندل شوی مخ