308

على أنني هذه المرة لم أكن أكثر من ناموس (سكرتير) يدون حديث غيره، وإليك الحديث:

لي صديق من القضاة خفيف الروح، حسن المحاضرة، حاضر النكتة، جلس إلي أمس وجعلنا نسمر على العادة، وفي بعض المجلس أطرق إطراقة طويلة، ثم أنغض رأسه فجاءة وقال لي: اسمع يا فلان، يقول العامة إن «قرحة» البطن تظل عند العاقل أربعين سنة، فكيف بالمجنون؟ فقلت له: وما الذي يحضرك هذا الآن؟ قال: نقلت من عشر سنوات إلى محكمة (وسمى حاضرة أحد المراكز)، ولي في هذا المركز صديق عزيز من كبار الأعيان، وله حراقة (ذهبية) لا يسكنها أحد، وهي راسية في ظاهر المدينة، وتقع من سرتها على أكثر من ميل، فدعاني شكر الله له، إلى أن آوي إليها حتى أصيب لي مثوى، وكان للحراقة خادم كسلان العقل، كسلان الجسم، وفي ذات عشية رماني الباب بقريب لصاحب الحراقة طويل جدا ، عريض جدا، لا تكاد تتمثله إذا أشعت عينيك في هيولاه جملة واحدة! إنما لك أن تتمثله بالمفرق (القطاعي)، فإذا دنا منك سمعت له زخيرا من كثرة اكتناز الشحم! وما أحصي أنه جلس إلي قط إلا رأيته وقد شرد عينيه، وأقبل يتدفق بألوان الأسئلة يصبها على سمعي صبا، حتى أراني وكأنما فتحت علي خلية نحل لا أنحرف عن واحدة حتى تثور بي ثمانون، فهو يلهث بالأسئلة، وأنا ألهث وراءه بالأجوبة ولكنه يجري أمامي بسرعة «رولزريس» وأنا وراءه، في سرعة «عربة كارو»، حتى ليكون في السؤال الثامن والستين بعد المائة، وأنا «ملخوم» في جواب السؤال الرابع عشر! «إزي صحتك؟ - بتفصل هدومك عند مين؟ - أبوك مجوز كام؟ - تحب ألمانيا أكتر ولا أمريكا أكثر؟ - رياض باشا ترك كام فدان؟ - إلا ليه البن اليمني الأيام دي وحش؟ - النهاردة حر ولا برد؟ - إلا الإنجليز وشهم أحمر ليه؟ - الشيخ أحمد ندا أحسن ولا المزيكة الميري؟ - ما بيرقوكش ليه؟ - الحاجة السويسية ماتت ولا لسه عايشة؟ - الحكومة بتشتري الورق بتاعها منين؟ - أمك لما تموت، ناوي تعمل الميتم ثلاث أيام؟ - قريت المقطم النهاردة؟ - إذا ربنا غناك تشتري أوتومبيل ولا لأ؟ - إيه رأيك في الحرب؟ - ناوي تجوز ابنك لما يكبر؟ - كوبري الزمالك بيفتحوه إمته؟ - إلا لو واحد اتعدى عليك في الجلسة تعمل له إيه؟ - الساعة كام؟ - أم سيدي أبو السعود كان اسمها إيه؟!» إلخ إلخ. •••

قلت لك إن الباب رماني به في أحد الأمسية فقال لي: أتأذن لي في المبيت في الحراقة الليلة؟ فقلت له تفضل، ففي غرفها متسع لنا كلينا، وقضينا السهرة في الأسئلة اللازمة وما تيسر من الأجوبة، وقمنا لنومنا، حتى إذا أصبحنا استدعيت الخادم ليجيئنا بفطورنا، وفي هذا الخادم كما قلت لك بلادة، حتى ليقضي في المجيء بالفطور من السوق أكثر من الساعة ونصف الساعة، فسألت صاحبنا عما يشتهي، فاعتذر بأنه ليس من عادته أن يفطر، فراجعته فأبى، فعزمت عليه إلا أفطر معي، فجدد العزيمة على الإباء شاكرا مثنيا، لقد غلبني إذ ذاك على أمري فلم يبق لي بد من أن أطلب إلى الخادم أن يجيئني بالقدر الذي يكفيني ويكفيه فضله، فمضى وغاب ما شاء الله أن يغيب، ثم أذن الله أن يعود بالطعام ويقوم على إنضاجه، وكنت قمت لبعض شأني، ثم عدت وإذا صاحبنا في حلته الكاملة في طريقه إلى الشاطئ، حتى إذا لقيني أقبل يودعني، فدعوته (من باب التكريم) ليفطر معي، فشكر واعتذر بأن له مهما يعجله عن اللبث، ومضى عني مهرولا، ولم يرعني - وقد أطلت على بهو الحراقة - إلا أن أرى الصحاف قد لعقت لعقا فلم يبق فيها فضلة للغسل، وإذا فتات من الخبز لا تكبر على ما يعلق بسن الخلال! فدعوت الخادم وسألته عن الطعام فأجاب: لقد أتى عليه صاحبك! فقلت له: ألم يبق لي ولك شيئا؟! قال كلا، لم يبق لك ولا لي شيئا!

وكان وقت الجلسة قد أفد، فمضيت أقضي على الطوى بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ثم أقبل علي صاحبي وقال: تعرف يا فلان أنني لست من أهل البطنة، ولا أنا ممن يحتفلون للطعام أو ممن يهمهم التأنق فيه، وتعرف أنني لا أصيب منه إلا بالقدر الذي يمسك النفس ويدفع إلحاح الجوع، وتعرف فوق هذا أنني مضعوف ممعود، أتجنب من الطعام غليظه ما استطعت، ولا أتكثر من الدسم خوف الكظة والبشم، تعرف هذا كله، ومع هذا فإنني أقسم لك أنني ما ذكرت هذه الواقعة إلا ثارت نفسي واضطرمت أعصابي، وعلا الحقد في صدري، حتى لكأن تلك الحادثة وقعت لساعتها، وقد مضى عليها الآن عشر سنين، وإنك لتستطيع أن تصدق قول الشاعر: «لا بد للمحزون أن يسلى»، وأن تصدق قول كثير:

فقلت لها يا عز كل مصيبة

إذا وطنت يوما لها النفس ذلت

تستطيع أن تصدقهما في دعوى التسلي بالزمان عن كل بلية، والعزاء بكر السنين عن كل رزية، إلا عن مثل هذه الفعلة، فهي أعصى على الزمان، وأصلب من أن يبليها الجديدان! •••

فاللهم يا من وصل شهوة الطعام ببعض الناس هذا الوصل، وأكدها هذا التأكيد، ارحم كل شهوان بطين، من ضيافة مثل هذا الحبر السمين!

تنمر ...؟

ناپیژندل شوی مخ