294

وفاتني أن أذكر لك أن الطعام كان يقرب على أخونة (صواني) متعددة، يرص حول كل واحد منها من ثمانية نفر إلى اثني عشر، وتختلف ألوانها باختلاف درجات المدعوين، وأفخرها ما يصدر بالحمل (القوزي)، أو «الديك الرومي»، ويسلك فيه الحمام والفراريج وأطايب اللحم تطهى على أشكال، وتقرب «المسبكات» من ألوان الخضر، ويستكثر فيه من صنوف الحلوى، ويخص أخيرا بالفاكهة، ودون هذا يصدر بالضلع، وهكذا إلى أن تقتصر مطالع الموائد على المزعة من اللحم، لا يملؤ نصيب الآكل منها الكف ولا ينتفخ به الشدق، وهذه الموائد المعدودة لعامة الناس.

وهنا يشجر الخلاف بين «الطباب» وبين صاحب الصنيع، فهذا «الطباب» لا ينحدر طرفه ولا يتقاصر هم بطنه عن أفخر الطعام وأدسمه وأجزله ما عرف موضعه، ودنا محله، وعليه يسيل لعابه، وله تتفتح لهوته، وإليه تهيج شهوة بطنه، فكيف الصبر عنه، وكيف الرضا بما دونه؟

أما صاحب الصنيع، فإنما احتفل للمائدة ما احتفل، وبذل في التأنق في الطعام ما بذل، إيثارا لمن «شرفوه» من أصحاب الوجاهة والمنزلة في الناس بالجاه والمنصب، ومبالغة في إكرامهم، واستخراج الإعجاب والثناء منهم، فهو بالضرورة يكره أن يدس بينهم من لا يشاكل أقدارهم، ولا يطاول أخطارهم، فكيف بمن خلق ثوبه، وشاه سمته، وهان موضعه، وكيف به فوق هذا، إذا ملكه النهم، وغلب عليه القرم،

4

فاطرح التحشم، وجعل يقبح في أكله، ويعطو بكلتا راحتيه، ويصول في باطن الصفحة بجميع يده، ويزدرد الطعام ازدرادا، ويلتقمه التقاما، حتى لا يكاد يمس فكه، أو يصافح ضرسه، بل إنه ليمر مر البرق على شدقه، في مهواه إلى حلقه!

ويثور ثائر رب الدار إذا رأى «الطباب» دسيسا على خاصة المدعوين، سواء أمعنوا في الطعام، أم كانوا في انتظار الطعام، فسرعان ما ينصب عليه، ويجذبه بضبعيه، وربما زم عنقه بكلتا يديه، ثم جعل يجره جرا، إذا الرجل قد أرسخ رجله على الأرض، أو لف ساقه على رجل دكة أو نضد،

5

وتشبثت يداه بكرسي ثقيل أو بعضادة باب، وبطنه أثناء ذلك يرتفع مع أيدي الآكلين ويهبط، وينقبض مع راحهم وينبسط، حتى إذا جهد برب الدار استنفر لزحزحته الأهل والخدم والفراشين، فلا يزالون به دفعا ولكزا بالأيدي، وركلا بالأرجل، وهو يقاوم ويجاهد، حتى إذا خارت قوته، وانخذل متنه، ونفد جهده، حملوه فألقوه في ظاهر الباب، أو نفضوه عن ساحة العرس نفض التراب. فلا يلبث أن يجمع شمله، ويتسلل في لباقة وخفة، ويرتصد للمائدة نفسها، فإذا أصاب غرة من أهل الدار، عاد فانصب عليها، وإلا عدل إلى مائدة أخرى تكافئها أو تقل يسيرا عنها، وربما عاوده أولياء العرس بالطرد والضرب فلا يثنيه ذلك عن المعاودة وهكذا، وكأنه في شأنه هذا يتمثل بقول الشاعر بعد أن وجه الكلام فيه على البطن بدل النفس:

لأبلغ عذرا أو أصيب غنيمة

ومبلغ «بطن» عذره منك منجح!

ناپیژندل شوی مخ