269

وقبل أن نجاوز هذا الموضع من صفات الرجل، نقرر أن صوته لم يكن له حظ كبير في قراراته، أو ما يسميه أهل الفن «بالأراضي»، بل كانت أرضوه واضحة الإقفار، حيث كانت ثرواته كلها في أثنائه «البدنية»، وفي أعاليه، فكان لهذا دائم الاتكاء عليهما في ترجيعه عامة ليله، فلا يتنزل إلى قراره إلا ليصيب راحة ضئيلة يستجم فيها، في الوقت نفسه، لوثبة يرتفع فيها إلى عنان السماء!

أما فنه، وهنا ألتفت بالكلام إلى الأستاذ التفتازاني، وقد كتب عن الشيخ ندا في «الأهرام» كلاما ذهب فيه، إن صدقت ذاكرتي الكليلة، إلى أنه رحمه الله كان يجري على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى، وهذا لا يشايع الواقع في كثير ولا قليل.

وقبل أن أخوض في هذه المسألة أقرر كما قررت من قبل في مناسبات كثيرة، أن الفن شيء، وأن العلم بالفن شيء آخر، فليس كل مفتن عالما بالفن وأصوله وقواعده، وليس كل عالم بالفن وأصوله وقواعده من المفتنين.

إنما ملكة الفن ترتكز في أصلها إلى الموهبة، أما العلم بالفن فمرجعه إلى الدرس والمذاكرة وطول النظر، وشتان ما بين هذا وهذا!

بعد هذا أصارحه غير متحرج ولا متحرف عن مكان الحق، ولا متنقص لقدر هذا الرجل الذي أتجرد اليوم لذكره إيثارا له وهتافا بفضله العظيم، أصارح صديقي الأستاذ بأن الشيخ أحمد ندا لم يكن على حظ جليل في علم الموسيقى، بل لعل علمه به لم يزد على إدراك أوليات النغم بما تلقف في صدر نشأته من لداته: هذا صبا، وهذا سيكاه، وهذا عراق، وهذا جركاه إلخ، أما أنه تلقى هذا العلم وحذقه أو عني عناية جليلة به، فهذا لم يقم عليه أي دليل؛ بل لقد أعلم ويعلم كثير غيري - وليس هذا لحسن الحظ بغاض من قدر الرجل ولا بمتحيف من عظمته العظيمة - لقد أعلم ويعلم كثير غيري غير ما تقول: فإن شئت الواقع، فالواقع أن أحمد ندا لم يكن عالما قط بالموسيقى، وإنما كان فنانا حق الفنان، وكان حسانا كل الحسان، كان من أولئك الأفذاذ الذين بعث الله في نفوسهم تلك الموهبة النيرة التي تشق وحدها في الفن طريقها فتعبد فيه سبلا، وتمهد له طروقا، وتخلق فيه أحداثا لم تكن خلقت من قبل، وهكذا كان الشيخ أحمد ندا، وهكذا أبدع في فن ترتيل القرآن بدعا لا عهد للناس بها من أول الزمان، ولن يزال يترسمها القارئون إلى بعيد من الزمان، فالشيخ ندا من أحد أولئك القلائل الذين لم يجد عليهم العلم بالفن وإنما أجدوا هم على الفن بما رزقوا من سلامة الفطر ودقة الإحساس، وتلك المواهب العظام!

وهؤلاء أشبه بالقمري إذا سجع وغرد، وبالجدول إذا تعطف في الروض وتأود، وبالبدر إذا استوى فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، اسأل ما شئت من هؤلاء كيف صنع، وعمن أخذ وعلى يد من برع، وخبرني بعد هذا الجواب. •••

أما أسلوبه وطريقة أدائه، فلقد جعل من أول نشأته يحاكي الشيخ حنفي برعي ويستن سبيله، وينهج منهجه، وكذلك كان في عامة ترتيله، اللهم إلا ما كان يستحدثه ذوقه الخاص، وكان هذا قليلا بالإضافة إلى سائر شأنه، ولقد أدركناه نحن وهو في أسلوب أدائه على هذه الحال، وتأبى عليه كرامته الفنية إلا أن يحدث كل يوم حدثا في الصنعة من مبتكره هو ومن بدع ذوقه، يطرح بإزائه شيئا مما أخذ عن أستاذه الشيخ حنفي، حتى استوت شخصيته وأدركت، وتمت له صنعة جديدة فاخرة في فن القراءة والترتيل.

كان الشيخ ندا رجلا صائدا لا يخطئ سهمه ما سنحت له الرمية، ولقد كانت تعتريه «الحركة» في بعض ترتيله عفوا، ما اجتمع لها ولا أسلف لها تقديرا، إذ هي طريقة لم تجر من قبل على مثال فما يزال يكر عليها ويرددها في مختلف الآي حتى يحذقها ويضيفها إلى فنه السري الجليل!

ولقد كان يبدأ قراءته، وخاصة في نوبته الأولى، مضعوفا متخاذلا حتى ليكاد يكون ترنيمه ضربا من الحشرجة؛ وحتى يحضرك قول الشاعر:

إنك لو تسمع ألحانه

ناپیژندل شوی مخ