مات الشيخ أحمد ندا الكبير، وترك ولديه حامدا وأحمد فتيين، فوصل حامد وهو أسنهما، بمنصب أبيه، واتكأ أحمد في عيشه على ترتيل القرآن في مهم الناس من المناحات والأعراس ونحوها على سنة «الفقهاء» في هذه البلاد.
ويوم درج أحمد ندا في هذه السبيل كان المقدمون من حذاق القراء الذين طار صيتهم في البلاد كل مطار، هم الأشياخ الثلاثة محمود القيسوني، وحسين الصواف، وحنفي برعي، على أن أولهم لم يكن يؤجر على القراءة في أسباب الناس، لأنه كان المؤذن الخاص لولي الأمر، وإن كان يجامل أحيانا بالترتيل في بيوت من يؤثرهم من العظماء في مهمهم، فلم يكن في الميدان في الواقع من قراء الطبقة الأولى إلا السيد حسين الصواف والشيخ حنفي برعي، وسرعان ما وصل بهما القارئ النابت الشيخ أحمد ندا!
وأنت ترى من هذا أن ندا لم ينبه بعد خمول، ولم يطاوله الزمن في المواتاة بارتفاع الصيت، وكان إذا اجتمع ثلاثتهم للتلاوة تقدم السيد حسين الصواف لعلو سنه، ولحسبه ومنزلته في كرام الناس، ثم قفى على أثره الشيخ حنفي، ثم أحمد ندا لأنه أصغر الثلاثة في عدد السنين.
على أننا لم ندرك السيد الصواف إلا وهو في أعقاب العمر، فلم يتهيأ لنا أن ننعم بصوته، أو نتذوق فنه، إما لأن صوته كان قد علاه الشيب، أو لأننا نحن كنا أحداثا لا ندرك في هذا الباب ما يدرك الرجل التام؟ فكان الصراع لأول عهدنا دائم الشبوب بين الشيخ حنفي برعي وبين الشيخ أحمد ندا.
وكان الشيخ حنفي رحمه الله رجلا مكور الوجه، مكور الجسم، تحسبه إذا جلس إحدى القدور الراسيات، وكان على هذا حلو الصوت دقيقه، أشبه ما يكون بصوت العود يتلعب بأوتاره الحاذق الحسان، وكان إلى هذا على حظ من الفن عظيم، يقرأ على طريقته التي ابتكرها هو ابتكارا واحتذاها بعد كثيرون.
كان الصراع كما حدثتك بين الشيخين عنيفا دائما ما اجتمعا، فيكون الغلب لهذا مرة، ولهذا مرة، والسامعون هم الفائزون على كل حال، وكانت لهما مواسم يطلبها الناس من كل مكان، وكان أجلها وأفخرها في بيت المرحوم داود بك العيسوي في مولد الحسين بن علي رضي الله عنهما.
على أن الشيخ أحمد ندا ما زال يقوى ويشتد، ويبدع ويفتن، إذ الشيخ برعي ما برح يضعف ويهزل حتى أسلم سلاحه وخرج من الميدان بسلام. •••
نعود بعد هذا إلى صوت الشيخ أحمد ندا وفنه وطريقة أدائه:
لم يكن صوت الشيخ ندا حلوا بالمعنى الذي يدرك من أصوات مثل المرحومين الشيخ يوسف المنيلاوي وعبد الحي أفندي حلمي، ولا من مثل صوت الآنسة أم كلثوم وصالح أفندي عبد الحي، ولكن له جمالا من نوع خاص، فلقد كان قويا شديد القوة، يرتفع إلى ما تتقطع دونه علائق غيره من الأصوات وكان مع هذا عريضا بعيد العرض، حتى إذا جلجل وانصقل، صار أشبه في وضوحه وبعد عرضه بصفحة الأفق ساعة ينصدع عمود الصباح.
وعلى أن مثل هذا الصوت ، إن كانت له مشابه، مما يتعذر معه إحكام النبرة (العفق) سواء في بعض الترنيمة أو في غايتها، فإنه لم يك يلحق ندا في هذا الباب إلا الأقلون ممن رزقوا رقة الأصوات ولينها، ومن هنا تدرك قدر الموهبة التي أوتيها أحمد ندا في هذا الباب، فإن لم يكن الأمر فيه إلى الموهبة، فقدر ما كان يلقاه ذلك الرجل في هذا من عظيم العناء!
ناپیژندل شوی مخ