238

يتحول الملحن بك من نغمة إلى نغمة، ويعدل بك من فن إلى فن، ما تصيب أذنك عثرة، ولا تحس نبوة، بل إنك لتجد هذا التنقل مما تقضي به الطبيعة أيضا، وكثيرا ما تستشرف له نفسك قبل أن يبلغه حلق المغني؛ لقد كان هذا الغناء في الجملة، أشبه ما يكون بالجدول المتعطف المتأود، لا يعكر تأوده من صفائه، ولا يكف تعطفه من اطراد مائه، كان غناء تحسبه بسيطا ليسره وسلاسته، ومواتاته لطبيعة المصري، وفي هذا اليسر والسلاسة المقدرة كلها والفن أجمعه لو كان يدري السامعون!

أما الغناء الغالب في العصر - وأعني به الجديد - فلست أكتمك أنه أكثر شعوبا، وأرحب طروقا وأوسع دروبا، تنوعت أعلامه، وتعددت أنغامه، إلا أنه مطبوع بالطابع الغربي، لقد تروقني أنا المصري منه النبرة، ولقد تهزني فيه النغمة، على أنه سرعان ما يثب بأذني الوثبة الشديدة، ويطفر بحسي الطفرة الهائلة، فيمتلخ الطرب في نفسي من أصله امتلاخا، ويطير ذوقي كل مطير، ويبعثره كل مبعثر، حتى لا أراه يحتاج مني إلى جهد عنيف في الجمع والتلفيق!

وقد يقال: إن نبو هذا الضرب من التصويت على الآذان إنما يرجع إلى جدته وطرافته، فإذا هو دار على الزمان وتردد على الأسماع، ألفته الأذواق، واستراحت إليه النفوس وطربت عليه، شأن كل جديد مستحدث، وخاصة في هذه الفنون.

وأقول: إن جدته وغرابته على الأسماع قد يكون لهما، من هذه الناحية، بعض الأثر، ولكن لا يكون لهما وحدهما كل الأثر، وهذا عبده أفندي الحامولي رحمة الله عليه، لقد استحدث في الموسيقى المصرية جديدا، وأدخل عليها ما لا عهد للأذن المصرية به من قبل، ومع هذا فلم ينب جديده على سمع، ولا نشز طريفه على طبع، بل لقد تقبلته الناس، خاصتهم وعامتهم بأحسن القبول، وهشت له نفوسهم أيما هشاشة، وطربت به أيما طرب!

وقد يستدرك على هذا بأن ما جاء به الحامولي ليس غريبا على الموسيقى المصرية ولا هو عنها ببعيد، فإنه لم يعد فيما استعار موسيقى جيرتنا ومن كانت تسلكنا معهم أوثق العلائق من السوريين، والحلبيين، والأتراك!

وإذا نحن ترخصنا في إساغة مثل هذا الكلام، كررنا بالاعتراض بما صنع المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد تبسط في تلاحينه بالموسيقى المصرية إلى حد بعيد، فاستعار لها ما شاء الله من موسيقى السوريين والعراقيين والحلبيين والأتراك، وأدخل عليها صدرا جليلا من موسيقى الغربيين، فما نبت بصنيعه أذن ولا التوى على طبع، بل لقد أرضى وأعجب، ولذذ وأطرب، وبعث في النفوس من الأريحية ما لا يكاد يتعلق به وصف الواصفين!

وفي الحق إن جديد سيد درويش إذا كان لقي أول منحدره إلى السمع شيئا، فالذي يلقى كل جديد مما يشبه القلق بحكم العجب والاستغراب، على أنه ما لبث أن استراحت له الآذان، ورضيته الأذواق، وهفت إليه النفوس، وتداخلها الطرب عليه من جميع الأقطار، في حين أن هذا الذي نسمع اليوم من جديد الغناء، إذا صح هذا التعبير، لا يزداد على الترديد إلا نشوزا على الأذواق، وتعاصيا على الطباع!

كلمة الحق

فإذا طلبت كلمة الحق قلت لك: إن سيدا كان رجلا مفتنا حق مفتن، رحب الطبع، دقيق الذوق، مرهف الحس، نير النفس، تسنح له النبرة من الموسيقى الأجنبية، شرقية أو غربية، فيدرك أنها مما يمكن أن يوائم طبع المصري، ويتسق لذوقه، وسرعان ما يعالج بعض خلقها بالتسوية والتهذيب، ثم يدمجها في تلاحينه ما تحس هي ولا تحس لها وحشة في الغناء المصري ولا استغراب!

أما الغالب في هذا الذي نسمع الآن من ذلك «الجديد»، فليس أكثر من تلفيق وترقيع لا يقوم على أساس من الفن، ولا يجري على عرق من الذوق، ولا يجلي على النفس أية صورة من صور الجمال!

ناپیژندل شوی مخ