هذا من جهة الحق والنظر، أما من جهة الفعل والأثر، فلا شك في أن حصر الغناء للجمهرة في طائفة قليلة العدد، يقتضي حصر الاستماع إليه، والطرب عليه في طائفة قليلة العدد كذلك بالقياس إلى المجموع، وفي ذلك حرمان السواد لذة من أمتع اللذات المشروعة، وحيولة بينه وبين تهذيب ذوقه، وإرهاف حسه، طوعا لانقطاعه عن الاستماع إلى الغناء ألبتة، أو تروية أذنه بغناء لا يجري على أي عرق من هذا الفن الجميل!
ثم إن في قصر الخاصة وأشباه الخاصة على الاستماع إلى نفر معدود من جماعات المغنين، يدورون بأصواتهم في تلاحين قليلة بالضرورة، ما من شأنه إدخال الضجر عليهم، وبعث الملل فيهم.
ثم لا تنس أن في هذا الصنيع خنقا للمواهب في مهودها بما يقام من العواثير دون مباشرة الناجمين من أصحابها للمهنة، واستصعابهم لتكاليفها، وما يتداخلهم من الخوف والرهبة إذا تقدموا لمزاولتها.
ثم إن في إجازة الغناء من جماعة معينة، لها بالضرورة فن خاص، وذوق يجري في دائرة مشتركة، ما من شأنه كذلك أن يسد الطريق على كل مستحدث طريف، وبذلك يظل الفن محصورا في دائرة ضيقة، لا يكاد يتسع أو يرقى على الزمان!
فإذا أدهشك هذا الصنيع وفظع بك، فأنت لعمري في مقام النظر، وتقليب الفكر، ونظم قضايا المنطق وترسم أقيسته حق معذور. •••
فإذا نحن تحولنا من دائرة الفكر والنظر إلى أفق الواقع الذي يلامس الحس ويلابس الذوق، فليت شعري ماذا نجد؟
ألا إني لمحدث بلسان رجل أدرك العهدين، وتذوق الغنائين، فإذا أخطأتني الترجمة عن الواقع، فإنني صادق الترجمة عما أحس وما أجد، وما يحس معي وما يجد كثيرون.
قديم وجديد!
ذلك الغناء الذي كنا نسمع من الحامولي وعثمان وأضرابهما، وما برح يردده بعض المغنين، هذا الغناء على أنه يدور في أنغام محدودة، وتلاحين قليلة العدد، لقد كان يواتي أذواقنا، ويشيع الطرب فينا، ويفحص عن مطاوي نفوسنا، ويبعث فينا من الأريحية ما يستخف أرسخنا نفسا وأثبتنا توقرا!
لقد كنا نجد في هذا الغناء صورة بينة مما في نفوسنا، حتى لكان يخيل إلينا أنه صادر عنها لا وارد عليها، وكأننا نحن الذين لحنوه وصاغوه، فإذا لم يبلغ بنا الشعور هذا الموضع، خلنا أنه لو كان أفضى إلينا بتلحينه وصياغته لما أخرجناه وصورناه إلا هكذا، بل إن حسن السبك وقوة الصياغة لتذهب بنا إلى الشعور بأن هذا الذي نسمع إنما هو شيء من صياغة الطبيعة لا أثر فيه لصنعة الإنسان، فهو كذلك خلق وكذلك كان، وما كان لامرئ بتغيير فطرة الطبيعة يدان!
ناپیژندل شوی مخ