فهذا باب إذا فكر فيه العالم علم أن الأمر فيه على ما قلنا. ووجه آخر أن هذه العلامات التي نقلها جل أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وكتبها من بعدهم العلماء في سيرهم، مما لا يجوز الاتفاق عليه، ولا على السكوت عن تكذيبها، لو كانت على ما زعم أهل التكذيب، فضلا عن التصديق لها، ولو جاز ذلك لجاز أن ينقل أحد من الناس عن أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يكون راو منهم يروي أن من أعلام رسول الله فلق البحر، وانقلاب العصا حية، فلا ينكر ذلك عليه المسلمون، ولا يكذبونه؛ لأن فيه تأكيدا للإسلام، وزيادة في أعلام النبي _صلى الله عليه وسلم_، وهذا وجه بين لمن تدبره، والحمد لله رب العالمين.
القول في نسخ (¬1) الشرائع والرد على اليهود في ذلك:
ولليهود في نسخ الشرائع مقالان بعد أطباقهم على أن حكم التوراة لا ينسخ أبدا، فقال بعضهم: إن ذلك غير جائز في حكم العقول، ويزعم أن في إجازته إجازة البداء (¬2)
¬__________
(¬1) النسخ: إزالة شيء بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل، والظل الشمس، والشيب الشباب، فتارة يفهم منه الإزالة، وتارة يفهم منه الإثبات، وتارة يفهم منه الأمران. ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه، قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخبر منها} (سورة البقرة: 106)، قيل معناه: ما نزل العمل بها، أو نحذفها من قلوب العباد، وقيل معناه: ما نوجده وننزله، من قولهم: نسخت الكتاب، وقال تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} (سورة الحج: 52)، ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر؛ وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى، بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى. وقد يعبر بالنسخ عن الاستنساخ، قال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون}، والله أعلم.
(¬2) البداء: بدأ الشيء، وأبدأه أنشأه واخترعه، والبداءة: بالهمزة وهو الصواب.
وبدا لي في الأمر: أي تغير رأيي فيه عما كان، قاله التبريزي، ونقله الزركشي عن صاحب "المحكم" عن سيبويه.
والبداء في وصف الباري تعالى محال؛ لأن منشأه الجهل بعواقب الأمور. ولا يبدو له تعالى شيء كان عنه غائبا. وكان يقول به المختار بن أبي عبيد الثقفي، ويجيء بدا بمعنى أراد، كما في حديث الأقرع والأعمى والأبرص. بدا الله: أي أراد، والله أعلم. وراجع المقالات للأشعري 1/39، والملل والنحل 1/238.
ويقول ابن حزم: البداء من صفات من يهم بالشيء ثم يبدو له غيره، وهذه صفة المخلوقين لا صفة من لم يزل، ولا يخفى عليه شيء في المستأنف. الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/259.
مخ ۸۹