والخير أولى به من فعل الخير والشر، فإن قالوا: إنما دعاه إلى ممازجتها الذي يلقاه منها من خشونة، ويأتيه من تلقائها من السوء، فمازجها ليدع فيها شيئا من جنسه، فيستلذ ناحيتها، فيكون ذلك فيها، قيل لهم: وما يؤمنكم أن يتخلص ذلك الجزء الذي هو من جنسه منها حين ينفرد، فيعود مثل ما كانت عليه؟ ويقال لهم: أخبرونا عن الظلمة أليست مواتا؟ فإذا قالوا: بلى، قيل لهم: أوليس النور حيوانا (¬1) وهو الفاعل لكل خير، ولكل حسن وجميل؟ فيقولون: بلى، فيقال لهم: أخبرونا عن هذه الفواحش والقبائح والظلم والجور والعدوان والكذب، ممن هو؟ من النور أو من الظلمة؟ فإن زعموا أنه من الظلمة، قيل لهم: وكيف جعلتم ذلك منها وهي موات لا تفعل، ولا تعقل؟ فإن قالوا: إن ذلك كله من النور، قيل لهم: وكيف وصفتموه بالكذب والظلم والجور والعدوان، وهو في قولكم: صاحب خير، ولا يفعل الشر؟ ثم يقال لهم: ألستم تعلمون أن في العلم من كذبكم، وكذب أقاويلكم، وزعم أنها باطل، ومنهم من أثبت ذلك وزعم أنه حق، فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فمن فعل هذين الشيئين المتناقضين؟ والأشياء المتناقضة في العالم من إجازة المحال، ونفي العيان، فمن نفى العيان مرة، وأثبته مرة أخرى، ومن صدق نفسه، ومن كذبها، ومن فعل هذا الذي وصفناه كله من التناقض (¬2) ؟
¬__________
(¬1) - حيوانا: أي حياة، قال تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (سورة العنكبوت: 64).
(¬2) - التناقض _عند المناطقة_: اختلاف الجملتين بالنفي والإثبات اختلافا يلزم منه لذاته كون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، فإن كانت القضية شخصية أو مهملة فتناقضها بحسب الكيف، وهو الإيجاب والسلب بأن تبدله، فإن كان إيجابا فتناقضها بحسب أن تبدله سلبا، وبالعكس: كالإنسان حيوان، ليس الإنسان بحيوان، وإن كانت القضية محصورة بأن تقدمها سور فتناقضها يذكر نقيض سورها.
والتناقض: يمنع صحة الدعوى، ولهذا قالوا: إقرار مال لغيره كما يمنع الدعوى لنفسه يمنعها لغيره بوكالة أو وصاية؛ لأن فيه تناقضا، والمراد من التناقض أن يتضمن دعوى المدعي إنكار بعد الإقرار. التعريفات للجرجاني.
مخ ۴۳