فتحرك جساس في غيظ وانفجر بعد أن عجز عن كتمان ما في نفسه وقال وهو يهدر: «وحق مناة ما أراكم تنطقون بما تطوون عليه الجوانح، فهل آن لكم معاشر بني بكر أن تعرفوا أن كليبا قد أركب عليكم قومه تغلب؟ إنكم لتعلمون أنه يمنعكم الماء حتى يصدر عنه عبيده، ويمنعكم الرعي حتى تمتلئ بطون إبله، ويحمي عليكم الوحش في الفلاة فلا تستطيعون أن تصيدوا بها ظبيا أو تحترشوا ضبا. وإن صدوركم لتتمزق من الغيظ ولكنكم تخفونه من خوف بطشه.»
فتقدم مرة نحوه مهددا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح به: «لا كنت أيها العقوق!»
فأسرع إليه أبو عامر وأمسك بيده يمنعه، ووقف جساس حينا ينظر إلى شيخه وهو يرتعش في اضطرابه ثم حول وجهه وأسرع ذاهبا عنه في حنق وعيناه تقدحان شررا.
وكان الليل في أثناء هذا قد أقبل وأرخى على الآفاق سدوله، ولمعت أنوار النيران على وجوه القوم وهم جلوس حولها مطرقين، يشفقون أن يرفعوا عيونهم نحو الشيخ في ثورته. ولم يجد مرة في نفسه ارتياحا إلى البقاء في نادي قومه، بعد أن كان من ولده ما كان، ولم يدر كيف يستطيع أن يداوي وقع تلك الألفاظ القاسية التي فاه بها الفتى في ثورته، ورأى الأمور تتعقد وتتجهم.
ولم يدر ماذا ينبغي له أن يفعل، ولا أين يجب عليه أن يقف، فقد فتح جساس عليه بابا من الفتنة ما كان أحب إليه أن يبقى مغلقا. ولم يدر كذلك ماذا يحمل الغد المقبل في طياته بعد أن أقحم ذلك الشاب المنكود في غضبته ذكر بكر وتغلب، فإن بكرا وتغلب من صلب أب، وقد أقاما معا على حالي العسر واليسر، فماذا يخفي لهما الغد في طياته؟ هذا جساس بن مرة ينادي بكرا أن تثور، وما كانت تغلب لترضى أن يطمع أحد في ملكها، فلم يجد الشيخ في حيرته هذه إلا أن يذهب عن الجمع لعله يهتدي في خلوته إلى ما يضيء له تلك الظلمات.
وكان الهواء قد برد ولف الشيوخ عليهم العباء، فلما تركهم مرة قاموا في أثره إلى البيوت يستدفئون وراء جدرانها الصوفية، ويتم كل منهم الحديث مع عشيرته في خلوة من الرقباء.
وأقبل مرة نحو بيته وكان يسير مطرقا، يفكر فيما عساه يفعل مع ولده الغاضب، وهو يتوجس خيفة من طيشه وحمقه. فقد عرف جساسا سريعا إلى الفتك، مقداما على الشر، لا يتردد في أن يلجأ إلى سيفه إذا ظن أن أحدا اعتدى على كرامته أو مس كبرياءه، وعرفه لا يبالي من يكون ذلك الذي يقدم على عداوته، ولا يعبأ بما يجره إليه غضبه.
عرف الشيخ أن ولده لن ينصرف عن كليب إذا تعقدت الأمور بينهما، ولن يثنيه عن الانتقام لكبريائه شيء، ولو سالت دماء قومه في حرب ضروس تفرق بين بني العم، وتجر الشؤم على القوم.
جعل مرة يقلب وجوه الرأي فيما يصنع مع ابنه حتى يصرفه عن التعرض لكليب. حتى لقد فكر في أن يبعده عن منازل قومه؛ لكيلا يجمع بينه وبين الرجل الذي داخله الحقد عليه.
ولم ينتبه من تفكيره ذلك إلا عندما سمع صوت ابنته جليلة تتكلم مع أمها في الخيمة من وراء الستار، وتبين من صوتها أنها كانت تتحدث وهي مرتاعة ثائرة النفس. فدخل إلى بيته، وكان بيتا رفيع الأركان قد أقيم على أعواد عالية، وشدته إلى الأرض أوتاد كبيرة، تمتد إليها حبال ضخمة من أوبار الإبل وأصواف الغنم . فلما سمعت جليلة وقع أقدام أبيها سكتت، ثم وقفت تنتظر دخوله، وقد ارتسم على وجهها ما كان في قلبها من الخوف، ثم اقتربت إليه وقبلت يده في خشوع.
ناپیژندل شوی مخ