ولما أزاحوا «كوفيته» ومسحوا غبار المعمعة
5
عن وجهه المصفر، ذعر الزعيم وصرخ متوجعا: «هذا ابن الصعبي فيا للخسارة!»
فردد القوم هذا الاسم متأوهين، وجمدوا في أماكنهم، وكأن عقولهم السكرى بخمرة النصر قد فاجأها الصحو، فرأت أن خسارة هذا البطل هي أجسم
6
من مجد التغلب، وعز الانتصار، وبهتوا كالتماثيل، وقد أوقفهم هول المشهد، وأيبس ألسنتهم فسكتوا، وهذا كل ما يفعله الموت في نفوس الأبطال، فالبكاء والنحيب حري
7
بالنساء، والصراخ والعويل خليق بالأطفال، ولا يجمل برجال السيف غير السكوت هيبة ووقارا - ذلك السكوت الذي يقبض القلوب القوية، مثلما تقبض مخالب النسر على عنق الفريسة - ذلك السكوت الذي يترفع عن الدموع فيزيد ترفعه البلية هولا وقساوة، ذلك السكوت الذي يهبط بالنفوس الكبيرة من قمم الجبال إلى سفوحها، ذلك السكوت الذي يعلن مجيء العاصفة وإن لم تجئ كان هو نفسه أشد فعلا منها.
خلعوا أثواب الفتى المصروع، ليروا ما فعل الموت به، فبانت كلوم الشفار في صدره وظهرت أفواه مزبدة تتكلم في هدوء ذلك الليل عن همم الرجال، فاقترب الزعيم وجثا فاحصا، فوجد دون سواه منديلا مطرزا مربوطا حول زنده، فتأمله سرا وكأنما عرف اليد التي غزلت حريره، والأصابع التي حاكت خيوطه، فستره طي درعه، وتراجع قليلا إلى الوراء حاجبا وجهه بيده المرتعشة، تلك اليد التي كانت تزيح بعزمها رءوس الأعداء قد ضعفت وارتجفت، وصارت تمسح الدموع؛ لأنها لامست حواشي منديل عقدت أطرافه أصابع عذراء مستهامة حول زند فتى جاء ليشهد يوم الكريهة مدفوعا ببسالته فصرع، وسوف يرجع إليها محمولا على أكف رفاقه.
وبينما نفس زعيم القوم كانت تتراوح بين مظالم الموت وخفايا الحب، قال أحد الواقفين: «تعالوا نحفر له قبرا تحت تلك السنديانة فتشرب أصولها من دمه، وتتغذى فروعها من بقاياه، فتزيد قوة، وتصير خالدة، وتكون له رمزا فتمثل لهذه الطلول
ناپیژندل شوی مخ