مناجاة أرواح
في خيبتي غلبتي
الكآبة الخرساء
العالم الكامل
إنني عبدك يا ربي
هل تأيدت العدالة؟
أيتها الأرض
العطاء
الصداقة
ابن الفارض
ناپیژندل شوی مخ
مصرع البطل
الكمال
المعرفة ونصف المعرفة
القديس
الطمع
الشعراء
الخلافات
الملك الناسك
فلسفة الابتسامة
شكوى القبور
ناپیژندل شوی مخ
المدينة العظمى
حكم وآراء
الشيطان
الكلام وطوائف المتكلمين
مناجاة أرواح
في خيبتي غلبتي
الكآبة الخرساء
العالم الكامل
إنني عبدك يا ربي
هل تأيدت العدالة؟
ناپیژندل شوی مخ
أيتها الأرض
العطاء
الصداقة
ابن الفارض
مصرع البطل
الكمال
المعرفة ونصف المعرفة
القديس
الطمع
الشعراء
ناپیژندل شوی مخ
الخلافات
الملك الناسك
فلسفة الابتسامة
شكوى القبور
المدينة العظمى
حكم وآراء
الشيطان
الكلام وطوائف المتكلمين
مناجاة أرواح
مناجاة أرواح
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
جبران خليل جبران
مناجاة أرواح
- استيقظي يا حبيبتي! استيقظي؛ لأن روحي تناديك من وراء البحار الهائلة، ونفسي تمد جناحيها نحوك فوق الأمواج المزبدة الغضوبة. استيقظي، فقد سكنت الحركة، وأوقف الهدوء ضجة سنابك الخيل، ووقع أقدام العابرين، وعانق النوم أرواح البشر فبقيت وحدي مستيقظا؛ لأن الشوق ينتشلني كلما أغرقني النعاس، والمحبة تدنيني إليك عندما تقصيني الهواجس، وقد تركت مضجعي يا حبيبتي خوفا من خيالات السلو
1
المختبئة بين طيات اللحف، ورميت بالكتاب؛ لأن تأوهي
2
قد أباد السطور من صفحاته، فأصبحت خالية بيضاء أمام عيني. استيقظي! استيقظي يا حبيبتي واسمعيني. - ها أنا ذا يا حبيبي قد سمعت نداءك من وراء البحار، وشعرت بملامس جناحيك، فانتبهت
3
وتركت مخدعي، وسرت على الأعشاب فتبللت قدماي وأطراف ثوبي من ندى الليل، ها أنا واقفة تحت أغصان اللوز المزهرة أسمع نداء نفسك يا حبيبي! - تكلمي يا حبيبتي! ودعي أنفاسك تسيل مع الهواء القادم نحوي من أودية لبنان. تكلمي، فلا سامع غيري؛ لأن الظلمة قد دحرت جميع المخلوقات إلى أوكارها،
ناپیژندل شوی مخ
4
والنعاس أسكر سكان المدينة وبقيت وحدي صاحيا. - قد نسجت السماء نقابا من أشعة القمر، وألقته على جسد لبنان يا حبيبي! - قد حاكت السماء من ظلمة الليل رداء كثيفا مبطنا بدخان المعامل وأنفاس الموت، وسترت به أضلع المدينة يا حبيبتي!
قد رقد سكان القرى في أكواخهم القائمة بين أشجار الجوز والصفصاف، وتسابقت نفوسهم نحو مسارح الأحلام يا حبيبتي!
قد أناخت
5
أحمال الذهب قامات البشر، وأوهنت
6
عقبات المطامع ركبهم، وأثقلت المتاعب أجفانهم، فارتموا على الفرش، وأشباح الخوف والقنوط تعذب قلوبهم يا حبيبتي!
قد سرت في الأودية خيالات الأجيال الغابرة،
7
ناپیژندل شوی مخ
وحامت على الروابي أرواح الملوك والأنبياء، فانثنت فكرتي نحو مسارح الذكرى، وأرتني عظائم الكلدانيين والآشوريين، وفخامة ونبالة العرب.
قد سرت في الأزقة أرواح اللصوص القاتمة، وظهرت من بين شقوق النوافذ رءوس أفاعي الشهوات، وجرت في منعطفات الشوارع أنفاس الأمراض ممزوجة بلهاث
8
المنايا، فأزاحت الذكرى ستائر النسيان، وأرتني مكاره سادوم وآثار عامورة.
9
قد تمايلت الأغصان يا حبيبتي! ويحالف حفيفها مع خرير ساقية الوادي ورددت على مسامعي نشيد سليمان ورنات قيثارة داود وأغاني الموصلي.
قد ارتعشت نفوس أطفال الحي، وأقلقهم الجوع، وتسارعت نهدات الأمهات المضطجعات على أسرة
10
الهم واليأس، وأراعت أحلام العوز
11
ناپیژندل شوی مخ
قلوب الرجال المقعدين، فسمعت نواحا مرا، وزفيرا متقطعا يملأ الضلوع ندبا ورثاء.
قد فاحت روائح النرجس والزنبق، وعانقت عطر الياسمين والبيلسان، ثم تمازجت بأنفاس الأرز الطيبة، وسرت مع تموجات النسيم فوق الطلول المتشعبة، والممرات الملتوية، فملأت النفس انعطافا، ومنحتها حنينا إلى الطيران.
قد تصاعدت روائح الأزقة الكريهة، واختمرت بجراثيم العلل، ومثل أسهم دقيقة خافية قد خدشت الحس وسممت الهواء. - ها قد جاء الصباح يا حبيبي! وداعبت أصابع اليقظة أجفان النيام، وفاضت الأشعة البنفسجية من وراء الجبل، وأزالت غشاء الليل عن عزم الحياة ومجدها، فاستفاقت القرى المتكئة بهدوء وسكينة على كفتي الوادي، وترنمت أجراس الكنائس وملأت الأثير نداء مستحبا معلنة بدء صلاة الصباح، فأرجعت الكهوف صدى رنينها كأن الطبيعة بأسرها قامت مصلية. قد غادرت العجول مرابضها، وتركت قطعان الغنم والماعز حظائرها، وانثنت نحو الحقول ترتعي رءوس الأعشاب المتلفعة بقطر الندى، ومشى أمامها الرعاة ينفخون الشبابات، ووراءها الصبايا المتأهلات مع العصافير بقدوم الصباح. - قد جاء الصباح يا حبيبتي! وانبسطت فوق المنازل المكردسة
12
أكف النهار الثقيلة، فأزيحت الستائر عن النوافذ، وانفتحت مصاريع
13
الأبواب، فبانت الوجوه الكالحة، والعيون المعروكة، وذهب التعساء إلى المعامل، وداخل أجسادهم يقطن الموت في جوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان ظل القنوط
14
والخوف، كأنهم منقادون قهرا إلى عراك هائل مهلك.
ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين، وامتلأ الفضاء من قلقلة
ناپیژندل شوی مخ
15
الحديد، ودوي الدواليب، وعويل البخار، وأصبحت المدينة ساحة قتال يصرع فيها القوي الضعيف، ويستأثر الغني الظلوم بأتعاب الفقير المسكين. - ما أجمل الحياة ها هنا يا حبيبي! فهي مثل قلب الشاعر المملوء نورا ورقة! - ما أقسى الحياة ها هنا يا حبيبتي! فهي مثل قلب المجرم المفعم
16
بالإثم والمخاوف.
في خيبتي غلبتي
يا خيبتي، يا خيبة! يا وحدتي وانفرادي، إنك لأعز لدي من ألف انتصار، وأحلى على قلبي من كل أمجاد الأقطار.
يا خيبتي، يا خيبة!
يا معرفتي لنفسي واحتقاري لذاتي، بك أعرف أنني لا أزال فتيا سريع الخطى، فلا تغريني أكاليل الغار الذابلة الفانية، بك قد حظيت بوحدتي وانفرادي، وتذوقت لذة فراري واحتقاري.
يا خيبتي، يا خيبة!
يا سيفي البتار
ناپیژندل شوی مخ
1
وترسي البراق، قد قرأت في عينيك:
إن الإنسان متى جلس على عرش الملك، فقد صار عبدا،
ومتى أدرك الناس أعماق روحه، فقد طوى كتاب حياته،
ومتى بلغ أوج
2
كماله، فقد قضى نحبه.
3
بل هو كالثمرة إذا نضجت سقطت واندثرت، يا خيبتي يا خيبة! يا رفيقي الباسل الودود، أنت وحدك تسمعين إنشادي، وصراخي، وسكوتي، وليس غيرك بمحدثي عن خفقان الأجنحة، وهدير البحار، وعن قذائف البراكين الثائرة في دوامس
4
ناپیژندل شوی مخ
الليالي.
أنت وحدك تتسلقين صخور نفسي الجلمودية
5
الشامخة.
يا خيبتي، يا خيبة! يا شجاعتي التي لا تموت، أنت تضحكين معي في العاصفة، وتحفرين معي قبورا لما يموت مني ومنك، وتقفين معي أمام وجه الشمس بجلد
6
وثبات، فنكون معا هائلين مرعبين.
الكآبة الخرساء
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق
1
ناپیژندل شوی مخ
جدران السجن وثقل قيوده، أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب: عهدا ذهبيا، يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه، ويطير مرفرفا فوق رءوس المشاغل والهموم، مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء، كانت تقطن قلبي، وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذا تتصرف منه إلى عالم المعرفة، حتى دخل إليه الحب، وفتح أبوابه وأنار زواياه.
فالحب قد عتق لساني فتكلمت، ومزق أجفاني فبكيت، وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت.
أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم، وسمعت همس طهركم، وأنا أيضا أذكر تلك البعثة الجميلة من شمال لبنان، فما أغمضت عيني عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحرا وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع، إلا وسمعت خرير تلك السواقي، وحفيف تلك الغصون، ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن، وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراع أمه، هي هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة
2
مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاة الوسيعة ... وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل، ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقابا من اليأس والقنوط حول قلبي ... فلم أذهب إلى البرية إلا وعدت منها كئيبا، جاهلا أسباب الكآبة، ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير، إلا ووقفت حزينا لجهلي موحيات الحزن.
يقولون: إن الغباوة مهد الخلود، والخلود مرقد الراحة ... وقد يكون صحيحا عند الذين يولدون أمواتا، ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوة أقصى من الهاوية، وأمر من الموت، والصبي الحساس الذي يشعر كثيرا ويعرف قليلا، هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس؛ لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين:
3
قوة خفية تحلق به إلى السحاب، وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض، وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعا خائفا في ظلمة حالكة.
4
للكآبة أياد حريرية الملامس قوية الأعصاب تفيض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية، ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة، شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمامة
ناپیژندل شوی مخ
5
ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر، وتضم أوراقها بمرور خيالات المساء، فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الأميال كانت الحياة أمامه كحبس ضيق، لا يرى في جوانبه غير أقوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
أما تلك الكآبة التي أتعبت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي؛ لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق؛ لأني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض
6
علة طبيعية في النفس، كانت تحبب إلي الوحدة والانفراد، وتميت في روحي الأميال إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفي أجنحة الصبا، وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال، يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح، وألوان الغيوم، وخطوط الأغصان، ولكنه لا يجد ممرا يسير فيه جدولا مترنما إلى البحر.
هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضي بمقام القمة من الجبل؛ لأنها أوقفتني متأملا تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات عتابهم، وكهوف شرائعهم وتقاليدهم.
في تلك السنة ولدت ثانية، والمرء إن لم تخبل به الكآبة ويتمخض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
العالم الكامل
يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، استمعني! أيها القدير الرحيم الساهر على نفوسنا التائهة المجنونة، أصغ إلي! فإني وأنا ناقص أعيش بين الكاملين من البشر. أنا، أنا البشرية المشوشة السديم، المضطرب العناصر، أتخطر بين عوالم تامة من شعوب قد كملت شرائعهم، وتنزهت نظمهم، وتنسقت أفكارهم
1
ناپیژندل شوی مخ
وترتبت أحلامهم، وتسجلت رؤاهم، في الأسفار
2
والدواوين.
رباه! إن هؤلاء الناس يقيسون فضائلهم بالمقاييس، ويزنون خطاياهم بالموازين، ولديهم سجلات وفهارس لما لا يحصى من التوافه والنقائص التي ليست بالخطايا فتعرف، ولا بالفضائل فتنصف.
ويقسمون أيامهم ولياليهم إلى أقسام مقننة مرتبة، فيفعلون كل شيء في حينه على وفق ما يخطر لهم، فالأكل والشرب والنوم وكساء العرية، ثم السآمة والضجر، في حينه.
والعمل واللعب والغناء والرقص، ثم الاستراحة عندما تحين ساعتها.
الافتكار بهذا، والشعور بذاك، ثم العدول عن الافتكار والشعور عندما يشرق نجم الأمل السعيد فوق الأفق البعيد.
سلب الجار بثغر باسم، ومنح العطايا بيد تتوقع الثناء والشكر، ثم المديح بفطنة، والملامة بترو، وقتل النفس بكلمة، وإحراق الجسد بقبلة، وغسل اليدين عند المساء كأن لم يكن هنالك من شيء.
المحبة بتقليد مطروق،
3
ناپیژندل شوی مخ
والتسلية على منوال مسبوق، وعبادة الآلهة كما يحق ويليق، والاحتيال على الشياطين والمكر بالزنديق، ثم نسيان كل ما جرى وصار كأن الذاكرة حلم من أحلام الأغرار،
4
التصور لغاية، التأمل بعناية، والمسرة بدراية، والتألم بوقاية، ثم إفراغ كأس الآمال رجاء أن تملأها الأيام من المآل.
5
رباه، رباه! إن جميع هذه تسبق الفكر، فيحبل بها، والعزيمة فتلدها، والدقة فتربيها، والنظام فيسودها، والعقل فيديرها؛ ثم تنحر وتلحد في زوايا سكينة النفوس، فتبقى قبورها الموسومة
6
بالعلامات والأرقام عظة لنا ولجميع الأنام.
أجل، هذا هو العالم الكامل الذي بلغ أوجه، عالم الغرائب والمعجزات، بل هو أنضج ثمرة في جنان الله وأسمى عالم بين عوالمه، ولكن لم أنا ها هنا يا رب! لم أنا ها هنا، وأنا ثمرة عجراء
7
لم تنل بعد شهوتها من النماء، وعاصفة صماء هوجاء لا شرقا تبتغي ولا غربا، وذرة هائمة تائهة من كوكب محترق ثائر؟
ناپیژندل شوی مخ
لم أنا ها هنا؟ لم أنا ها هنا، يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة؟
إنني عبدك يا ربي
عندما ارتعشت شفتاي بالنطق لأول مرة، صعدت إلى الجبل المقدس، وناديت الله قائلا: «إنني عبدك يا ربي، مشيئتك الخفية شريعتي، وسأظل خاضعا لك سحابة الحياة.»
فلم يجبني الله بل مر كعاصفة واختفى عن ناظري.
وبعد ألف سنة صعدت ثانية إلى الجبل المقدس، وخاطبت الله قائلا: «أنا جبلة يديك يا خالقي، من تراب الأرض صنعتني، وبنفحة من روحك العلوية أحييتني، فأنا مدين لك بكليتي.»
فلم يجبني الله! وكألف من الأجنحة الخاطفة اجتاز بي عابرا.
وبعد ألف سنة صعدت إلى الجبل المقدس أيضا، وناجيت الله ثالثة قائلا: «يا أبتاه القدوس، أنا ابنك الحبيب، بالرأفة والمحبة ولدتني، وبالمحبة والعبادة سأرث ملكوتك.»
فلم يجبني الله في هذه المرة أيضا، وكالضباب الذي يغشى قصي التلال توارى عن عيني.
وبعد ألف سنة صعدت إلى الجبل المقدس، وخاطبت الله رابعة قائلا: «يا إلهي الحكيم العليم، يا كمالي ومحجتي.
أنا أمسك، وأنت غدي، أنا عروق لك في ظلمات الأرض، وأنت أزاهر لي في أنوار السماوات، ونحن ننمو معا أمام وجه الشمس.»
ناپیژندل شوی مخ
فعطف الله إذ ذاك علي وانحنى فوقي، وهمس في أذني كلمات تذوب رقة وحلاوة، وكما يطوي البحر جدولا منحدرا إليه، توارى الله في أعماقه.
وعندما انحدرت إلى الأودية والسهول، كان الله هناك أيضا.
هل تأيدت العدالة؟
وكان عرس في قصر الأمير في إحدى الليالي، وكان المدعوون يدخلون ويخرجون، فدخل رجل مع الداخلين، وحيى الأمير باحترام ووقار، فنظر إليه الجميع بدهشة؛ لأن إحدى عينيه كانت مفقودة، والدم ينزف من نقرتها الفارغة.
فسأله الأمير قائلا: «ما دهاك يا صاح؟» فأجابه الرجل قائلا: «أنا لص أيها الأمير، وقد اغتنمت فرصة في ظلمة هذه الليلة على جاري عادتي، وذهبت لأسرق أموال أحد الصيارفة.
وفيما أنا أتسلق الجدار لأدخل دكان الصيرفي ضللت سبيلي، ودخلت من نافذة جاره الحائك، فعدوت طالبا الهرب وأنا لا أبصر شيئا لشدة الظلام، فلطم نول الحائك عيني وفقرها، ولذلك أتيتك الآن ملتمسا أن تنصفني من الحائك.»
فأرسل الأمير واستدعى الحائك، فأحضر الحائك في الحال، فأمر الأمير أن تقلع عينه.
فقال له الحائك: «بالصواب حكمت أيها الأمير، فإن العدالة تقضي بقلع عيني، ولكنه غير خاف على سموك أنني أحتاج في حرفتي إلى عينين لكي أرى حاشيتي الشقة التي أنسجها، غير أن لي جارا إسكافيا له عينان مثلي، ولكنه لا يحتاج في مهنته إلا إلى عين واحدة، فاستدعه إن أردت واقلع إحدى عينيه للمحافظة على الشريعة.»
فأرسل الأمير في الحال واستدعى الإسكافي، فحضر واقتلعت عينه.
وهكذا تأيدت العدالة!
ناپیژندل شوی مخ
أيتها الأرض
ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك!
ما أتم امتثالك للنور، وأنبل خضوعك للشمس!
ما أظرفك متشحة بالظل، وما أملح وجهك مقنعا بالدجى!
ما أعذب أغاني فجرك، وما أهول تهاليل مسائك!
وما أكملك أيتها الأرض، وما أسناك!
1
لقد سرت في سهولك، وصعدت على جبالك، وهبطت إلى أوديتك، وتسلقت صخورك، ودخلت كهوفك، فعرفت حلمك في السهل، وأنفتك
2
على الجبل، وهدوءك في الوادي، وعزمك على الصخر، وتكتمك في الكهف، فأنت أنت المنبسطة بقوتها، المتعالية بتواضعها، المنخفضة بعلوها، اللينة بصلابتها، الواضحة بأسرارها ومكنوناتها.
ناپیژندل شوی مخ
لقد ركبت بحارك، وخضت أنهارك، وتتبعت جداولك فسمعت الأبدية تتكلم بمدك وجزرك
3
والدهور تترنم بين هضابك وحزونك
4
والحياة تناجي الحياة في شعبك ومنحدراتك، فإنك إنك لسان الأبدية وشفاهها، وأوتار الدهور وأصابعها، وفكرة الحياة وبيانها.
لقد أيقظني ربيعك، وسيرني إلى غاباتك حيث تتصاعد أنفاسك بخورا، وأجلسني صيفك في حقولك حيث يتجوهر إجهادك أثمارا، وأوقفني خريفك في كرومك حيث يسيل دمك خمرا، وقادني شتاؤك إلى مضجعك حيث يتناثر طهرك ثلجا، فأنت أنت العطرة بربيعها، الجوادة بصيفها، الفياضة بخريفها، النقية بشتائها.
في الليلة الصافية قد فتحت نوافذ نفسي وأبوابها، وخرجت إليك مثقلا بمطامعي، مكبلا بقيود أنانيتي، فألفيتك شاخصة بالكواكب، وهي تبتسم لك، فنزعت عني قيودي وأثقالي، وعلمت أن منزل النفس فضاؤك، ورغائبها في رغائبك، وسلامتها في سلامتك، وسعادتها في الغبار الذهبي الذي تنثره النجوم على جسدك.
في الليلة المبطنة بالغيوم، وقد مللت غفلتي وجمودي، خرجت إليك فوجدتك جبارة هائلة مسلحة بالعاصفة، تحاربين ماضيك بحاضرك، وتصرعين قديمك بجديدك، وتبعثرين ضئيلك بضليعك، فعلمت أن نظام البشر نظامك وناموسهم ناموسك
5
وسنتهم سنتك، وأن من لا يهصر
ناپیژندل شوی مخ