وقف المفاوضات
لم تلتق إذن وجهتا النظر المصرية والبريطانية في هذه المسائل المشار إليها في المشروع البريطاني الجديد، وتأكد لي ولزملائي أعضاء الوفد المصري بعد الاطلاع على هذا المشروع أن قبولنا له رجوع إلى الوراء، وتسليم ضمني ببقاء معاهدة سنة 1936، ولما أصر الجانب البريطاني على موقفه، وتمسكه بكل صغيرة وكبيرة في مشروعه، أبلغت لورد ستانسجيت استحالة قبول المسائل الواردة في هذا المشروع، فوعدني باستشارة مستر بيفن، واتفقت معه على إصدار البيان الآتي يوم 23 مايو سنة 1946:
إن تبادل الآراء بين الوفدين قد أظهر أن هناك بعض المسائل، التي رأى الوفد البريطاني ضرورة الرجوع فيها إلى المستر بيفن ... ويتطلب هذا بعض الوقت.
وجدت من ذلك أن هناك تغيرا في روح المفاوضات، سواء تلك التي تجري هنا أم التي تجري في إنجلترا بين مستر بيفن وعمرو باشا، وأظهرت المرارة التي شملتني من هذه الأوضاع، ولاحظت منها الضغط الواقع على وزارة الخارجية البريطانية من رجال السياسة القديمة فيها، وفهمت أنه لن يستطيع الفوز بمساعدتي للوصول إلى النهاية، إلا إذا كانت هذه الروح تتقلص، والحق أن اللورد ستانسجيت في كل هذا كان يقوم بدور الوسيط المملوء بالعطف، وحسن الرغبة في الوصول إلى نتائج طيبة ...
ونحن إذا كنا بعد ذلك قد عدنا إلى المفاوضات، فلم يكن ذلك اعتمادا على ألفاظ بلا تعبيرات، بل بناء على التأكيد بأن هذه الروح لا بد أن يقضى عليها، غير أن مما يؤسف له أنها لم تزل باقية، وأنها كانت تظهر من وقت لآخر في تصرفات وزارة الخارجية البريطانية، ولم يكن يكسر من حدتها إلا وجود مستر بيفن في هذه الوزارة؛ وهي تلك الروح، التي أوجدت المصاعب أيضا بعد إمضائي مع مستر بيفن الوثيقة المعروفة، ثم هي التي ترتب عليها فيما بعد قطع المفاوضات!
حزب المحافظين والمفاوضات
وقد كان من الصعوبات التي عانتها المفاوضات المصرية البريطانية موقف المحافظين منها، وقد كشفوا عن كوامن نياتهم نحو مصر باعتراضهم على مسلك حكومة العمال، إذ كانوا وما يزالون دعاة معاهدة سنة 1936؛ تلك المعاهدة التي كان لها ما يبررها عند توقيعها؛ لأنها وليدة حالة سياسية وأخطار حربية تهدد مصر كما تهدد الإمبراطورية البريطانية، فكان مستساغا أن تتخذ بسبب تلك الحالة ضمانات، ولكن المحافظين وهم يعلمون علم اليقين أن الخطر الناجم عن المحور قد زال إلى غير رجعة، ما زالوا يعملون على الاحتفاظ بمعاهدة سنة 1936، إن لم تكن بنصها فبروحها، لا يبغون عنها حولا؛ لأنهم رأوا فيها إلى جانب الأغراض الحربية ما يحقق السيطرة على مصر، والتدخل في شئونها، وهم مسوقون بنزعاتهم الاستعمارية المشهورة.
وليس منا من يجهل نيات بعض المحافظين، وآية ذلك موقف مستر تشرشل ومستر أيدن من إنحائهما باللائمة على حكومة العمال، كلما ورد على ألسنة رجالها ذكر «الجلاء»، ولديهما أنه كان يجب أن يكتفي بالجلاء عن المدن المصرية الكبرى فقط؛ حتى لا يتألم المصريون لرؤية الجنود المتغلغلين في أوساطهم، فهما وأمثالهما من رجال العهد القديم يظنون أن مصر تنظر إلى الأمور نظرة سطحية لا تدرك المعنويات! وقد قال مستر أيدن في خطاب له: إنه لم يسمع من محدثيه عند زيارته لمصر في غضون الحرب أية عبارة تشير إلى أن المعاهدة المبرمة سنة 1936، تسيء إلى كرامة المصريين بأية حال، بل كان المصريون يعربون له عن ارتياحهم إلى هذه المعاهدة! فيا ليت شعري من هم أولئك المصريون، الذين أظهروا للمستر أيدن ارتياحهم للمعاهدة القائمة، التي إذا صح أنها لم تكن محل السخط أثناء الحرب، فإن المصريين ما كانوا لينظروا إليها إلا على أنها خطوة تتلوها خطوات في سبيل الاستقلال، حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها هبوا للمطالبة بأهدافهم كاملة، معتمدين بعد الله على حقهم الواضح وحجتهم القوية.
وإني لأربأ بوطنية القوم في بلدنا أن يكون من بين أولئك المحبذين لآثار معاهدة سنة 1936، نفس السادة الذين قاموا في وجه «معاهدة صدقي - بيفن» لأنهم رأوها أقل من أن تحقق المثل العليا لما كانوا يبتغون لمصر ...
وبينما مستر أيدن يصرح بما صرح به، إذا بمستر تشرشل يشيع الريب والظنون في مقدرتنا على التمسك بتعهداتنا، وهو الذي طالما امتدح لمصر موقفها الرائع في مساعدتها الحلفاء!
ناپیژندل شوی مخ