وإن أعمال المنتدى العربي بإسطنبول، وشعبه في سائر بلاد العرب، وما كتبته جريدة (إقدام) التركية عن هذا المنتدى وعن العرب، وهجوم شباب العرب على مطبعة الجريدة المذكورة وتحطيمها، كل ذلك من الإشارات البارزة على ما وقع أخيرا، من انقطاع الصلة بين العرب والترك، لضعف آرائهم في قلب الإدارة السلطانية الخليفية إلى حاكمية ملية دستورية في زعمهم، وإبدال الهيمنة العربية الإسلامية بالسيطرة الروحية القانونية الغربية. ولله في خلقه شؤون.
وبعد أن تركز الأمر في إسطنبول، جاء الوالي فؤاد باشا - وسيدنا الوالد بالطائف - وهو عسكري برتبة فريق كان مستشارا للسرعسكر بإسطنبول، وهو غبي لا يدري من أين تؤكل الكتف. وكان قبل الطلوع إلى المصيف بالطائف، صدر أمر الأمير بغزو بني الحارث - بطن من بقايا الحارث الأول - وهي عشائر بين بلاد البقوم بوادي تربة وبين بلاد النفعة من عتيبة شرقي وديان الطائف، لقطعهم الطريق وعدوانهم على من جاورهم. وكانت هذه العشيرة تنزل شرقي بئر وهضبة سامورة بركبة.
فغزونا على ترتيب الغزو المعروف: قوة درك راكبة هجانة، وفرسان من خاصة الأمير، مع قوات من العشائر الطيعة. فجوزوا بما كانوا يفعلون، وخضعوا بعد ذلك وأطاعوا. ثم تبع هذا الغزو غزوة هذان (جبل بالحرة) على الطريق الشرقية من مكة إلى المدينة المنورة، وكانوا يخيفون الحجاج ولا يؤدون الزكاة، فغزوناهم بأمر الأمير وهو لا يزال بمكة المكرمة أيضا، على الترتيب السالف؛ وكانوا بمحل صعب، وكان ذلك اليوم يوما عجزت فيه القوة عن تأديب تلك العشيرة التأديب الكافي. ولقد أصابتنا إصابات بليغة، ولكن تراجعنا بعد أن قتل عدد من الشرفاء وصوب عدد، وقتل من القوة البدوية مشائخ وفرسان. وقد أصبت أنا برمية اخترقت فخذي، ولكن الله سلم. وعادت القوة إلى الطائف، وقد برئت بعناية الله في خمسة وعشرين يوما على يد طبيب عربي من ثقيف.
ولما وصل الوالد إلى مصيف الطائف، ولم تستأمن عشيرة مطير وتخضع، أمر بغزوهم مرة أخرى، فغزوناهم وكانوا قد تسهلوا وتركوا الوعر، فصبحناهم على بئر تسمى الروبلية، شرقي مران مسيرة يوم ونصف يوم؛ وكان التأديب وفق ما طلب، حيث خضعت العشيرة بعد ذلك وأصبح طريق الحاج، في ديار عتيبة ومطير، في غاية الأمان حتى بلاد حرب.
وبعد رجوعنا من هذا الغزو، وبعد وصول الوالي الجديد بأسبوع، وأنا بحضرة الأمير رحمه الله، بعد الظهر، وإذا بمذكرة ترد من الوالي، ففض ختامها وقرأها، وقال: هذا مجنون. ثم رمى بالمذكرة إلي، فلما تأملتها، وجدته يقول إنه تلقى برقية من مدير الجندرمة بمكة ووكيل الوالي، يقول فيها إنه تأكد من عزم فئة في مكة، يرأسها الشريف زيد بن فواز قائمقام الإمارة بالطائف، على حركة ثوروية يوم الجمعة، بهجوم يقومون به ضد سلطات الحكومة، ولذلك فإنه يطلب إلقاء القبض على الشريف زيد ومن معه، وسوقهم إلى التحقيق والمحاكمة. فأجابه على الفور، بأنه - أي الأمير - متوجه إلى مكة المكرمة للتحقيق في هذا الأمر، الذي هو عبارة عن فرية شائنة، دليلها نسبتها إلى الشريف زيد بن فواز، وهو المخلص الأمين، وأنه أقامه بالطائف وكيلا للإمارة علاوة على وظيفته.
وتحرك ركابه السامي - رحمه الله - بعد الظهر، وأصبح بمكة بعيد الشروق مع الطريق الطويلة، وأم الحميدية دار الحكومة، ونزل واستدعى وكيل الوالي مدير الجندرمة، وقال له: حضرت لتحقيق ما قلت إنه ثابت لديك، من حركة مدبرة في مكة يوم الجمعة، وإني آمر بإيجاد لجنة تحقيق، ترأسها أنت وقومندان العسكرية وقاضي مكة المكرمة، ويكون بها، باسم الأمارة، نجلي عبد الله. فامتثل وجمع اللجنة المذكورة.
وبالطبع، وحيث إن الخبر نشأ منه، سألته عن المصدر، فعجز عن إسناد ذلك إلى شخص مسؤول، وقال: أنا لا أستطيع بيان أسماء رجالي الذين يعملون ساهرين على الأمن العام. فقلت: أليست هذه لجنة تحقيق رسمية؟ وإن اتهاماتك موجهة لشخصية كبيرة في البلاد، ولسكان حرم الله، وإن لم تفعل فلا يسع اللجنة إلا أن تعتبر هذه الإخبارية كاذبة تسلب عنك الاعتماد. عند ذلك قال: إن زوجتي سمعت هذا الخبر، من امرأة كانت تصلي معها في المسجد الحرام، في قفص النساء. فقلنا: حسن، هذا طرف حبل ، ولكن من هي المرأة؟ قال: لا تعرفها ولا يمكن العثور عليها.
فهيئ المحضر للجلسة على هذا النمط، ووقعه أعضاء اللجنة، وهو منهم، وقال: هذه وظيفتي، سمعت وكتبت. ورفعت اللجنة التقرير للأمير، وبرقية بمضمون ذلك للوالي بالطائف، واعتبرت المسألة مسألة افتراء ونذالة. وكتب الأمير برقية بالواقع إلى الصدر الأعظم بالأستانة، وكان يومئذ الصدر سعيد باشا، ووزير الداخلية رؤوف باشا.
ولما وصلنا الطائف بعد ثلاث، كان أمر عزل الوالي ومدير الجندرمة قد وصل، وكانوا على أهبة السفر.
هذه نبذة من نبذ الإدارة العثمانية، التي جرت إلى نفور العرب، تلك النفرة الهادمة لهذا الشرق الإسلامي، وكانوا هم السبب.
ناپیژندل شوی مخ