ودخل وهو يتمتم بما لا يمكنني أن أسمعه، ولكني رأيت بعيني خيالي مسافرا رابعا يتبعه هو كظله، ذلك هو الشقاق الدائم بين الشباب الغض المتطلب حياة هادئة ناعمة توافقه، والسن المتقدم الذي لا يريد إلا حياة رجعية محضة، وبينما أفكر في حالته التي ستنتهي على يد القاضي الشرعي، وإذا بشاويش المحطة يناديني قائلا: اطلع يا برنجي.
فسرت قليلا، وأوقفني ضابط «قطقوط» بنجمة واحدة لسة طاظة، ركب معي، فخرجت من الميدان بعد أن نظرت إلى الشاويش نظرة المنتصر الفائز، وعلى مهلي كمان، لم ينبس ببنت شفة، مع أن الراكب لو كان ملكيا لشرفت قسم الأزبكية بعد خمس دقائق.
هذه حقيقة أيها الملكيون من حضرة الكاتب إلى معالي الوزير، وإن أعوزكم برهانا، فأنا مستعد، وذاكرتي متينة تحفظ، وإليكم المثل الآتي في مذكرتي الآتية.
محسوبكم حنفي
المذكرة التاسعة
الناس مقامات، والعالم درجات، وفي كل مكان وزمان لا يزال لهذه النظرية أكبر أثر، ففي شون القطن شتان ما بين السكلاريدس والأشموني مثلا، وفي البورصة لا يمكن أن تضع في مستوى واحد: الريال الأمريكي مع الفرنك الفرنسي، وفي الشارع لا يتأتى أن تحس بالاحترام من نفر البوليس إلا إذا كنت ممن ينطبق عليهم الدور القائل «يا بو الشريط الأحمر ياللي.»
تصور جنيها إنكليزيا، وكورونا نمساويا أمام عيني صراف؛ لترى مظاهر الاحترام للأول، وآيات الاحتقار للثاني، كذلك نفر بوليسنا تراه لا يتجمل، ولا يظهر بغير حقيقته إلا أمام النجوم اللامعة، والتيجان الساطعة، وهذا هو الجنيه الإنكليزي في نظره، أما ذلك الثوب الملكي مهما كان لابسه، فهو ينظر إليه بنصف عين؛ لأنه أقل قيمة حتى من الكورون النمساوي.
هذه نتيجة خبير، درس حول هؤلاء المحترمين القابضين بأيد من حديد على أعنة البلد في الطرق والشوارع، فتراه أمامك ما دامت الأحوال هادئة والسلم مستتبا، أما إذا نشبت معركة، ودار الضرب فيها على كل لون، فلا تعود تسمع وقتئذ صوت «مزيكة» حذائه فضلا عن صوته حتى انجلت المعركة، يظهر وقتئذ آمرا ناهيا «على إيه مش عارف.»
مضت أيام على حادثتي الماضية، ولا تزال آثار البهدلة عالقة بفكري، كلما مررت بشارع عباس قريبا من الطريق إلى حدائق القبة، وحدث ذات مساء أن أوقفني صاحب تاج من التيجان المحافظة بشارع محمد علي وركب، وأمرني أن أقصد سولت، ووصلنا، فأمر الخادم أن يجهز له «اثنى عشر «ميل فوي» وقليلا من الساندوتش والمارون جلاسيه» وأخذنا الربطة وسرنا إلى آخر شارع بولاق أمام الحديقة المختصة بالأطفال والسيدات، وفي منعطف هناك وقفنا بجانب باب صغير عليه يافطة، قرأت عليها «محل خياطة مدام ...» وصعد صاحبنا ثم نزل ومعه «تخت» والناس مقامات، ولا تليق بتاجه الساطع إلا ست - على رأيهم - مملكة، امرأة نصف ربيبة نعمة، وبنت مجد تليد على ما يرى الناظر.
ركبت، فمالت عربتي ذات اليسار ثم تبعها «محرر المحاضر» وعلى حدايق القبة وسوق يا حنفي.
ناپیژندل شوی مخ