والتفت إلي بهدية من يده الثقيلة، نزلت على صدري فلبشته قائلا: أمال سايب الدنيا تهوي، وقاعد هناك والعربية داير فيها اليخني؟
فقال له البيه: اختشي يا شاويش عيب. - عيب! طيب اتفضل على القسم معايا، أشوف العيب على مين فينا، والسيدة أثناء ذلك كادت تفقد رشدها، وصاحبنا ملخوم، وتلعثم لسانه الذي كان طلقا منذ هنيهة، وبالاختصار قبل ما تتلم الناس اضطررت أن أتداخل، ووجدنا الحل النهائي للمسألة في ورقة ذات لون غير أبيض، أخرجها صاحبي من جيبه، وأوصلها إلى يد حارس الآداب العمومية بلطافة، فجاءت كبرشامة الكالمين، عقب هياج حاد هدأت بعدها أعصابه، فقال: لكن ده مش كويس أبدا، سوج بجى يا أسطى من هنا.
فسرت وأنا أقول في نفسي «ليحيا العدل»!
كل هذه الذكريات جالت في خاطري، وأنا في طريقي إلى الموقف، فلم أنتبه إلا على صوت يناديني قائلا: استنى يا بو محمود، ألا البيه مسافر على العزبة.
والبيك هذا أيها الزبون الأديب عمدة من العمد الملآنين، يربو سنه على الستين، وجيه وجاهة قروية خشنة، انتفع بأحلام سنة 1919، لم يهده الله إلى قراءة مقالات حسين بك هلال - لا تتبعوا أقطانكم إلا بمائتي ريال - فعرف كيف يستفيد، وامتلأت الخزانة على سعتها، واضطرته كثرة الخيرات أن يتزوج مرة ثانية فتزوج، وما أسهل الزواج لمثله، والمال مبرر لكل جريمة، والمسكينة من خريجات السنية منذ عام، لم تتجاوز الستة عشر عاما، قضى عليها جمالها الفضاح أن تذوي في غرة صباها «قتيلة الورق الفسدقي».
ولا أصف لك فصل الوداع الأخير، والحزن الذي استولى على نفسي ساعة رأيت «الكتكوتة» التي كنت أراها منذ سنتين تقفز أمامي إلى مدرستها، وهي ساهمة مفكرة حزينة، تركب عربتي إلى منفاها كما تظن، بالاختصار ركب الثلاثة: البيه والست معا، وقفز برعي خادمه الخصوصي، وسرنا على بركة الله بدون لخمة ولا خوتة؛ لأن العفش سبقنا على المحطة مبكرا.
وصلنا إلى بار اللواء، وميدان القتال الداخلي هادئ، لم يتبادل الفريقان بعد الحديث، وعند البنك الأهلي سمعته يقول: انتي يا ستي زعلانة ليه، هي البلد يعني اللي ما فيهاش شكوريل ولا سمعان أو هباب أزرج ما ينقعدش فيها؟ - ولا حنا هنا. يا ستي متردي، كلها يومين ونرجع والله، انتي زعلانة علشان الست الوالدة مش معانا؟ نبعت نيجبها؟ مش كده يا برعي؟
فأجابه برعي بدون أن يسمع قائلا: بريمو، سكندو، أهو كله وابور، ورايحين البلد رايحين.
فقهقه البيك قائلا: الله يجازيك يا برعي، إحنا ف إيه ولا ف إيه؟ أنا بجول على الست يا ولا يابن المرتوب.
ووصلنا أخيرا إلى المحطة ونزلوا، والبنية لا زالت كما هي عليه، وبرعي يسير كظلها، وأعطاني البك أجرتي، وهو يقول: دي مش عيشة، كأن الواحد واخدها اللومان.
ناپیژندل شوی مخ