استدعاني حسين سري باشا أثناء اشتغاله بتأليف الوزارة إلى دار رئاسة مجلس الوزراء، وكان معه المرحوم الدكتور علي إبراهيم باشا (وزير الصحة في هذه الوزارة) فعرض علي أمر اشتراكي في هذه الوزارة، فشكرته شكرا عميقا على تقديره لي، وقلت له إني لا أستطيع أن أبدي رأيي النهائي إلا بعد الرجوع إلى اللجنة الإدارية للحزب. قال: ولكن الأمر مستعجل وستؤلف الوزارة الليلة. فقلت له: إن في الإمكان استدعاء أعضاء اللجنة على عجل لتجتمع اليوم وتقرر ما تراه. قال: إذن أرجو بعد صدور قرارها أن تبلغني بفحواه تليفونيا اليوم قبل الساعة السادسة مساء. وأعطاني رقم تليفونه الخاص لأتصل به مباشرة في دار الرئاسة، قال: وأرجو حين تعرض المسألة على اللجنة أن تعرضها بروح الاعتدال والموافقة. فوعدته وكررت له شكري. ثم اتصلت بإخواني واجتمعنا واتفقنا رأيا على الاعتذار. ومع تقديري لحسن ظن حسين سري باشا بشخصي فإني وإخواني رأينا أنه لم يكن بد والحرب قائمة من أن يكون برنامج الوزارة هو تنفيذ معاهدة سنة 1936 بروح الود والإخلاص، وقد رأينا في هذا البرنامج ما يتعارض مع سياسة الحزب الوطني؛ وعلى ذلك لم يكن بد من الاعتذار. وقد حافظت على موعدي مع سري باشا في إبلاغه ما استقر عليه رأي اللجنة، وإذ كان الوقت قد أزف فقد اضطررت إلى أن أتصل به من مكتب أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام، وكنت على موعد معه، وطلبت الرقم الخاص الذي أعطاه لي سري باشا فرد علي شخصيا، وقال لي: خير ! فقلت له: أنا آسف يا دولة الرئيس أن أعتذر؛ فقد اجتمعت باللجنة واللجنة قررت الاعتذار، وإني على كل حال شاكر لدولتك حسن ثقتكم بي، وأرجو لدولتك كمال التوفيق. فقال لي: إني كنت أود أن تكون معنا لنتعاون على خدمة البلاد. فكررت له اعتذاري وشكري، وانتهت المكالمة على ذلك. وكان أنطون بك الجميل على مكتبه يتتبع عباراتها، فلما انتهت قال لي: لقد علمت قبل حضورك أنك دعيت للاشتراك في الوزارة، وكنت أود أن أهنئك بها، ولكني الآن أهنئك باعتذارك عن عدم قبولها. ثم سكت قليلا وقال: رأيتك تعتذر ببساطة عن اشتراكك في الوزارة كما يعتذر الإنسان عن حضور حفلة شاي! وبعد أن سكت هنيهة قال مبتسما: وهل تظن يا عبد الرحمن بك أن الأمة تقدر مثل هذه المواقف؟ فأجبته على الفور: إني أشك في ذلك، ولكن هكذا أنا مرتاح ومطمئن. ثم عاد وقال: أظن أنه سينعم قريبا على الوزراء الجدد برتبة الباشوية (وقد حصل) أفلم تكن الفرصة سانحة لتنال هذه الرتبة التي تستحقها ونناديك يا عبد الرحمن باشا؟ قال ذلك متفكها، فقلت له: ما دمت قد اعتذرت عن الوزارة فإني أعتقد أن الوزارة أهم من الباشوية ... (10) إسقاطي من وكالة نقابة المحامين (ديسمبر سنة 1940)
في ديسمبر سنة 1939 على عهد وزارة علي ماهر باشا، صدر مرسوم بتعيين أعضاء مجلس نقابة المحامين، ومنهم الرئيس والوكيل، وكان صدور هذا المرسوم باتفاق جمهرة المحامين على اختلاف أحزابهم، وحسم خلافا كان قائما بين المحامين بعضهم وبعض، وفي هذا المرسوم عين المرحوم الأستاذ محمود بسيوني نقيبا، وعينت أنا وكيلا للنقابة، والأستاذ محمد توفيق خليل بك أمينا للصندوق، والأستاذ عبد الحميد عبد الحق «باشا» سكرتيرا، وكامل صدقي بك «باشا» وغبريال سعد بك وإدوار قصيري بك ومحمد عبد الملك حمزة بك والأساتذة محمد صبري أبو علم «باشا» وراغب إسكندر وعلي أيوب ويوسف الجندي ومحمود سليمان غنام ومحمود صبري وعبد الحميد لطفي أعضاء.
ولوحظ في هذا المرسوم أن تكون الأحزاب كلها ممثلة في مجلس نقابة المحامين، وكنت بصفتي وكيلا للنقابة أمثل المحامين الوطنيين، وصادف هذا التعيين ارتياح المحامين لأنه كان نموذجا للائتلاف بين الأحزاب وتوحيد الكلمة في محيط المحاماة، وكان يمكن أن يكون مثلا لتوحيد الصفوف وائتلاف الأحزاب في المسائل القومية عامة.
وقد عمل هذا المجلس سنة كاملة في روح من الود والتضامن وصفاء النفوس بين أعضائه ولم تفرق بينهم الحزبية في أي أمر من الأمور.
فلما جاء موعد الانتخابات السنوية للنقابة اجتمعت الجمعية العمومية يوم الجمعة 27 ديسمبر سنة 1940 بدار النقابة بشارع الملكة، وجلس أعضاء المجلس على منضدة في صدر المكان، وجلست أنا إلى يمين الأستاذ محمود بسيوني. وكان الاتفاق كما أبلغني أقطاب الوفد في مجلس النقابة أن يعيدوا انتخاب الأستاذ محمود بسيوني نقيبا ويعيدوا انتخابي وكيلا للنقابة كما كان الوضع السابق، وذهبت مطمئنا إلى مكان الاجتماع، وجلست مطمئنا أيضا طيلة المدة التي اجتمعت فيها الجمعية العمومية، وكان المحامون الوفديون يهنئونني مقدما بإعادة انتخابي وكيلا فازددت اطمئنانا إلى وعودهم. فلما تم انتخاب النقيب وفاز الأستاذ محمود بسيوني جاء دور انتخاب الوكيل، وكنت أيضا إلى اللحظة التي أعطيت أوراق الانتخابات مطوية إلى سكرتير النقابة مطمئنا إلى إعادة انتخابي للوكالة، ولكن في أثناء فرز الأوراق لاحظت أن أصواتا كثيرة أعطيت للأستاذ محمد صبري أبو علم، وكان عضوا بالمجلس، وأخذت أصواته في الازدياد حتى زادت على الأصوات التي أعطيت لي، وعلمت بعد ظهور النتيجة أن الوفديين نقضوا عهدهم معي واتفقوا سرا في آخر لحظة على أن يجعلوا النقابة وفدية لحما ودما، فرشحوا فيما بينهم الأستاذ صبري أبو علم للوكالة، وكانت كلمة السر تتنقل بينهم من جماعة إلى جماعة بحيث لم يشعر بها أحد سواهم، ولم أشعر أنا طبعا بالمؤامرة إلا بعد نفاذها؛ وعلى ذلك سقطت في الانتخاب لوكالة النقابة!
كان لهذا الحادث وما انطوى عليه من نقض العهد والحزبية الجامحة ضجة استياء في الأوساط المثقفة، واستاء لها على الأخص الأستاذ يوسف الجندي الذي كانت تجمعني وإياه صفوف المعارضة في مجلس الشيوخ، واستنكر فعلة المحامين الوفديين معي - وكان بعيدا عن المؤامرة - فأبدى لي أسفه الشديد على هذه الفعلة ورجا مني ألا يكون لها أثر في نفسي يغير من موقفي في المجلس بصفتي معارضا، فقلت له إن معارضتي ليس أساسها ارتباطي بالوفديين - وكانوا وقتئذ في المعارضة - بل أساسها إيماني بالمعارضة، فليطمئن من هذه الناحية.
وهكذا تعددت دلائل نقض العهد معي من الوفديين، فلم أستغرب ما فعلوه هذه المرة، ولكن الأمر الذي حز في نفسي أن يساير المحامون وهم الصفوة المختارة من الطبقة المتعلمة هذه السياسة الملتوية ويعاملوني هذه المعاملة الخالية من روح الاستقامة والتقدير والإنصاف، فهل تطغى الحزبية على هذه المعاني السامية إلى هذا الحد؟! (11) الخلاف في الحزب الوطني
كان اشتراك حافظ رمضان باشا في وزارة حسن صبري باشا سببا لخلاف كبير بين أعضاء الحزب الوطني، وقد بدأ هذا الخلاف في دائرة ضيقة باشتراكه في وزارة محمد محمود باشا سنة 1937؛ إذ كان اشتراكه بغير قرار من اللجنة الإدارية للحزب، فلما فوتح في ذلك اعتذر بأن الوقت لم يكن يتسع لعقد اللجنة قبل تأليف الوزارة فإنها ألفت على عجل، وسكتت اللجنة حتى استقالت وزارة محمد محمود وألف وزارته الثالثة دون أن يشترك فيها حافظ رمضان باشا. فلما وقعت أزمة يونيو سنة 1940 واستقالت وزارة علي ماهر باشا اجتمعت اللجنة الإدارية للحزب يوم 24 يونيو وبحثت في الموقف وهل يشترك الحزب في الوزارة الجديدة إذا دعي لذلك أم لا يشترك، فقررت اللجنة عدم الاشتراك فيها. ثم ألفت وزارة حسن صبري باشا وفيها حافظ رمضان باشا، فوقع الانقسام في اللجنة الإدارية بين معارض لموقف حافظ باشا لمخالفته قرار اللجنة ومؤيد له في موقفه، وبقي هذا الخلاف قائما وشعبتا اللجنة على خلاف بينهما إلى أن تم الصلح بين الفريقين وعادت الوحدة إلى اللجنة في نوفمبر سنة 1946. (12) الصلح بين فريقي الحزب الوطني (نوفمبر سنة 1946)
ما فتئت المساعي تبذل من وسطاء الخير في إزالة أسباب الخلاف والانقسام في الحزب الوطني، وكنت من ناحيتي أرحب بكل مسعى لهذا الغرض، بل كنت أسعى بنفسي لذلك، لأني لم أكن مرتاحا مطلقا لوجود لجنتين إداريتين للحزب كل منهما تعارض الأخرى. وإذ كان الاشتراك في الحكم هو سبب الانقسام فإني كنت أسعى لصيغة للاتفاق تكون مقبولة من الطرفين، وقد اتفق الرأي على ألا يشترك الحزب في وزارة إذا كان برنامجها يتعارض مع مبادئه، وأن يكون هذا هو أساس الاتفاق؛ لأن الأصل في تأليف الوزارات وقيامها وتغييرها أن تقوم على تحقيق مبادئ وغايات معينة تؤمن بها الجماعات والأشخاص الذين يشتركون فيها. وقد تجدد هذا السعي في سنة 1943، ولكنه أخفق، ثم استمر إلى سنة 1946. وكان من أبرز وسطاء الخير في هذا الصدد محمد زكي علي باشا وفكري أباظة باشا؛ فإنهما - والحق يقال - كان لهما فضل كبير في إزالة أسباب الانقسام، وقد تم الصلح في نوفمبر سنة 1946 واتفقنا على صيغة عامة أبلغناها إلى الصحف وهي: «في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد وحيال الأحداث التي تهددها في كيانها ووحدتها واستقلالها، رأى رجال الحزب الوطني أن يزيلوا ما بينهم من خلاف لكي يعيدوا الوحدة إلى صفوفهم ولتكون دعوتهم إلى وحدة صفوف الأمة أقوى وأدعى إلى الاستجابة؛ ولذلك اجتمعوا وتم الاتفاق بينهم وعادوا إخوانا متضامنين في العمل والجهاد.»
ونشرت «الأهرام» هذه الصيغة بعدد 7 / 11 / 1946 مع تعديل عبارة: «في العمل والجهاد» وجعلها: «في خدمة البلاد»، وكانت الرقابة على الصحف لا تزال قائمة، ولعلها أشارت بهذا التعديل الذي لا يغير من جوهر البيان شيئا.
ناپیژندل شوی مخ