في هذه الأيام كانت هناك خلافات ومشاحنات سياسية بين البرازيل والأرجنتين. وكانت هذه المشاحنات قد كهربت الجو بين أهالي البلدين، وكثرت العيون والأرصاد في قطارات السكة الحديدية، إذ جندت الأرجنتين كثيرين من المخبرين وخصصتهم للخدمة في القطارات.
قابل التوني في طريقه أحد جرسونات القطار فجرى بينهما حديث. والتوني الله لا يكسبه يعرف له كلمتين ثلاثة إسبانيولي: سأله الجرسون: «حضرتك برازيلي؟» وأجاب التوني متعنطزا: «لا فشر أنا شمالي!» آل يعني أمريكاني أصلي من الولايات المتحدة. ولم يدر العبيط أنه زاد الطين بلة.
عاد إلي حضرته شامخا يقص حديثه مع الجرسون، فقلت: «بس والله وديتنا في شربة ميه يا سي التوني. يعني مش كفايه ان التراخوما بتعتك تشحططنا الشحططة دي وتلففنا في المجاهل اللي ما قدرش خريستوف كولومب يوصل لها. وفي الآخر كمان تسلط علينا فلسفتك تخرب بيوتنا!؟».
لم أكمل هذا الحديث حتى فتح باب الصالون «خواجة» طويل عريض وطلب منا أوراقنا!
مشكلة!
أوراقنا!! والله جالك الموت يا توني أنت ونجيب!! هو احنا يا حسرة معانا أوراق؟ ... داحنا تفليتة، وهربونا أولاد الحلال. ونظر إلي التوني وأراد أن يمدني بشعاع من عبقريته. فوضع يده في جيبه وقال لي بالعربية: «طلع الباسبورت وحطه في عينه كمان». وسارعت لاعنا أبا خاشه قائلا له: إوعى تعملها يا ابن الفرطوس، أحسن نروح في داهية. هي الباسبورتات بتوعنا عليها تأشيرة بدخول الأرجنتين يا مفش، واقتنع التوني بقولي فأخرج يده من جيبه من غير باسبورت ولا دياولو وتشجعت ثم قلت لهذا الخواجة: «ليست معنا أوراق باسبورت لأننا لسنا آتين من الخارج، بل كنا نزور صديقا لنا في «سان خوسيه» ونحن عائدون الآن إلى بونس أيرس، وإذا شئت برهانا على قولي فانتظر حتى نصل إلى العاصمة، وهناك ترى زوجتي وابنتي ينتظراني على الرصيف. وظللت أتلطف مع صاحبنا هذا وأداري سوأة التوني إلى أن وصلنا بالسلامة، دون أن يفارقنا مخبر الهنا. وكانت دهشتنا عظيمة حين رأيت بديعة وجوجو والبقية المحترمة، وقد أحضروا معهم جوقة موسيقية، تقول لجوقة حسب الله قومي وأنا أقعد أزمر مطرحك وهات يا طبل وهات يا عزف. وكان استقبالا فخما لم يستطع معه مخبر الأنس أن يقول لي تلت التلاتة كام. وكانت بديعة قد أعدت معدات العمل، واستأجرت المسرح الذي نعمل به، فلما حان موعد التمثيل، لم يتملكنا شيء من الاضطراب الذي شعرنا به في أول مرة بسان باولو، بل ظهرنا بقلب جامد، ونجحنا نجاحا «جامدا» كذلك. وطنطنت الصحف هناك بالفرقة وأفرادها ومقدرتهم التمثيلية، وخلعت علي لقب «برافتشيني دلاكايرو» أي برافتشيني بتاع القاهرة. وبرافتشيني هذا، هو ممثل من أساطين الفن في تلك البلاد.
العودة إلى مصر
كانت محبة إخواننا السوريين لي وللفرقة طوال المدة التي تنقلنا فيها بأمريكا الجنوبية مما يجل عن الوصف. أحيينا أربع ليال في بونس أيرس كان النجاح فيها حديث الجميع، ثم زرنا مدن روساريو وقرطبة وتوكومان. وهناك كنت أنشر الخريطة بين يدي، وأضع إصبعي عند المكان الذي نحن فيه ثم أنقله إلى موقع مصرنا المحبوبة، فأقول ... إحنا فين وأنت فين يا حبيبتي يا مصر؟ وهل يكتب الله لنا أن نعود إليك في سلام وخير؟ بعد اجتياز هذه المجاهل التي ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف؟!
وبعد ذلك عدنا إلى بونس أيرس مرة أخرى، ومثلنا بعض الروايات. والغريب أن الجمهور كان لا يكاد يسمع صوتي من بين الكواليس قبل الظهور على المسرح، حتى يصرخ مصفقا، وكأننا نمثل بين جمهورنا المحبوب في مصرنا العزيزة.
رحلات مختلفة
ناپیژندل شوی مخ