1 - نجيب الريحاني كما عرفته
2 - أول الطريق
3 - ثروة أضعتها
4 - في المسرح الكوميدي
5 - كشكش بك
6 - في خدمة الوطن
7 - كشكش تقليد
8 - في أمريكا الجنوبية
9 - عودة إلى: كشكش بك
10 - إلى الأقطار الشقيقة
11 - بين المسرح والسينما
1 - نجيب الريحاني كما عرفته
2 - أول الطريق
3 - ثروة أضعتها
4 - في المسرح الكوميدي
5 - كشكش بك
6 - في خدمة الوطن
7 - كشكش تقليد
8 - في أمريكا الجنوبية
9 - عودة إلى: كشكش بك
10 - إلى الأقطار الشقيقة
11 - بين المسرح والسينما
مذكرات نجيب الريحاني
مذكرات نجيب الريحاني
تأليف
نجيب الريحاني
مقدمة
صاحب المذكرات
بقلم نجيب الريحاني
قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الأمر كثيرا، لا لشيء إلا لأنني خلقت صريحا، لا أخشى اللوم في الحق، ولا أميل إلى المواربة والمداراة. فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحليا بهذه الخليقة؟ أم يدفعني ما درج الناس عليه من مجاملة إلى المواجهة والتهرب؟
ذلك هو موضع التفكير الذي لازمني قبل أن أخط في مذكراتي حرفا واحدا. أما وقد ارتضيت، فقد آليت على نفسي أن أملي الواقع مهما حاقت بي مرارته، وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالني قبل أن ينال غيري ممن جمعتني بهم أية جامعة، وربطتني بهم أقل رابطة.
ومضيت في مذكراتي على هذه الوتيرة، فإذا بي أشعر في دخيلة نفسي أنني أؤدي واجبا مفروضا، هو في الحقيقة تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادنا العزيزة، وأصارح القراء الأفاضل بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.
على أنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم، ولكن أحدا لا يستطيع أن يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا، لأنه إن حاول أن يفعل، وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد.
فهناك الزميل القديم علي يوسف مثلا ... لقد شرحت الكثير مما كان بيني وبينه من مواقع حربية في ميدان الغرام والهيام، وكذلك الحال مع السيدة (ص. ق) التي بلغ تنازعنا عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة ... كل ما ذكرته عنهما حقائق صادقة.
ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسوءهن أن أكشف عن حقيقة رابطتهن الأولى بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة. وقد سبق لهن أن تحدثن إلى الصحف كثيرا، وشرحن تاريخ حياتهن كثيرا، ودبجن المقالات كثيرا، فشرحت كل منهن كيف كانت تمثل أمام المرآة، وكيف شغفت بالتمثيل منذ الصغر، وكيف عشقت الفن لذاته ... وكيف، وكيف مما لست أذكره، ولكن هل ذكرت في أحاديثها - ولو من باب تقرير الواقع (وبلاش المجاملة حتى) - شيئا عن كيف تقف على المسرح، وكيف تنطق أبجديته؟ أبدا ... وكأنه من العار عليها إذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني ... (وبلاش) مبتدئات يا سيدي!!
الفصل الأول
نجيب الريحاني كما عرفته
نجيب الريحاني بقلم الأستاذ بديع خيري
ليس غريبا أن تفكر دار الهلال - بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني - في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه، فشعارها كان دائما - ولا يزال - «لا يصح غير الصحيح، ولا يبقى إلا الأصلح». ونشر هذه المذكرات، وفي هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الأصيل في شخص كرس حياته لفنه.
وحينما دعتني دار الهلال أن أقدم لهذا الكتاب عن مذكرات أخي وصديقي الراحل نجيب الريحاني، غرقت في لجة من الذكريات، وعادت ذاكرتي إلى أيامنا الماضية، ومرت بخاطري صور الكفاح، وأدركت أنه ليس من السهل على المرء في بعض الأحيان أن يعبر عن نفسه، خصوصا حينما طالعت المذكرات، ووجدت أن الراحل الكريم قد وفى كل نقطة حقها، بصراحته المحبوبة وأسلوبه الشائق. ومن بين صفحات مذكراته برزت حياته الحافلة التي كرسها للمسرح وحده، وبرزت صور الكفاح حية نابضة بالحياة.
هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر ... وذكريات ... وصور، جمعتها أشتاتا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك ...
والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانا ... فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا.
كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل ... ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر.
وكثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى الله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال ... دون أن يراه أو يصل إليه!
ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل ... وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان - مهما كانت الظروف - أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه ... وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته.
وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام 1942، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: «خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي»!
ولعل «نجيب» هو الممثل الوحيد - بل رئيس الفرقة الوحيد - الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: «خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف». ولهذا السبب كان يهتم جدا بالبروفات، وكثيرا ما كان يقضي شهرا كاملا في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته.
ولم يكن الريحاني الفنان يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط - لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية - ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، والهمبرا بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا. •••
لقد كان فنانا أصيلا، مؤمنا بفنه ورسالته، وقد كوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه. ولكن أكبر مكافأة وأعزها بالنسبة للريحاني كانت من أمه التي حاربت فنه واحتقرته، فقد أثمرت جهوده زهوا وفخارا من الأم بعمل ابنها، لذلك لم يكن يمل من رواية القصة التالية، في فخر وإعزاز وسعادة: «كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل. وحدث أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمى، فأرهفت أذنها لسماع الحديث، وأصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. وما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي، وامتداح عملي، والإشادة بمجهودي ... أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة، التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة «المترو»، واتجهت إلى أولئك المتحدثين، وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل»! ... وخللي بالك من «الممثل» دي، وهي الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، قد أضحت موضع زهوها وفخارها! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله، فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها ويمتدحونه، فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد، أيام حياتي»!
ولقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة جومون الفرنسية عددا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم ياقوت، بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات!
وفي حفلة أقامها نادي الضباط المصري قدم الريحاني مسرحية «حكم قراقوش» فهرع إلى تهنئته والإعجاب به سير سايمور هيكس، عميد المسرح الإنجليزي إذ ذاك، وقرر أنه إنما يشهد ممثلا في الصف الأول من الممثلين العالميين.
ولقد لقي الريحاني تكريم عظماء عصره، وكان من بين المعجبين به طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وتوفيق نسيم، وغيرهم.
ولقد كانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في «الميزانسين» - أي ترتيب حركة وأوضاع الممثلين - تخالف المألوف ... كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية دون تغيير أو تبديل! •••
والصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارا على المسير في الاتجاه الكوميدي. ولقد كان الريحاني يحب الدراما، وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته «جورج الريحاني» الذي اختفى قبل موته بسنوات طويلة لغير ما سبب. وقد ظل سبب اختفائه حتى مات نجيب الريحاني - ولا يزال - لغزا غامضا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهب واعتكف في أحد الأديرة!
وكان الريحاني يحن من وقت إلى آخر للدراما، ولكنه كان لا يلقى تجاوبا من الجمهور، ويقول الريحاني نفسه عن ذلك: «بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي هذه الديون من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة ... كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدراما من غير «إحم» ولا «دستور!».
نعم ... أجبره جمهوره على ترك الدرامة، فقد كان الجمهور يراه فكها بالسليقة، أو كما عبر عنه أحدهم: «لا تتمالك أن تراه حتى تضحك، ولو من تكشيرته ووجهه المكفهر»! والواقع أنه حتى في تعبيراته وإيماءاته وحركاته كان فكها غير متكلف. كانت الفكاهة في دمه، وكان الممثل المفضل عنده هو شارلي شابلن، الذي كان يعتبره فيلسوف الفن، ولك أيها القارئ أن تقارن بين المعجب والمعجب به. لقد كان كلاهما فيلسوفا، وكانت فلسفة الضحك على نقائص المجتمع الذي يعيش فيه، فلسفة إصلاح تهدف إلى علاج هذه العيوب بإبرازها في شكل يجعلنا نضحك منها ونسخر!
ومع ذلك فقد كان لا يفتأ يعاوده الحنين إلى الدراما، فلما كتب عليه ألا يمارسها، كان يرضي ميله هذا بتغذية مسرحياته الفكاهية بالكثير من الدراما، ولولا محاولاتي الدائمة للحد من هذا الاتجاه، تمشيا مع رغبات الجمهور الذي كان يرى أنه خلق للفكاهة، لتمادى فيه! •••
والصورة الثالثة ... هي صورة الريحاني الوطني الثائر، الذي جعل من المسرح منبرا للوطنية ... الرجل الذي عالج السياسة بالفكاهة، وفتح عيون الجماهير إلى سوء حالها، وهاجم الإنجليز وأعوانهم في مسرحياته وتهكم عليهم، فلقي من عنت الاستعمار، واضطهاد السراي، الشيء الكثير. ويقول نجيب الريحاني في مذكراته: «حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال، وذلك النجاح، أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي: فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان يغازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية»!
وأشهد أن الريحاني لم يأبه بهذه الحملات على شخصه، وظل سادرا في حملاته التهكمية اللاذعة، فالريحاني إذن قد مهد بفنه للثورة الحديثة التي حررت مصر من الأدواء التي ضحك منها وتهكم عليها، وعلى رأسها الاستعمار والاستبداد والطغيان والاستغلال. واستمع إلى أغاني سيد درويش التي ضمنها الريحاني مسرحياته، تستمع إلى ثورة متأججة في سبيل العزة والكرامة والحرية. لقد كان الريحاني هو الفنان الوحيد الذي وقف في وجه السراي، وتهكم على الجالس على العرش، وأبرز مساوئ محترفي السياسة وأضحك الناس عليهم جميعا، مما أثار حقدهم وغضبهم. •••
والصورة الرابعة هي صورة الريحاني الإنسان الوفي لأصدقائه وأبناء مهنته. كان الريحاني يفر من الحفلات العامة، ولكنه لا يتردد في حضور حفل يقيمه أصدقاؤه، وكثيرا ما كان يقيم لهم الحفلات، وكان مبالغة في التكريم يطهي لهم لونا من ألوان الطعام، وإن لم يتسع له الوقت كان يصنع السلطات. ووفاؤه وحبه لخادمه النوبي «حسن صالح» - الذي اشتهر فيما بعد «بحسن كشكش» - يعد مضرب المثل. فقد كان نجيب يعتبره «قدم سعد»، إذ اقترن عصره الذهبي في المسرح بالتحاق حسن بخدمته. ومن بين النساء كانت صديقته «لوسي دي فرناي» هي التميمة السعيدة التي صحبت عشرته لها السعادة في الحب والمال. ويقول نجيب: «كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها».
وكان الريحاني يؤمن بالحظ والفأل والأحلام. استمع إليه يقول حين اختلف مع صديقته لوسي وفارقته: «في أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بين الصديقة لوسي وبيني، فافترقنا إلى غير عودة، ويقيني أن هذا الفراق كان أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأسي، وساقها إلي حلقات متتالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر، وحظ العمر»!
ولعل إنسانية الريحاني تبرز وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته. •••
هذا هو الريحاني الذي تقرءون مذكراته اليوم ... الريحاني الفنان الأصيل، الذي كرس حياته لفنه الذي أحبه، وضحى بكل شيء في سبيله، ولقي الاضطهاد والحرمان والجوع في سبيله.
وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلا ... معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه ... معناه أن الفنان الصادق لا يموت.
الفصل الثاني
أول الطريق
لست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذي تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلا إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا ... أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره أهلي طالع يمن وإقبال ... أو ... أو مما لا أرى فيه للقراء من فائدة، ويكفي أن أقفز بهم إلى سن السادسة عشرة، حين غادرت مدرسة الفرير بالخرنفش، بعد أن تزودت بالمئونة الكافية من تعليم وخبرة.
كنت في عهدي هذا أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية، وأتوسع في الحصول على أكبر قسط من فنونها ولاسيما الشعر وتاريخ الشعراء.
لم أكتف إذ ذاك بما كنت أتلقى في المدرسة فجيء لي بمدرس خاص اسمه الشيخ بحر، كان يسر كثيرا حين كنت ألقي بعض المحفوظات بصوت جهوري، ونبرات تمثيلية، وإشارات تفسيرية، وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغا وعبقرية.
أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذي الشيخ بحر بي وبإلقائي، كذلك كانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات. وحين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفي البنك الزراعي بالقاهرة. وتشاء المصادفات الغريبة أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه عن موالاة التمثيل.
أول غرام
وهنا أرى أن أشير إلى أول رواية اشتركت في تمثيلها وهي رواية (الملك يلهو) وكان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض (بك).
وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية فليسمح لي القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي.
كنا نجلس في قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز (موضع سينما أولمبيا الآن) وكان بين الممثلين من زبائن هذه القهوة الممثل القديم علي أفندي يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات. وكان لعلي «قطقوطة» من بين الممثلات ما تزال إلى اليوم في عنفوان ... «الشيخوخة» تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا الموضع من قهوة إسكندر فرح، وتلك «القطقوطة» هي السيدة (ص. ق). كان علي يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة «باعتبار ما كان»، فلما كنت أذهب لأشاركهما في الحديث، كانت نظرة فابتسامة فمش عارف إيه ... فشبكان!!
وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة علي يوسف هذه، بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها، دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئا!!
وأخيرا «لعب الفار في عبه» ... وقاتل الله الفيران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في عب أبي يوسف. أقول إن الشك بدأ يساوره، لكنه كان علي جانب كبير من اللؤم، فلم يبد لنا شيئا مما في نفسه، وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر!!
يا مولاي
كنت في ذلك الوقت «ظبيا» في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى ألا مانع من الاعتراف أن «خلقتي» لم تكن لتقارن ب ... أستغفر الله العظيم، خلقة الصديق اللطيف علي يوسف، زد علي ذلك أنني كنت موظفا مضمون الإيراد، في حين كان منافسي (يا مولاي كما خلقتني).
كل هذه العوامل شدت أزري وقوت سببي فاتفقت مع الغزال النافر، على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيدا عن علي يوسف ورقابته القاسية.
ومعروف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين ... محبوبي!! على أن نغادر القاهرة ظهر السبت إلى الثغر، ثم نعود منه صباح الاثنين ولكن اسمع ماذا حدث ....
قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق علي يوسف وألح علي في أن أقرضه شيئا من المال لأنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، ولذلك يحتاج إلى كذا من»الفلوس»!! فأعطيته ما طلب ... وأنا أحمد الله على «زحلقته» وأدعو بطول العمر لأصدقائه أولئك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد. وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئنا. وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة سكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحا.
وسار القطار بنا ينهب الأرض نهبا ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم!
ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية فنزلنا نسير وخلفنا «الشيال» يحمل حقيبتنا «المشتركة» وما كدت أسير خطوات متأبطا ذراع المحبوبة، حتى برز أمامي عزرائيل! في ثياب الصديق الملعون ... علي يوسف!! لقد اقترض اللعين مالي ... واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا، وهو يمد يده لي بالتحية شاكرا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر، لحضرته ولحضرة بسلامتها «الست المصونة والجوهرة المكنونة» ... التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم ... ولات ساعة مندم!!
أصارحك أيها القارئ الحبيب بأن الدنيا أظلمت في عيني في تلك اللحظة. وأحمد الله إذ كنت خلوا من السلاح. ولم أكن أحمل حتى ولا سكينة البصل، فأغسل بها الشرف الرفيع من الأذى!! وذهب العاشقان بينما ظللت واقفا في مكاني، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماسا في أسداس!!
أحببت الدرام
ولنعد إلى غرامي بالتمثيل.
لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على الدرام وحده. وكم كنت أستظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري، ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخذ يا تمثيل، حتى ضجت والدتي وكاد «يهج» من البيت إخوتي. ومع ذلك فإنني لم أكن أعبأ بمثل هذه العراقيل، وما دمت أرضي هوايتي، فبعدها الطوفان. وفي سنة 1908 استقال الأستاذ عزيز عيد من عمله في البنك وألف فرقته التمثيلية الأولى، مشتركا مع الممثل القديم سليمان الحداد. وقد احتلت هذه الفرقة مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز. وكانت رواياتها تترجم عن الفرنسية وكلها من نوع الفودفيل، ولعل القراء الأفاضل لم ينسوا بعد روايات «ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«عندك حاجة تبلغ عنها» و«ليلة زفاف». وهذه الأخيرة ترجمها الأديب الكبير إلياس فياض.
وقد كنت بحكم ارتباطي برابطة الزمالة مع الأستاذ عزيز في البنك عضوا في الفرقة، وكانت تسند لي في هذه الروايات أدوار ثانوية صغيرة. ولم يكن هذا ليضيرني لأني - كما قلت - لم أكن أميل لهذا النوع إطلاقا.
وهنا كان إهمالي لعملي في البنك قد بلغ حدا لا يحتمله أحد والشهادة لله. فكم من ساعات بل أيام كنت أتغيبها وكم من ممثلة كانت تقتحم علي مكتبي في البنك - وخصوصا منية القلب الست «ص!».
ولم تجد إدارة البنك إزاء هذه الحالات الصارخة إلا أن تستغني عن عملي. وأي عمل يا حسرة؟ هو أنا كنت باشتغل؟!
السنافور مفتوح!
لم يكن لي مثوى بعد هذا «الرفت» القاطع إلا «قهوة الفن» - أمام تياترو إسكندر فرح - أو منزل (حبيبة الفؤاد) في غيبة «صديق الطرفين» الأخ علي يوسف!
وما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى علي بعدها. ذلك أن الفتاة - باعتبار ما كان - اتفقت وإياي على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نورا في النافذة، كان معنى ذلك أن علي بن يوسف غائب عن البيت، وأن في وسعي أن أزورها، والعكس بالعكس.
وفي إحدى الليالي تراءى لي أن نورا يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خال وأن السنافور مفتوح، فخلعت حذائي وتأبطته ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقا خفيفا جدا. وإذا الفاتح!! الفاتح هو غريمي العزيز علي يوسف!!! الذي تناول الحذاء من يدي، وتركني أعدو، إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين!!!
4 جنيهات شهريا
أعود إلى قهوة الفن إياها. فأقول إنني اتخذت منها - بعد فصلي من البنك - محلا مختارا. وبعد أيام صادفني فيها الأستاذ أمين عطا الله فعرض علي أن أسافر معه إلى الإسكندرية بدال اللطعة اللي أنا ملطوعها، لأن أخاه الأكبر المرحوم سليم عطا الله ألف فرقة هناك هي محل عطف البلدية التي تساعدها بإعانة مالية. وقبلت بالطبع هذا العرض ولاسيما أن المرتب كان مغريا جدا ... أربعة جنيهات مصرية في الشهر! وهو أول مرتب ذي قيمة تناولته من التمثيل.
كانت فرقة المرحوم سليم عطا الله معتزمة تمثيل رواية (شارلمان الأكبر)، ولما كان العرف يقضي إذ ذاك بأن يسند دور البطولة إلى مدير الفرقة - وهو سليم عطا الله - فقد كان نصيبي هو الدور الثاني وهو دور شارلمان نفسه!
وتهيأت لي الفرصة التي كنت أرقبها من زمن، وهي أن يسند إلي دور في إحدى الدرامات. وفي نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع، بين (شارلمان) وبين بطل الرواية (سليم عطا الله) وقد أجهدت نفسي في أداء هذا المشهد وبذلت قصارى جهدي. فكان لي ما ابتغيت. إذ حالفني النجاح بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمني الكثيرون أنني طغيت على البطل نفسه وأغرقته في لجة الإعجاب التي سبحت فيها ظافرا.
وحين أسدل ستار هذا الفصل، هالني أن جمهرة من الفضلاء والأدباء - وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة - صعدوا إلى المسرح وقابلوا المدير في غرفته، وطلبوا استدعائي حيث أجزلوا تهنئتي، ونصحوا للمدير بالاحتفاظ بي، لأنني سأكون - على حد قولهم - ممثلا لا يشق لي غبار.
وفرحت، لا بل «ظقططت» بعد هذا المديح الذي انهال علي من حيث لا أحتسب. وفي صباح اليوم التالي استدعاني الأستاذ سليم مديرنا (رحمه الله) فقلت يا واد جاك الفرج! وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التي سيتحفني بها وإن كنت أنا شخصيا قانعا بالجنيهات الأربعة التي ربطت لي.
وحبكت أزرار جاكتتي، ودخلت على مديري باسما متهللا معللا نفسي بالآمال قائلا في سري ... إنه يكفيني أن تكون العلاوة جنيها واحدا و«خليني» لطيف، لأن (الطمع يقل ما جمع). وبعد هذا الحوار الظريف بيني أنا نجيب الريحاني وبين نفسي التي هي أمارة بالسوء، ابتدرني المدير قائلا بتلك الجملة المأثورة التي لا يزال صداها يرن في أذني: - أنا متأسف جدا يا نجيب أفندي لأن الفرقة استغنت عنك ...!
يا نهار زي الحبر يا أولاد!! استغنت عني!! وهل يعتبر النجاح جرما يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لي الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ إلى السقوط التام والفشل الزؤام؟!
نهايته. لم أجد فائدة من الأخذ والرد فأخذتها من قصيرها وعدت أدراجي إلى القاهرة، وفي قهوة الفن متسع للجميع!! ومن فات قديمه تاه!!!
عود إلى الوظيفة
طال بي عهد الخلو من العمل، فحفيت قدماي سعيا، حتى كانت سنة 1910، حيث عثرت على وظيفة في شركة السكر بنجع حمادي فسارعت إلى تسلم عملي هناك، مبتعدا عن العاصمة وما فيها من شقاء، تاركا خلفي ذلك الوسط الخبيث، وسط التمثيل الذي أعشقه وأتمناه !!
وأظهرت نشاطا في العمل بشركة السكر كان موضع ثناء رؤسائي وإعجابهم. وبسم لي الدهر بعد عبوس وحالفني بعد خصام، وظللت أشق طريق المستقبل راضيا مطمئنا.
ودام الحال على ذلك سبعة أشهر فإذا المثل الخالد: «عند صفو الليالي يحدث الكدر». أقول إن هذا المثل تراءى لي شبحه بعد هذه الأشهر السبعة فقوض ما بنيت للمستقبل من قصور الآمال، وحملني توا من حال إلى حال. هذا «الكدر» سببته واقعة ... قاتل الله الشيطان ... واقعة أذكرها هنا من باب التسجيل فقط، وإن كان الخجل يكسوني كلما طوح بي الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة، ولكن ما باليد حيلة!!
كان باشكاتب الشركة رجلا مسنا اسمه (عم. ت) وكان رحمه الله على نياته وإذا ضربه أحد على خده الأيمن أدار له الأيسر، وكان كل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه. وكان مسكني مواجها لمسكنه وقد ولدت هذه الجيرة بيننا اتصالا وثيقا.
كانت السيدة حرم (العم ت) على جانب كبير من الجمال. وكانت في سن تسمح لها بأن تكون ابنة (للعم ت) لا زوجة له. كذلك كان الحال معي. وإلى هنا تسير المسألة في مجراها الذي ترسمه طبيعة كل شيء.
وفي أحد أيام الشهر السابع، اضطرت الأعمال حضرة الباشكاتب إلى السفر لمصر في مهمة مصلحية، وإذ ذاك خلا الجو للشباب. وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق السيدة بابها الخارجي، حتى أستطيع المرور في منتصف الليل! وتم الترتيب كما اتفقنا، وذهبت السيدة إلى مخدعها بعد أن تظاهرت أمام خادمتها أنها أقفلت الأبواب. ولكنني لا أدري أي شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك وإحكام القفل من الداخل. وحان موعد اللقيا فتسللت، وما أشد دهشتي حين وجدت الباب موصدا دون غرامي وأحلامي. واستشرت الشيطان فيما أفعل فدلني - قاتله الله - إلى منفذ في السقف (منور) تدليت منه ولكن الخادمة استيقظت في نفس اللحظة، وظنتني لصا يسطو على المتاع، فصرخت بصوتها المنكر، وصحا الجيران، ووفد الخفراء وألقي القبض علي. وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلي من عملي فعدت إلى محلي المختار في قهوة الفن بشارع عبد العزيز.
48 ساعة جوع!
لم يعد لي مجال في البيت بعد فصلي من شركة السكر، لأن والدتي كانت قد ضاقت بي، فأقفلت بابها دوني. وأنا رجل لم أعتد أن أطأطئ هامتي أمام أي خطب. فما العمل؟ وماذا أفعل لأحصل على القوت الضروري؟
أقسم أيها القراء الأعزاء أنني قضيت ثماني وأربعين ساعة لم أذق خلالها للأكل طعما. لا زهدا مني، ولا أسفا على شيء، ولكن لأنني لم أجد وسيلة أكتسب بها ثمن «لقمة العيش بلا أدام». ومع ذلك لم أحن رأسي ولم تذل نفسي، وبقيت أنا كما أنا ويفعل الله ما يشاء.
ولو كان أمري قاصرا على الجوع وحده لهان، ولكنني لم أجد كذلك مكانا آوي إليه كلما أدركني الليل، وذهب كل حي في المدينة يلتمس الراحة في فراشه. لذلك كنت أقضي الليالي وحيدا، أمكث في (قهوة الفن) إلى موعد التشطيب في الساعة الثانية من كل صباح، ثم أغادرها إلى كوبري قصر النيل، فأجوب تجاه الجزيرة سائرا على قدمي، حتى إذا أعياني الكد والنصب، استلقيت على الإفريز جانبا وتوسدت حجرا من أحجار الطريق مستريحا، إلى أن ترسل الغازلة أشعتها، فأستيقظ من نومي «الهنيء» وأعود أدراجي إلى المقر الرسمي (قهوة الفن).
كنز ثمين!
وإن نسيت فلن أنسى يوما قمت فيه من النوم، وتلفت فإذا تحت وسادتي «كنز»!! كنز ثمين يا سادتي لا يعرف قيمته إلا المفلسون!! هذا الكنز هو ... أتعرفون ما هو؟ «قرش تعريفة»!! وافرحتاه! خمسة مليمات ... حتة واحدة!! ما هذا الفتوح؟ وما هذه البشرى؟ حقا يا سادتي إذا كان المثل يقول «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى» ... إذا كان المثل يقول ذلك فإنني أخالفه، وأقول: القرش التعريفة كنز في جيوب الأغنياء لا يحس به إلا المفلسون.
وعنها وسعت على نفسي في الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش ...! فقد أكلت طعاما دسما عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية، والعيش كمان، لأن أيامها كانت الدنيا مبحبحة و«القرش التعريفة» ثروة!!
نقولا كارتر!
وفي إحدى الليالي، وبينما كنت أقطع الجزيرة كعادتي كل مساء بعد تشطيب قهوة الفن، كان الظلام حالكا وكنت أتلمس مكانا أستريح فيه، فتعثرت قدمي بشيء تحسسته فإذا هو إنسان!! وحين استيقظ، وجدت فيه صديقي العزيز الكاتب المعروف الأستاذ محمود صادق سيف!! يا للداهية ما الذي جاء بك إلى هنا يا محمود؟ فأجابني بصوته الأجش إياه: «هو الذي جاء بك أنت يا نجيب!!».
قلت: إذن كلانا يسكن «فندقا واحدا»، وانطلقت منا ضحكة عالية هتكت أسرار الليل! وقمنا نسير سويا، وكل منا يشكو حاله لزميله. فاتفقنا على أن نتلاقى معا بعد منتصف كل ليلة لنتسامر، ونقتل الوقت في الحديث قبل أن يقتلنا جوعا. وسارت الأيام معنا سيرها العادي، إلى أن جاءني الزميل صادق سيف يوما وهو مبتهج متهلل، وقال: «اسمع يا نجيب ... فيه فكره عال! يمكن ينصلح معها الحال». إيه هيه؟ أجاب صادق: «إن صاحب مكتبة المعارف كلفني أن أعرب عن الفرنسية أجزاء بوليسية من رواية اسمها «نقولا كارتر»، واتفق معي على أن أتناول منه نظير ذلك مائة وعشرين قرشا عن كل جزء، وبما أن هذه الأجزاء ستصدر أسبوعية، فسيكون هذا القسط من حقنا كل أسبوع ... وبما أنك تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا بنا نشترك في العمل ونقتسم الثمن مناصفة!».
وفي الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين مغتبطين. ولعل مما يجدر ذكره في هذه المناسبة، أن أقول إن صاحب مكتبة المعارف كان يدير فندقا في أعلى المكتبة، فاتفق وإيانا على أن نستأجر إحدى غرف الفندق نظير مبلغ خمسة قروش عن الليلة، وكان يخصمها من الأجر الذي نتقاضاه منه عن تعريب أجزاء روايات نقولا كارتر!! والطريف أن الحجرة كانت تحتوي على سرير، وكنبة مفروشة، فكان السرير بالطبع موضع نزاع دائم بيني وبينه على أن نتناوب احتلاله ليلة بعد أخرى، بحيث ينام أحدنا فيه ليلة، بينما يكون زميله نائما فوق الكنبة!!!
معرب وممثل
وبعد فترة من الوقت قابلني الأستاذ مصطفى سامي، وأبلغني أن فرقة شقيقه الشيخ أحمد الشامي تحتاج إلى مترجم ينقل إلى العربية روايات الفودفيل الفرنسية من نفس النوع الذي كان يعربه الأستاذ عزيز عيد وتمثله فرقته، واتفقت أنا على الانضمام إلى فرقة الشيخ أحمد الشامي، كمعرب وممثل بماهية قدرها أربعة جنيهات في الشهر.
والفرقة كانت جوالة تجوب مدن القطر من أقصاه إلى أقصاه، وكانت بطبيعة الحال إذا نزلت في بلدة اضطرت إلى البقاء فيها أسابيع، وربما أشهرا. فنزول أفرادها في فنادق كان من المتعذر جدا لأن هذا يكلف الفرقة مصاريف باهظة. ومن ثم كانت الإدارة تعمد إلى استئجار بيت من (بابه) ينزل فيه الجميع ويطلق عليه اسم «بيت الإدارة».
ولما كانت هذه البيوت غير مفروشة، فقد كانت تصدر إلينا التعليمات من إدارة الفرقة، قبل مغادرتنا القاهرة، كي يستعد كل منا بما يحتاجه من «مراتب» ومخدات و«ألحفة»، وكم كان منظرنا باعثا على الضحك حين كنا نلف المرتبة والمخدة واللحاف في «بقجة» ونقصد إلى محطة السكة الحديد.
نزلنا أولا في بني سويف، وصحبت «بقجتي» إلى البيت الذي قادونا إليه «بيت الإدارة». وبعد بني يوسف انتقلنا إلى غيرها، وظللنا كالمستكشفين بلد «تشيلنا» وبلد «تحطنا» حتى أتينا على آخر حدود مصر في أقصى الصعيد. وقد كان الناظر إلى بيت الإدارة في أي بلد من البلاد، يتراءى له فريق من المهاجرين لفظتهم أوطانهم وراحوا يبتغون العيش في بلاد الله ... لخلق الله!
مكوجي أرضي
ولما كنت من صغري أحب (أتعايق وأتهندز)، فقد كان يضايقني أن تقصر يدي دون الحصول على أجر مكوى ملابسي. ولكن كانت الحاجة تفتق الحيلة. وما دامت هناك «مراتب» أرضية فقد أغناني الله عن المكوى، وتعسف المكوجية، ذلك أنني كنت أرتب «البنطلون» ترتيبا منظما كما يفعل «المكوجي»، وأضعه بهذه الكيفية تحت «المرتبة»، فإذا نمت فوقها فعلت بالبنطلون نفس ما تفعله المكواة. وفوق كل ذي علم عليم! أما المشاجب، أو بالعربي الذي نفهمه نحن وأنتم «الشماعات»، فلم تكن لنا بها حاجة. ففي الحبال التي كنا نمدها في الغرف متسع للجميع، إذ كنا نعلق ملابسنا، أو بمعنى أصح ننشرها فوق هذه الحبال كما يفعل العرب الرحل إلى وقتنا هذا. وأعود إلى العمل فأقول إنني ترجمت للفرقة رواية «الابن الخارق للطبيعة» ورواية «عشرين يوما في السجن».
وبعد أن «شطبنا» على الوجه القبلي عدنا أدراجنا إلى القاهرة، لا لنحط بها الرحال ولكن لنستعد إلى غزو «الوجه البحري» وقد كان، إذ قمنا من فورنا «وفتحنا» طنطا!!
في (بيت الإدارة) بطنطا، وفي الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام، بينما كنت أقوم بعملية «التمرغ» فوق المرتبة إتماما لكي بنطلوني، إذ طرق الباب طارق، وفتح أحد زملائي، فإذا الطارق والدتي بعينها!!
وا كسوفاه! وا خجلاه! لقد كنت والله أتمنى أن تشق الأرض في تلك اللحظة وتبتلعني حتى لا تراني «أمي» على الحال التي كنت بها، خصوصا وأنني كنت (عامل أبو علي) طالع فيها، ومتظاهر بأنني في غير حاجة إلى أهلي ما داموا ينكرونني، ويرون في التمثيل رأيا لا أقرهم عليه. وقد سبق أن قلت بأنني كنت مطرودا من بيتي، لأن والدتي ساءها أن أكون ممثلا ....
تصور يا سيدي القارئ حالي في اللحظة التي اقتحمت فيها والدتي (بيت الإدارة)، وشاهدت ما يحوي من (موبيليا فخمة) وأثاث فاخر، وأنا الذي لم أحن رأسي في الماضي لإرادتها، ولم أطأطئ قامتي، لأدخل في روعها أنني على أحسن حال في عملي، ولست محتاجا لخير يأتيني على يد أهلي! أقول تصور هذا، ثم احكم بعد ذلك على الظرف القاسي الذي كنت فيه حين وصولها، لاسيما وأنها لم تدبر جهدا في إظهار نوع من العتاب هو أقرب إلى الشماتة منه إلى أي شيء آخر!
والآن دعني أشرح لك سبب مفاجأة والدتي في هذا الحضور الذي لم أكن أتوقعه.
وصل خطاب لي بعنوان المنزل (في القاهرة) من شركة السكر (بنجع حمادي) تدعوني فيه للعودة إلى استئناف عملي بها، ورأت والدتي أن تحمل الخطاب بنفسها إلي، إذ دار بخلدها أنني ربما رفضت أن أجيب الشركة إلى طلبها، وإذ ذاك تعمل هي (الوالدة) على ضرورة إقناعي بهجر التمثيل ... اللي صفته كيت وكيت ... من مأثور الكلمات التي كانت تخلعها الوالدة على هذا الفن ... الغلبان!
حيلة ...!
أما كيف طلبتني الشركة بعد استغنائها عني على أثر الحادث إياه، فقد كان هذا موضع دهشتي إلى أن وقفت على سر الأمر أخيرا. وإليك البيان:
حدث بين بعض موظفي الشركة وبين العم (ت) خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا مبررا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة كي يحملوه على الاستقالة.
والحيلة هي أن يعيدوني إلى عملي بالشركة، وإذ ذاك لا يجد غريمي العم (ت) مناصا من هجر الشركة، لا بل من هجر البلدة بما فيها. إن لم يكن اتقاء للفضيحة، فخشية تجدد الماضي بين روميو (الذي هو أنا)، وبين جولييت (وهي الحرم المصون).
قلت إن والدتي حملت إلي خطاب الشركة، وذلك بعد أن أضناها البحث عن مقر الفرقة التي أعمل بها. فكم وجهت السؤال إلى هنا وهناك، وكم نقبت عن أسر الممثلين تسائلهم عن أخبار أبنائهم، وأين يحطون الرحال. وأخيرا اهتدت إلى أننا نقيم إذ ذاك في طنطا، فجاءت على عجل.
عودة إلى الوظيفة
لم أتوان بعد الاطلاع على خطاب الشركة في جمع عزالي، وهي عبارة عن المرتبة واللحاف والمخدة والكام هدمة، والعودة سريعا إلى القاهرة، تاركا الجمل بما حمل ومنها إلى نجع حمادي حيث استلمت عملي، وأنا أقسم جهد أيماني أنني لن أعود إلى التمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب!! فهل بررت بقسمي هذا أم حنثت!!
قدمت أن السبب في استدعاء الشركة لي هو تطهيق العم (ت) ليأخذها من «قصيرها» ويولي الأدبار!! ولذلك رأى الرؤساء من باب النكاية فيه، أن يجعلوه تحت رياستي، وأن يكون من اختصاصي أن أراقب أعماله!!
ومع ذلك لم ييأس العم (ت)، ولم يتبرم بهذه التصرفات، بل لم يحرك ساكنا ... وأخوك تقيل! وقد رأيت أن «أتلم» شوية وألايمها، فعاملته أحسن معاملة، وصرنا من هذا الحين أصدقاء أعزاء.
واتجهت بكليتي إلى إتقان عملي ومراعاة الواجب فارتفعت بأخلاقي إلى مستوى لا بأس به. وفضلت فيما يختص بعلاقاتي بالجنس اللطيف أن أترك ما لقيصر لقيصر، وأن أخليني لطيف، وبلاش «المسخرة» بتاعة زمان. وقد كان! ولم يمض وقت طويل حتى حزت ثقة مدير الشركة وغيره من الرؤساء، فارتفع بذلك مرتبي إلى أربعة عشر جنيها في الشهر.
إغراء
وظللت قرابة العامين هانئا بعيشي راضيا بما كتب لي في سجل الحياة. ونظرت فإذا بي أقتصد من هذا المرتب في تلك المدة مبلغا يزيد على مائتي جنيه. ولما كان عام 1912 تسلمت - وأنا في نجع حمادي - خطابا من الأستاذ عزيز عيد (وكان في القاهرة طبعا) يخبرني فيه أن التمثيل قد ارتفع شأنه، وأن الأستاذ جورج أبيض عاد من أوربا، وهو ينوي تأليف فرقة بعد أن تلقى الفن في الخارج على نفقة صاحب السمو الخديو وأن ... وأن ....
وبعد تلاوة الخطاب أقول لك الحق، (زقزق) عقلي. وازنت بين ما يحويه هذا الخطاب من مزخرفات ومشوقات، وبين ما أنا فيه من نعمة شاملة وراحة كاملة. وأخيرا فضلت البقاء في نجع حمادي، ولتفعل فرقة جورج أبيض بالممثلين ما تشاء.
ومر بعد ذلك وقت بدأت أرى فيه الصحافة تهتم بالتمثيل، والجرائد اليومية تكتب عن فلان وفلان من زملائي، وتأتي على ملخصات للروايات التي تعرض، وكيف أن فلانا أجاد دوره، وأن السيدة (فلانة) بلغت في دورها حدا بعيدا من الإتقان.
أقول كنت أقرأ هذه الأشياء وأنا قابع في نجع حمادي، فخارت قوة المقاومة في نفسي، ولم أعد أحتمل البقاء في أقاصي الصعيد، تاركا هذا العالم الجديد يفتح ذراعيه لزملائي الأقدمين فعولت على الحصول على إجازة أقضيها في القاهرة لأرى عن كثب هذا الفن الذي أزهرت أيامه، وارتفعت أعلامه.
وجئت إلى القاهرة بإجازة شهرين، وكنت أحمل في جيوبي إذ ذاك مائتين من الجنيهات الذهبية الصفراء، كانت كل ما ادخرته من مرتبي في السنوات الماضية. ورحت أشاهد تمثيل جورج أبيض، وأتوسع في الإنفاق هنا وهناك، كمن ينتقم من أيام «الجفاف» التي أمضيتها في الصعيد.
ولم تأت نهاية الإجازة إلا بعد أن أتت على آخر قرش أبيض من قروشي المدخرة للأيام السوداء. وأخيرا اقترضت أجرة القطار إلى نجع حمادي في الدرجة الثالثة يعني «ترسو». وكان الله بالسر عليما.
حنين إلى الفن
وهناك ساءت أحوالي، وعادت (غية) التمثيل تتراءى لي في الغدو والرواح، فلم يهنأ لي بال ولم يرتح لي فؤاد. وأذكر أن صديقا لي هو الدكتور جودة (طبيب الأسنان المعروف الآن) كان معي في نجمع حمادي، فكنت أجبره على الإنصات لي، حين كنت أقف أمامه لألقي قطعة تمثيلية مما رأيته أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة، فأقلد تارة جورج أبيض وتارة أخرى عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!!
وكم ضاق بي الدكتور جودة ذرعا، وعمل على التهرب مني حين كنت أجبره على سهر الليالي، لا في طلب المعالي، بل في وجع دماغه بأقوال لويس الحادي عشر، وصرخات القائد المغربي عطيل، وتأوهات الملك أوديب وغيرهم من بقية الشلة المحترمة التي يتزعمها أستاذنا الكبير جورج أبيض.
جمهوري الأول
وهكذا كان صديقي الدكتور جودة بمثابة (الجمهور)، الذي ألقي عليه ما اقتبسته من قطع تمثيلية، علقت بذهني حين كنت أشاهد روايات فرقة الأستاذ جورج أبيض الأولى.
لم يكن حظ «جمهوري» المسكين، (وهو الدكتور جودة) مقصورا على سماع مقتطفاتي «الأبيضية»، بل كنت أعمد أيضا إلى تأليف منولوجات وأزجال مثل معي فيها، وأغان ومنثورات فنية كنت أحمله «بالعافية» على سماعها، فإذا «زعل» فإن نهر النيل يمر بنجع حمادي، وماؤه ولله الحمد غزير فليشرب منه من يشاء ...!
وشاء الله بعد فترة من الزمن أن يزداد «جمهوري»، وأن يجد الدكتور من يحمل العبء عنه والصعب دونه، إذ وفد على نجع حمادي المهندس الظريف الأستاذ محمد عبد القدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك.
ائتلفنا إذ ذاك ائتلافا تاما، وتسلينا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وتباحثنا كثيرا في فنون «الدردحة». ولست أدري أكنت أتلقى هذه الفنون على يد كندس، أم كنت ألقنه إياها. ولكنني أعترف على كل حال أنه كان «مدردرح جاهز» قبل أن ينزل ركابه في بلدة نجع حمادي.
كان عبد القدوس من هواة التمثيل، وكان حاله كحالي في جنون الفن. ولذلك كانت كل اجتماعاتنا جنانا في جنان!
فهو يلقي علي منولوجا مثلا، بينما كنت أنا أجلس منه في مكان «الشعب» من الممثل، ثم يأتي دوري فألقي قطعة تمثيلية يحتل هو في أثناء إلقائي مكاني ... بصفة «متفرج» وهكذا، إلى أن يأذن الليل بالرحيل. وكم من سهرات لطيفة ونزه ظريفة ليس من حقي (وحدي) أن أغامر بوصفها، وإن كنت من ناحيتي أسمح للصديق عبد القدوس أن يتولى عني هذا الوصف!؟
ولم يطل مقام كندس في نجع حمادي، بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست أدري، وإنما الذي أدريه أنه ترك وحشة وفراغا لم أكن أتوقعهما.
منوم مغناطيسي
وتدافعت الأيام متشابهة، إلى أن وصل لنجع حمادي رجل أجنبي ومعه زوجه (وهي فرنسية) وكان الرجل منوما مغناطيسيا، أتى يحيي بعض حفلات في «البندر». كنا نشاهده فيها يقوم ويؤدي بعض تجارب مستغربة من النوم الذي نراه من «الحواة» وأمثالهم.
على أن موضع الدهشة من الأمر هو تمكن زوجه من علم الكف، إذ كانت حين تتفرس في كف إنسان، تقرأ ما فيها وكأنها تتلو من كتاب بين يديها. وكم تمنيت أن أريها كفي، ولكن المبلغ المحدد لذلك كان مبالغا فيه. ولذلك فضلت التريث عسى أن يبعث الله بالفرج!؟
وفي إحدى الليالي ذهبت في «شلة» كبيرة من الأصدقاء إلى حضور حفلة لذلك «المنوم»، وبعد انتهائها تقدم الزوج يعلن أنه سيوزع تذاكر «لوتريه» ثمن الواحدة عشرون مليما بينها تذكرة واحدة تكسب؟
وما هو المكسب ...!
هو أن يزور صاحبها بمصر اليوم التالي مقر هذا الزائر كي تقرأ المدام كفه، وتطلعه على ما خفي من أمره.
واشتريت كغيري تذكرة، وأنا أدعو الله أن أكون الفائز، لأنني كنت - كما قدمت - في شوق زائد إلى هذه «العملية»؟
ولما انتهى توزيع التذاكر، وتدافع الأصدقاء وغيرهم لحضور عملية السحب، بقيت في مكاني مشفقا.
وظهرت النتيجة فإذا الفائز زميل لي في الشركة اسمه عبد الكريم أفندي صدقي.
وبعد أن قمت بعملية «لعن سنسفيل» أبو الدهر القاسي والحظ العاثر، لم أجد بدا من الذهاب إلى عملي في الشركة كالمعتاد. فلقيني زميلي عبد الكريم صدقي ينعى حظه الذي (مش ولابد).
وأخيرا فرجت ...!
الله إزاي يا سي عبد الكريم؟ أنت إمبارح كسبان «لوتريه» تسوى الشيء الفلاني، والنهارده العصر عندك «رنديفو». الله أكبر ناقصك إيه يا خوي؟
وأجابني الصديق قائلا: «ما هو ده اللي مجنني. لأنه صدر لي أمر بالسفر دلوقت حالا لمأمورية لا تنتهي إلا بعد أسبوع، والرجل وامرأته يغادران نجع حمادي غدا. ولم يبق على القطار الذي أستقله غير دقائق معدودات!!؟
وما إن سمعت هذه «البشرى»، حتى قلت في نفسي جاك الفرج يا أبو النجب!!
وقبل أن أنبس ببنت شفة. واصل الصديق حديثه قائلا: «وبما أنني مش رايح أستفيد من التذكرة دي فخذها أنت وروح شوف بختك عند الوليه وجوزها»!!
الفصل الثالث
ثروة أضعتها
عند العرافة
تناولت التذكرة التي «عليها العين»، وقبل الموعد المحدد كنت بين يدي الرجل وجلست المدام تقرأ كفي. ويا للغرابة والدهشة!
إنني لم أتعود في حياتي أن ألقي القول جزافا، كما أنني لست ممن يصورون من الحبة قبة، بل ولا أميل إلى التهويل والمبالغة في الوصف ... فهل تصدقني - أيها القارئ - إذا قلت لك: إن هذه السيدة أخبرتني بأشياء حدثت لي في الماضي، كما لو كانت معي، وأنها قصت علي ظروفا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته؟ حقا لقد خبلت عقلي بما ألقت إلي من تاريخ حياتي الماضية، وتركتني ذاهلا أفكر كيف يمكن لامرئ مهما بلغ عمله أن يقف على مثل هذه التفاصيل الدقيقة المدهشة؟!!
وبعد ذلك تنبأت لي بما سيكون عليه مستقبلي!
كان ذلك عام 1913، وأقسم بالله غير حانث أنني ما زلت طيلة هذه الأعوام التالية حتى الآن أجتاز من أدوار حياتي مراحل سبق أن تنبأت لي بها هذه السيدة!
كنت أيامها موظفا بسيطا في شركة السكر أتقاضى مرتبا لا يزيد على أربعة عشر جنيها، ولم يكن أمامي ما يبشر بصلاح الأحوال أو تبدل الأيام، ومع ذلك فقد قالت لي إن حياتي عبارة عن ضجة صاخبة، وأن أموالا كثيرة ستتداولها يدي، وأنني سأنتقل من فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر، ثم يعود الغنى، ثم ... وهنا خانتني الذاكرة بكل أسف، إذ لست أعي تماما ما انتهى إليه تنبؤها، وهل أوصلتني في أخرياتي إلى هضاب الفقر المدقع، أم إلى وديان الثراء الممتع؟!
على أنني رحت أجول بالذاكرة في تأويل هذه التنبؤات فأما الفقر ... فهذا شيء متوفر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وأما الغنى، فمن أين يأتيني يا ترى؟
فتشت عن قريب لي من ذوي الثراء، ورحت أبحث عن شجرة العائلة، وأدرس أصولها وفروعها، لعلي أعثر على واحد بينهم لا وريث له قائلا: «يمكن يا واد يشوفك في وصيته بحسبة كام ألف مصري يبحبحوك» ... أمال بس منين رايح يجيني الغنى يا اخواتي إن ما جاش بالطريقة دي، هل يأتي من التمثيل؟ اسم الله ... ده اخوانا باسم الله ما شاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قد ماهيته مرتين!!
نهايته لم يفدني التفكير شيئا، ولم يسعفني قاموس الأسرة ولا شجرتها المباركة، بما يروي غليلي، فتركت الأمور تجري في أعنتها ونمت بعد ذلك خالي البال هادئ البلبال!
طيب البال عرفناه، ولكن البلبال إيه كمان؟ والله ما أنا عارف. لم يقتصر ما أفضت به إلي هذه العرافة على موضوع الفقر والغنى، بل باحت لي بأشياء سرية في حياتي الخاصة. وأصارحكم يا سادتي أن هذه الأشياء وقعت بحذافيرها بعد سنوات منذ ذلك التاريخ!
أخاف السيارات
هذا ولعل أحدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة.
السبب أن هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة أكون فيها! ومع أنها ذكرت لي. أن «ربنا إن شاء الله، حايجيب العواقب «سليمة»، إلا أنني خشيت من ذلك اليوم، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي. كما أنني إذا دعيت لركوب إحدى سيارات الغير، أو حتى سيارة «تاكسي»، أتوسل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله، وأن يسير على أقل من مهله، لأني مش مستعجل أبدا ...!
ومش مستعجل هذه ... أقولها دائما كلما ركبت سيارة، حتى ولو كان باقي على القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة. وكلمة في أذنك أيها القارئ الحبيب لم أقلها لغيرك والله إلى اليوم. تلك هي أنني أفضل دائما ركوب عربات الخيل، لا رفقا بالعربجية بل حرصا على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل!
خطاب مستعجل
وغادرتنا العرافة. ثم مضت بعد ذلك فترة زاد فيها اعتقادي بصحة نبوءاتها لأن الكثير منها كان قد تحقق في خلال تلك الفترة.
وفي صباح أحد الأيام - وكنا في عام 1914 - تسلمت وأنا في مكتبي بإدارة شركة السكر في نجع حمادي إشعارا بوصول خطاب مسجل (مسوكر) باسمي، فوقعت بإمضائي هذا الإشعار وقلبي يرقص فرحا، لأنني ذكرت ما قالته لي قارئة الكف من أنه سيأتي علي وقت ألعب فيه «بالفلوس» لعب. وهنا أتعبت فكري في البحث عن مصدر هذا الخطاب «المسوكر» وإذا كانت فيه أموال فمن أين أتت يا ترى؟
أقول إن أفكارا كثيرة دارت في رأسي دون أن أهتدي إلى حل هذا اللغز. وأخيرا قلت في نفسي، اصبر يا واد حبتين. ويكون الجواب في إيدك، ويا خبر بفلوس بكره يبقى بلاش!
وصبرت على نار إلى أن أشرقت أنوار ساعي البريد، فخطفت منه الخطاب خطفا وفضضته استعدادا لإخراج الشيكات التي احتواها المظروف!! ولكن ... آه ... قاتل الله «لكن» هذه التي تقلب الأوضاع وتعكس القصد على القاصد!
أتدرون يا سادتي ... من أين صدر هذا الخطاب المسجل؟
من المكتب المجاور لمكتبي!! من مدير الشركة! وهل تعلمون ماذا جرى؟
رفت من خدمة الشركة بسبب كيت وكيت وكيت. وهذه «الكيتات» ليس فيها بحمد الله ما يخل بالنزاهة والأمانة ولكن فيها ... بكل أسف ... ما فيها والسلام!
وأبصرت أمامي فإذا ساعي البريد واقف ينتظر البقشيش!
وما فيش لزوم لشرح ما جرى له بالتمام والكمال!
نهايته. نقدتني الشركة ماهية ثلاثة أشهر كمكافأة، وقد بلغت قيمتها بعد خصم الوفورات التي كنت أقتصدها من الماهية الشهرية مبلغ سبعين جنيها. كانت كل زادي وعتادي الذي عدت به من نجع حمادي إلى القاهرة. وهو كما ترى مبلغ لا بأس به إذا قيس بما عاد به زميلي الطيب الذكر حنين من خفين!
عودة إلى القاهرة
وصلت إلى القاهرة أحمل هذا المبلغ. فكان أول ما اتجه إليه فكري هو البحث عن الزملاء الأقدمين والصحب الأولين.
وكانت ثروتي هذه ... وما لازمني من «الوجاهة» إياها سببا في أن يلتف حولي رهط منهم. آل يعني الواد وارث! وهات يا بعزقة، وهات يا صرف إلى أن صحوت فجأة فإذا ما بقي بعد الأسبوعين الأولين مبلغ وقدره ستة وعشرون جنيها فقط لا غير! وبعدين إذا صرفتهم أعمل إيه وأسوي إيه؟ وآكل منين؟ وأنا يا مولاي كما خلقتني. ولا فيه شغلة ولا مشغلة! وبناء عليه أصدرت فيما بيني وبين نفسي قرارا صممت على تنفيذه. وهذا القرار هو أن ألايمها بالتي هي أحسن وألم إيدي شوية. وأنقذ ما يمكن إنقاذه من القرشين اللي فاضلين. وكفاية علي ريال في اليوم أكل وشرب ومصاريف نثرية. وبهذه الطريقة آمن شر الدهر الخئون لغاية ما يحلها من لا يغفل ولا ينام!
وبعد إصدار هذا القرار بساعة وعشرين دقيقة تماما قصدت إلى حيث كانت تعمل فرقة الأستاذ جورج أبيض (على فكرة) كان مصرحا لي بالدخول مجانا كأرتست. فدخلت الصالة وجلست أشاهد رواية (أوديب الملك) وبينا أنا أذرف الدمع ثخينا على هذا الملك المنكوب إذ وفد الأستاذ سليم أبيض (شقيق أوديب) ومدير إدارة الفرقة وجلس بجانبي. وحين رآني متأثرا، فاتحني بحقيقة مرة كان أثرها في نفسي أبلغ من أثر الفكرة التي حلت بأوديب المسكين!
هذه الحقيقة هي أن إيراد الفرقة خسع خالص، والليلة لازم الممثلين يقبضوا القسط، والإدارة مش لاقيه تقبضهم. وعلشان كده قصدتك يا نجيب في حسبة خمسة وعشرين جنيها بس، ندفع منهم قسط الممثلين وتاخدهم بعد يومين اثنين. يومين بالعدد. وأخويا جورج ضامن يا نجيب!
وهنا أسقط في يدي، ولعنت الظروف التي قادت قدمي إلى المسرح في تلك الليلة الليلاء التي قررت فيها بدء حياة جديدة للتدبير والاقتصاد. ولم يكن هناك بد من الاعتذار، فاعتذرت بالطبع وكلما تكرر الرجاء تمسكت بالاعتذار. ولكن قوة الأستاذ سليم أبيض في الإقناع، وبراعته في وصف الحالة الراهنة من جهة، ومحبتي للفن من جهة أخرى، هذه العوامل لم تدع لي سبيلا كي أرفض فقلت له: «اسمع يا خواجه سليم ... مفيش في جيبي غير 26 جنيها، فإذا كنتم عاوزين 25 جنيها على شرط أنكم ترجعوهم بعد يومين صحيح فأنا مستعد ... وأهو الجنيه الفاضل يكفيني اليومين دول».
واقع من السماء
وظهر أن «سليم أبيض» كان في هذه اللحظة واقعا من السما، وأنا الذي تلقفته. لأنني أحسست أن ماء الحياة قد عاد إلى وجهه، فوعد ووعد، بينما قلت في نفسي: «يا واد الفلوس رايحين رايحين فخليهم يروحوا بالجملة أحسن من سلسلتهم بالقطاعي!».
وتناول الخواجة سليم مبلغ الخمسة والعشرين جنيها في التو واللحظة، وترك في جيبي جنيها يقضي الليالي وحيدا بعدهم!
فلما أحسست بالنكبة التي حلت بي إذ ذاك رحت أضرب أخماسا في أسداس. وأندم على ما فعلت، ولات ساعة مندم.
وانقضى الموعد المضروب فذهبت إلى الخواجة سليم أرجو وأتضرع شاكيا مرارة الزمن وشدة الحاجة، لكن أخوك «تقيل» فلا جواب غير: «الصبر طيب يا أخي. هو احنا حناكلهم عليك والا إيه؟» فأقول له: «لا يا سيدي أنا عارف إنكم مش رايحين تاكلوهم علي. لكن أنا شخصيا عاوز آكل بهم، والا يعني عاوزني آكل طوب!».
ولم تفد الالتماسات. بل لم يرق الخواجة سليم لحالي. إلى أن أتيت على آخر مليم من الجنيه (اليتيم) الذي أبقاه لي سليم أبيض. وكنت أسكن في مصر الجديدة، فاضطررت والحالة هذه إلى اقتراض نصف فرنك قيمة أجرة المترو، ولولا ذلك لافترشت الغبراء والتحفت السماء كما يقول الشعراء!
على الحساب
نهايته. بعد عشرين يوم كاملة، بدأ الأستاذ سليم يشعر نحوي بعاطفة الشفقة والرحمة، فكان يعطيني بين يوم وآخر شلنا، أو نصف ريال (على الحساب). وأذكر أن أكبر دفعة تناولتها على الحساب كانت ثلاثة عشر قرشا عملة صاغ ميري. فتصور يا سيدي القارئ كم من الأعوام يجب أن تمر لاستهلاك ديني إذا سار السداد على هذه الوتيرة؟
شغل فكرك واستعن باللوغارتمات وحساب المثلثات، ثم نبئني بالنتيجة ....
وبعد أن أقرضت فرقة الأستاذ جورج أبيض 25 جنيها مصريا ولم يبق معي من المبلغ الذي عدت به من نجع حمادي غير جنيه واحد، وبعد أن قبلت الدفعات التي كان الأستاذ سليم أبيض يحن بها علي، من شلن لنصف ريال إلخ ... بعد ذلك تألفت فرقة (أبيض وحجازي)، وكان على رأسها بالطبع الأستاذان جورج أبيض وسلامة حجازي. ولم يكن يدفع للممثلين إذ ذاك أجر معلوم، بل نص الاتفاق على أن يكون العمل بالمساهمة، أي يربط للممثل عدد من الأسهم ثم يوزع الإيراد على الأسهم، وكل واحد وبخته بقى.
عرض علي الأستاذ جورج أن انضم إلى الفرقة ممثلا ويمكن يفرجها ربك وتفوز بحقك!
وقبلت هذا العرض، وكل أملي أن أفوز بجزء من مالي الضائع، الذي سبق أن اقترضه مني سليم أبيض لدفع أجور ممثلي فرقة أخيه. لكن كانت النتيجة ويا للأسف، هي نفس النتيجة التي فاز بها إبليس حين طمع في الجنة.
رأيت بين أفراد الفرقة السيدات روز اليوسف وسرينا إبراهيم ونظلي مزارحي وغيرهن، ثم الأستاذ عمر وصفي ومحمود رحمي وفؤاد سليم وعبد العزيز خليل وعبد المجيد شكري، و«شلة» من قدماء «المنشدين»، مثل الشيخ حامد المغربي وغيرهم. وجدت نفسي «تقليعة» بين هؤلاء السادة النجب، إذ ظهر لي أنهم كانوا يئنون من مصيبة الأسهم والإيراد، فما بالك إذا زادوا واحدا يعتقدون أنه سيقتطع جزءا من الإيراد، تنقص به حصة الجميع بمقدار ما ستنال أسهمي من نصيبه؟ ولاسيما أن إيراد الواحد منهم، أو حصة أسهمه جميعا، لم تكن لتصل في كثير من الأوقات إلى أكثر من 35 قرشا صاغا أميريا لا غير؟
القصد، بدأ زملائي الأعزاء في توضيب «المقالب النضيفة» للعبد لله. ولم أكن في ذلك الوقت أعرف عنها كثيرا ولا قليلا، إذ كان الوسط جديدا علي كما كنت أنا جديدا عليه.
وكان بطل «شك المقالب» وانتقاء النكات «المستوية» في مادة «التأليس» على محسوبكم الفقير إليه تعالى، هو والدنا الأستاذ الأفخم عمر وصفي.
لقد كان يهون علي والله كل شيء، وكل شقاء، اللهم إلا ذلك النوع من «التأويز» و«المسمسة» و«التهزئ» اللي ما فيش منه.
أنا ملك النمسا
وكان علينا في إحدى الليالي أن نمثل رواية (صلاح الدين الأيوبي)، وكان الأستاذ جورج يضطلع فيها بدور (قلب الأسد) بينما اختاروا لي دورا صغيرا حقيرا، هو دور (ملك النمسا). وكل ما يفعله هو أن يقف من جورج أبيض موقف المبارز، ويتكلم اللي فيه القسمة. كده، كلمتين قول تلاتة، وكان الله يحب المحسنين.
كانت الحرب الكبرى قد أعلنت في هذه الآونة، وكانت الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تنشر صورا لملوك الدول المتحاربة، ومن بينها صورة الإمبراطور (فرنسوا جوزيف) إمبراطور النمسا في ذلك الحين.
وقد تراءى لي أن أتقمص شخصية هذا الإمبراطور، مادام دوري هو (ملك النمسا)، فأقفلت على نفسي باب حجرتي بالمسرح، وجلست أمام المرآة ورحت ألتمس في عقاقير الميكياج ومعداته، ما جعلني الإمبراطور جوزيف بعينه وبلحيته المتدلية على جانبي وجنتيه إلى أسفل ذقنه، وكأنها «معرفة» الأسد.
وحين جاء وقت ظهوري على المسرح لم يتمالك الناس أنفسهم من الضحك، حتى أن الأستاذ جورج أبيض لما دخل المسرح ثائرا في دوره (قلب الأسد) وفوجئ بمظهري هذا، تبخرت حماسته وانطفأت شعلته وأحسست أنه يغالب عاصفة من الضحك تكاد تنفجر على شفتيه وبين أسارير وجهه!! كل ذلك وأنا واقف في مكاني لا أبتسم ولا أخالف طبيعة الموقف ... آل يعني الفن واخد حده قوي ... مع ملك النمسا!!
أقول إن جورج دخل ثائرا وهو يصرخ مرددا كلمة (قلب الأسد) المأثورة: «ويل لملك النمسا من قلب الأسد» ولكن ويل إيه وبتاع إيه ... ما خلاص جورج ما بقاش جورج والمسرح بقى عيضة، والحابل اختلط بالنابل زي ما بيقولوا.
نهايته. انتهت هذه الليلة ولا أدري كيف انتهت، ولكن الذي أدريه هو، موال الدوكا «والتقريق» الطازة الذي أنصب علي من شيخ طائفة المطفشين الأستاذ عمر وصفي.
سب وتقريظ
ولنترك هذا جانبا وأعرج على مناقشة ظريفة جرت في تلك الليلة.
كنت أقطن في مصر الجديدة، ولذلك كنت أستقل ترام المترو عقب التمثيل. وكان لي صديق قديم كان زميلا منذ أيام البنك الزراعي، وكان هو الآخر يسكن بجواري في مصر الجديدة، وكثيرا ما كنا نتلاقى في قطار المترو في ذهابه وفي إيابه.
أذكر في تلك الليلة، ليلة (صلاح الدين الأيوبي)، أن لقيني هذا الصديق في «المترو» بعد انتهاء التمثيل، وبعد التحيات المعتادة سألته: «أين قضيت سهرتك هذا المساء؟» فأجابني بأنه كان يشاهد رواية (صلاح الدين) وتبرع فقص على نبأ عن واد ... ممثل ابن كلب ... يا فندم ... طلع في دور ملك النمسا ... إنما كان حتة واحد زي (الإمبراطور فرنسوا جوزيف) بحيث الناس كلهم ماتوا م الضحك على شكله ... و.... إلخ من أنواع الشتائم! لذلك رأيت أن أقطع سلسلة شتائم إعجابه، فقلت له: «تعرف ابن الكلب دا ... يبقى مين؟».
فقال: «أبدا».
فقلت له: «هو محسوبكم يافندم ... هو العبد لله يا أخينا!!»
نهايته. لم يرتح زملائي في الفرقة ولم يطب خاطرهم إلا بعد أن صدر الأمر برفتي والاستغناء عني. بحجة عدم لياقتي للتمثيل بتاتا. وتفضلت الإدارة المحترمة فنصت في ميثاق «الرفتية» على أنني لن أفلح في التمثيل، ولن أكون في يوم من الأيام ممثلا، حتى ولو كان ثانويا!!!
بعد هذه الوثيقة القيمة والشهادة البينة، سدت في وجهي الأبواب وضاقت السبل حتى لم أجد طريقا أسلكه لكسب العيش.
تحريض
قيل في الأمثال إن (من جاور الحداد انحرق بناره).
وأنا قد جاورت أستاذنا عمر وصفي وزملاءه مدة من الزمن، فقد حق علي أن أقتبس بعض تعاليمه وأدرس طائفة من خططه.
الغاية. لا أريد أن أطيل عليك، فقد رأيت أن أسلم خطة هي تحريض ممثلي الفرقة على رفع راية العصيان على الإدارة، وشق عصا الطاعة على المديرين، والانسحاب أفرادا وجماعات وقد نجحت خطتي مع الكثيرين الذين أسرعوا في هجر فرقة أبيض وحجازي، والمناداة بالاستقلال التام ... والجوع الزؤام!
وكان على رأس العصاة الأستاذ عزيز عيد والسيدة روز اليوسف، وقد انضم إلينا بعد ذلك من غير أعضاء الفرقة الأستاذ أمين عطا الله، وكان في ذلك الحين، ولا حياء في الواقع كان زي حالتنا مش لاقي ياكل، كما كان الأستاذ أمين صدقي هو الآخر «سارحا» بكام رواية من مؤلفاته ومقتبساته.
وبالاختصار اجتمع كل متعوس على خايب الرجا، كاستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، وسبعة ثمانية من العواطلية إياهم. وقررنا أن نؤلف فرقة تضرب فرقة أبيض وحجازي على حبابي عينيها.
لعل واحدا من القراء الأعزاء لم ينس قصة جحا حين رغب في الزواج من ابنة السلطان: فقد راح جحا ينشر في الناس أن الأمر سوي نهائيا، وأنه لم يبق على زفافه من ابنة السلطان إلا أن يجمع المهر اللازم، وأن يرضى السلطان بالمصاهرة!! اسم الله ... أمال إيه اللي تم يا سي جحا؟
كذلك نحن. اجتمع الممثلون، ولم يبق على تأليف الفرقة إلا ... وجود رأس المال.
ظللنا نتناقش في الموضوع، وانتهى الأمر باقتباس نظام المساهمة الذي كانت تجري عليه فرقة الأستاذ أبيض وحجازي.
محلنا المختار
وكان السائر في شارع عماد الدين يشاهد على يساره، بعد أن يجتاز شارع فؤاد الأول، مقهى كان يديره أحد النزلاء اليونانيين (ومن غيرهم يا ترى يفتح في مصر المقاهي). وكان اسم هذه المقهى (متروبول).
وأرجع بالقارئ العزيز إلى ذلك العهد الذي أتحدث عنه، فأقول إن إخواننا «المنشقين» عن فرقة أبيض وحجازي، جعلوا من مقهى «المتروبول» هذا محلا مختارا يأوون إليه إذا ما ارتفع قرن الغزالة (هذا خيال بديع، أرجو أن يسامحنا السادة البلغاء في استعارته)، ومعناه بالعربي الذي أفهمه أنا ويفهمه رعايا كشكش بك من سكان عمدية كفر البلاص وضواحيه، معناه عند طلوع الشمس، فعند طلوع الشمس كان «جرسونات» قهوة متروبول يستقبلون وفودنا و«يصطحبون» بوجوهنا. وكنا إذا جلسنا لا نغادر المكان إلا ساعة التشطيب بعد منتصف الليل بساعتين على الأقل. أمال إيه ... حانروح فين ... لا وظيفة ولا يحزنون!
كانت هذه القهوة دارا للندوة، أو برلمانا يعقده الممثلون، فيتناقشون في أقرب السبل للحصول على المال الذي يستطيعون به أن يؤلفوا فرقتهم المشتهاة.
حصانة جرسونية
وقد رأى - الله يرضى عنهم - الجرسونات أننا أصبحنا (بمضي المدة) أصحاب محل، وبذلك ينطبق علين قانون الأعضاء. وهذا القانون ينص على أنه إذا جلس واحد منا، فلا لزوم لأن يتقدم الجرسون، «متمسحا» لمسح الطاولة، أو «تطويقها» في حركة الانتظار التقليدية إياها ... لعل الزبون «يحس» من نفسه، فيطلب «اللكوم» أو السكر زيادة أو واحد مضبوط على الريحة!
أقول كنا نجلس في هذه القهوة متمتعين بحصانة «جرسونية» وكنا نبني في مناقشاتنا مستقبلا من الآمال. وأذكر أن أحد زبائن القهوة الذين كانوا يترددون عليها كثيرا دون أن تكون لديهم مثل «حصانتنا» واسمه السيد «بحري»!
أذكر أن شيئا من الصداقة تولد بينه وبيننا. فكان بين وقت وآخر، يعطف على بعضنا بسيجارة، أو يحتم أن يطلب لنا طلبا، «واحد قهوة مثلا أو فنجان شاي!».
وقد رأى صاحب القهوة (اليوناني) أن يستفتي السيد بحري في أمرنا، فسأله عنا وعن أحوالنا، وما السبب في معيشة «العواطلية» التي نحياها دون أن نشق لنا طريقا في عباب هذه الحياة؟ فلما عرف منه أننا طائفة من الممثلين، وأنه لا ينقصنا إلا الحصول على مبلغ ضئيل لا يتعدى العشرة جنيهات، أقول لما وقف الرجل على مطلبنا هذا، أظهر منتهى الاستعداد للدفع! فكان ذلك مفاجأة عجيبة لم نكن ننتظرها. وقد أنعم كل منا فكره في تأويل هذه الأريحية التي نبتت مرة واحدة، كما يتفجر الينبوع العذب من الصخر الجدب.
اصرف ما في الجيب
قال أحدنا: «إن هذا العمل من الخواجة بشير بالنجاح، لأنه رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، ويستحيل أن يغامر بدفع رأس المال، إذا لم يكن واثقا من استرداد مبلغه هذا أضعافا مضاعفة». أما أنا فقد ذهبت في التفسير مذهبا خالفت به الجميع، فمع اغتباطي بتساهيل الله، على يدي الخواجة صاحب قهوة متروبول، قلت لإخواني بأنني لا أرى دافعا لتصرف الخواجة إلا أنه «طهق» من «خلقتنا». فأراد أن يتخلص منا بأي طريقة، مهما كان فيها من تضحية مالية، وسواء أكان هذا هو السبب أم ذاك، فقد وصلنا إلى بغيتنا وحصلنا على مبلغ الجنيهات العشرة. وكم كان ظريفا من بعض إخواننا أن يقترحوا «توزيع» المبلغ علينا، وبلا فرقة، بلا دياولو، وليحيا «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب!».
ودون أن أطيل عليك أقول إن هذا المذهب لم يجد أنصارا كثيرين. فتقرر أن نستعمله في الغرض الذي دفع من أجله، وبدأنا نؤلف فرقتنا من العبد لله، والأساتذة عزيز عيد، وأمين عطا الله، وأمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، والسيدة روز اليوسف وغيرهم.
الفصل الرابع
في المسرح الكوميدي
فرقة الكوميدي العربي
أما المسرح الذي وقع عليه الاختيار كي تعمل به فرقتنا الجديدة فهو مسرح برنتانيا القديم.
وأطلقنا على فرقتنا الجديدة اسم «فرقة الكوميدي العربي» واتفقنا على أن نفتتح العمل برواية «خلي بالك من إميلي»، وكان قد نقلها عن الفرنسية الأستاذ أمين صدقي.
وجاء أول توزيع الأدوار، فاختصوني بدور «برجيه» والد إميلي: وهنا أستميح القراء الأفاضل في وقفة، على الهامش، تلجئني إليها أهمية ذلك التاريخ الذي أسرده بصدق وأمانة.
لا شك أنني كنت في ذلك الحين أهوى التمثيل من كل قلبي، ولكنه ميل كان منصبا على نوع واحد من هذا الفن هو «الدرام». أما الكوميدي فلم أكن أشعر نحوه بأية عاطفة. كما أنني كنت أحس أنني لم أخلق له، وإذا ما بدا لي أن أظهر في دور كوميدي فسيكون السقوط حليفي. والطماطم ... من الجمهور نصيبي!
والآن فلنعد إلى مواصلة حديثنا فنقول إن «برجيه» هذا جندي بوليس قديم، له ابنة جميلة كان يعيش عالة على كدها وسعيها، أو «بالمفتشر» عايش على قفا بنته، وإن المؤمن لا يستحي من الحق! الدور جامد، وبطل من أبطال الرواية، وفوق هذا وذاك فهو فكاهي خفيف.
اعتذرت أولا عن قبوله ثقة مني بأنه أكبر من أن أستطيع إجادته. ولكن اعتذاري هذا رفض رفضا باتا، لا لاعتقاد الفرقة بقدرتي، بل بحجة أنه لا يوجد ممثلون يكفون لأداء أدوار الرواية. يعني يا سي عزيز عيد، أروح أنا في ستين داهية علشان حضرتك مش لاقي ممثل يعمل «برجيه»؟!
اعتذرت عن قبول الدور الذي أسنده إلي عزيز عيد، وهو دور برجيه، وتوسلت أن يعفوني من أدائه، ولكن لم تفد توسلاتي واسترحاماتي، فرأيت ألا بد مما ليس منه بد. فقبلت الدور مرغما وذهبت إلى المنزل فأغلقت على نفسي الحجرة، ورحت أرسم له شخصية أؤديه بها. ووقفت أمام المرآة ألقي جمل الدور واحدة إثر أخرى، وأرقب ما يرتسم على وجهي من تعبيرات، متلمسا السبيل إلى إجادتها، ولكن ... والحق أقول، أحسست نفسي سمجا ثقيلا.
أخيرا جددت الاعتذار لعزيز عيد، فأمعن في الرفض، وكنت كلما اقترب اليوم المحدد للافتتاح ازداد خفقان قلبي، و«تلخلخت ركبي»، وركبني مائة عفريت وعفريت.
ساقط ساقط!
تصور أيها القارئ العزيز جبانا داخل اليأس قلبه واحتل فؤاده! لقد كان هذا حالي ليلة البدء بالتمثيل، فدخلت حجرة المكياج وأتممت تلوين وجهي، كي أظهر بمظهر العجوز الشيخ «برجيه» الله يمسيه بالخير. واعتزمت - مادام ساقط ساقط - أن أغامر، وأن أخدها بالعريض، وأطلع فيها مرة واحدة. وخليه سقوط بالشرف:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا!
اقتحمت المسرح وتشجعت وأديت الدور. ولشد ما كانت دهشتي حين سمعت أرجاء الصالة تضج بالضحك ويتجاوب التصفيق جوانبها!؟
لم أكن أصدق أنني أنا الذي أنتزع هذا الضحك وذاك التصفيق من الجمهور. وأنه لابد وأن يكون غيري مصدرهما، فنظرت خلفي وإلى جانبي لعل ممثلا مختبئا يضحك الناس دوني، ولكن لم أجد!
ولست أغالي حين أعترف من غير تواضع، والأجر على الله، بأن دوري فاز بقصب السبق وأن إخواني، مع أنهم كانوا أبطال الكوميدي في مصر، وعماد الفكاهة فيها، لم ينلهم مثل ما نالني.
وإني لأذكر في هذه المناسبة حادثا طريفا لا بأس من سرده. من فائق النجاح!
قابلت في آخر الليل المدير المالي: وهو الخواجة (صاحب قهوة متروبول)، ولم يكن يعرف أنني أمثل. بل كان يزعم أنني أحد مديري الفرقة وبس! سألت «الخواجة» عن رأيه في الرواية وممثليها، فقال باللهجة العربية الممتزجة «بالجريجية». «يا سلام! يا سلام فري ... دي خاجه تمام ... خاجه خلوه ... الراجل فري دي برجيه إيه ابن الكلب ده!!».
ثم تفضل فوجه إلي هذا السؤال «من خنزير عجوز برجيه دي مسيو نجيب؟»
فأجبته: «أهو واحد ممثل. بكره تعرفه والسلام».
وفي اليوم التالي، كان «الخواجة» قد عرف من زملائي أن الخنزير العجوز برجيه لم يكن إلا ... نجيب الريحاني، ومن ثم جاء يضاعف تهنئته لي. ويعتذر عن إعجاب أمس المقرون بالسباب.
هبوط!
وبعد أيام من عمل فرقتنا في مسرح برنتانيا القديم رأينا الإيراد بدأ «يخسع»، وحالة الأسهم في هبوط مخيف. فلم يكن الدخل يزيد في ليلة من الليالي عن العشرة جنيهات أو الثمانية كان الجزء الأكبر منها يدفع في إيجار التياترو. والباقي يقسم على أسهم الممثلين. فكان يخص السهم إذ ذاك «ثلاثة تعريفه». وإذا «نغنغت» الحالة في إحدى الليالي، ارتفع نصيب السهم إلى سبعة عشر مليما أو ثمانية عشر.
ولم نكن نعمل طيلة أيام الأسبوع، بل كنا نكتفي بثلاث ليال فقط كنت أحصل في أثنائها على مبلغ يتراوح بين الاثني عشر والأربعة عشر قرشا أسبوعيا. أما بقية أيام الأسبوع، فقد كانت تشغلها البروفات. والبروفات بالطبع لا أجر عليها.
كنت أسكن كما سبق القول - في مصر الجديدة - وكانت أجرة المترو عشرة مليمات في الذهاب ومثلها في الإياب. فأين لي العشرون مليما أدفعها للحضور والعودة في أيام البروفات!!
وبعد محاولات ومحاولات، صدر الأمر بإعفائي من الاشتراك في البروفات ماعدا البروفة النهائية، فقد تحتم علي حضورها. وفي ميدان الاقتراض والسلفيات متسع للجميع.
مقلب من الوجه البحري
القصد، مر علينا عهد كاد قحطه يودي بنا، فرحنا نتلمس السبل للتغلب عليه. وكان بين ممثلي الفرقة شاب ممتلئ بالنشاط هو المرحوم أحمد حافظ شقيق الأستاذ عبد المجيد شكري الممثل بفرقة الأستاذ يوسف وهبي. طلع علينا المرحوم أحمد حافظ بفكرة نالت من الجميع حسن القبول، هي أن يسافر إلى المنصورة لترتيب حفلات تحييها الفرقة هناك. ووافق الجميع بالطبع، فغادرنا أحمد حافظ إلى المنصورة، ولم يمض عليه فيها يومان، حتى كتب خطابا إلى الأستاذ عزيز عيد يبشره فيه أن الدنيا «قهقهت» لنا مش بس ضحكت. وأن الطلبات تنهال عليه للحصول على التذاكر، وأن إيراد الليلة في المنصورة لن يقل عن الستين جنيها ... وأن .... «وظأططنا»، وانقلبت أتراحنا أفراحا، وظللنا ننتظر اليوم الموعود بصبر نافد. إلى أن حل الأوان، فقصدنا إلى «أرض الميعاد» ... المنصورة، في القطار الذي يغادر العاصمة قبيل الظهر. وأذكر أن أحدا منا لم يتناول طعاما إذ ذاك. لأن الحالة لم تكن تسمح بشراء رغيف واحد ... ولو حاف.
ولكي أكون أمينا في سرد الحوادث أعترف بأننا اقترضنا أجرة سكة الحديد على الحساب، كما أن الجوع ظل «يشاغبنا» ويتلاعب بأمعائنا طول الوقت الذي قضيناه في القطار. كل هذا ونحن نأمل أن نجد طعامنا في المنصورة بعد تسلم الإيراد «العظيم» من الأمبرزاريو (المتعهد) أحمد حافظ. الله يرحمه ويحسن إليه.
ووصلنا إلى المنصورة، وحملنا أمتعتنا، وبلاش أطول في الوصف اللي مافيهش فايده ... ويكفي أن أقسم أننا ظهرنا على المسرح في تلك الليلة ببطون خالية وأمعاء خاوية ... وبس!!
تبخرت الأماني والآمال. وضاعت الوعود الحلوة التي كانت تزخر بها خطابات مندوبنا، في الوجه البحري. بلغ إيراد الليلة الأولى أربعة جنيهات مصرية لا غير ... وخرم حساب أحمد حافظ ذلك التخريم الذي أترك تقديره لخيال القارئ العزيز.
ويلاه ما حيلتي. ويلاه ما عملي. على رأي المنولوج إياه! وماذا نفعل بالقروض التي فتحنا بها حسابات جارية هنا وهناك!
عزومة!
نهايته، أترك ذلك برضه لذكاء القراء الأعزاء. وفي آخر الليل وبعد التمثيل خرجت من المسرح وحيدا فعثرت في طريقي على بائع سميط عال، وجبنه رومي، فجرت بيننا مفاوضات انتهت بالرضا والاتفاق على شراء سميطة واحدة بالممارسة. ومعها قرطاس دقة «فوق البيعة».
وسرت في طريقي أقضم السميطة قضما، وما هي إلا خطوات حتى لقيني الصديق «الأمبرزاريو» أحمد حافظ. وبعد التحية المناسبة للمقام. من داهية تسم الأبعد، إلى غور جاك دم يلهف القفا! بعد تبادل هذه التحيات التي لابد منها في مثل هذه الظروف، سألني إلى أين أقصد، فقلت إلى اللوكاندة بالطبع. فضحك ضحكة هتكت ستر الليل وقال «تعال أنا عازمك الليلة في فسحة على كيفك!!».
عازمني! عازمني إيه يا بلا، وأنا مافيش في جيبي ثمن حتة جبنة أغمس بها السميطة؟
فقال «ولا يهمك». ثم داعب بأصابعه جيوب صديريته فسمعت رنين النقود التي كدت أنسى لونها. فاطمأنت نفسي وقبلت أن أمضي السهرة معه.
وهنا أستميح القراء في أن أمر على تلك السهرة مر الكرام، وأن ألقي على تفاصيلها طشت غسيل. مش ماجور بس!! ويكفيهم مني أن أقول إنها كانت ليلة «بوهيمية» وإننا توسعنا إذ ذاك في الانبساط، كأنه كان آخر زادنا!! كل ذلك وأنا أخشى ألا يغطي ما في جيوب زميلي حافظ نفقات هذه الليلة.
وفي صباح نهاية السهرة خلوت بالسيد السند، وسألته عما لديه من النقود؟ فأخرجها ... وإذا بالمجموع ثمانون قرشا صاغا ليس إلا! فلما تقدم كشف الحساب، اتضح أن المطلوب منا أربعة جنيهات!! يا نهار زي الكوبيه يا أحمد يا حافظ! هي كل سكك كده؟
فاعل خير
نهايته. لم تفد التوسلات والاسترحامات. فكانت نجاتنا على يد مجهول. الله لا يغلب له وليه. ولكي أخلص ذمتي. أقول بأنني بعد سنوات كثيرة من هذه الحادثة، وبعد أن ألفت فرقتي التي تحمل اسمي، ذهبت إلى المنصورة لإحياء حفلات بها. وقصدت إلى المكان المعهود خاصة لمقابلة ذلك «الجندي المجهول»، ودفع ما في عنقنا من دين وفوقه ولو كلمة متشكر أو ممنون ... إلخ، ولكن أقول مع الأسف الشديد إنني لم أعثر عليه طيلة إقامتي في المنصورة ... فعوضه على الله، ومين قدم شيء بيداه التقاه! وهنيالك يا فاعل الخير.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فلا بأس من أن أشير هنا إلى خناقة لرب السما، وقعت بين السيدة روز اليوسف وبين الأستاذ عزيز عيد، كان من نتاجها أن وقع طربوش الثاني أسيرا في يد الأولى. فكان نصيبه منها التقسيم إلى أربعة أجزاء متساوية. هذا عدا ما حدث «للزر» الذي لم يبق منه «فتلة» ... توحد الله.
لم يكن بالطبع لدى الأستاذ عزيز طربوش آخر، كما أنه ما فيش لزوم أقول لك إن الحالة المالية لم تكن تسمح بشراء رباط جزمه، مش طربوش كمان. واضطر عزيز أن يسير في الشارع «حافي» الرأس ... أو عاريه. ولم يكن التمدن في ذلك الحين قد طلع علينا بمودة «الاسبور» الحالية، التي تبيح السير بلا طربوش. ولو فرض حتى وكانت هذه المودة موجودة، فإن السيد عزيز آخر من يلجأ إليها.
نهايته. لم يكن حظ ليالي المنصورة الباقية من وجهة الإيراد خيرا من الليلة الأولى. فقد كانت الحالة نايمة إلى درجة لا يتصورها أحد. وكنا عايشين على القدرة. ومن غير تطويل أو شرح، أقول إننا فتحنا قرضا جديدا في المنصورة لأجرة العودة بسكة الحديد إلى القاهرة.
لم تكن هذه الأهوال المتلاحقة لتدخل اليأس إلى قلبي، بل كانت تملؤني يقينا باقتراب ذلك اليوم الذي يعرف فيه الناس لهذه المهنة حقها، ويغيرون آراءهم بالنسبة لها. أضف إلى ذلك أنني عقدت العزم على أن أجاهد ما استطعت، واضعا نصب عيني هدفا واحدا، هو حمل الناس على الاعتراف بالتمثيل كمهنة تشرف أصحابها وتتشرف بانتسابهم لها.
كان اتفاقنا مع إدارة تياترو برنتانيا (القديم) جائرا بالنسبة لنا، ففكرنا في الانتقال إلى مسرح آخر على قد الحال، يكون إيجاره أقل من إيجار ذلك المسرح الذي كان يلتهم أرزاقنا التهاما، وانتهينا إلى اختيار تياترو الشانزلزيه بشارع الفجالة.
زعرب ...!
اتفقنا مع إدارة تياترو الشانزلزيه على أن نشغله بفرقتنا (الكوميدي العربي)، وبدأنا في إجراء البروفات. وفي أحد الأيام، وبينما كنت جالسا مع بعض زملائي أمام الباب الخارجي، إذ هبط من الترام شخص يحمل بين يديه حقيبة، بل قل «بقجة». - سلام عليكم يا جماعة. - عليكم السلام يا أخينا ... إيه خير إن شاء الله!! - أنا عبد اللطيف المصري، ممثل كبير، وسمعت أن عندكم شغل وعاوز أشتغل وياكم!! - أهلا وسهلا ... تفضل يا سيدنا تناول كام سهم أنت راخر!!
ذكرت هذا الحادث، لأن عبد اللطيف المصري هذا أصبح فيما بعد ممثل دور (زعرب)، التابع الخاص لكشكش بك عمدة كفر البلاص، كما سيأتي القول في حينه، ولا مانع هنا من أن أذكر أن عبد اللطيف رأى أن يشارك الزميل أمين عطا الله في مسكنه، وكان عبارة عن غرفة في أعلى بناء التياترو أثثها أمين أثاثا فاخرا، بالنسبة للحالة إذ ذاك يعني زي ما تقول مرتبة ولحافا ومخدتين وقلة وكباية ... ورأسك تعيش!!
سكن عبد اللطيف مع أمين، فكان اجتماعهما كاجتماع القط والفأر. وقد كنت أود - لولا الإطالة - أن أشرح بعض المقالب التي كان يدبرها أمين لزميله، والتي كانت تحتاج في كثير من الأوقات إلى عقد لجنة مصالحات خاصة لإصلاح ذات بينهما. ولكني أرجئ ذلك إلى مناسباته.
أخرجنا في «الشانزلزيه» طائفة من الروايات، منها «عندك حاجة تبلغ عنها» و«ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«المهرج بلفجور».
ليلة بين اللصوص
حدث في أحد الأيام أن تراءى للزميل علي يوسف أن يسير بي إلى مكان غير مأمون العاقبة، فكانت النتيجة أن قبض علينا. وكان في جيبي إذ ذاك خمسون قرشا أخرجتها «وغمزت» بها جندي البوليس الذي زغللت عيناه وتراخى في حماسة. وشاور عقله في تذليل هروبنا، ولكن «أبا يوسف» أخذته العزة بالإثم فصرخ صرخة مضرية وقال: »انت عبيط يا نجيب! ليه تدي العسكري فلوس؟ دلوقت تشوف رايح يجري إيه؟».
وما إن سمع الجندي هذا التحدي لمقامه الكريم في أثناء تأديته وظيفته، حتى غلا الدم في عروقه، وأخذته نخوة «الحكام» العظام، وأضاف إلى تهمتنا الأصلية، تهمة أخرى فرعية، هي الشروع في ... رشوة!! قلت (بس) ختمت على روسنا يا سي علي يا يوسف!! وبدل تهمة واحدة بقو اثنين، ووقعنا في سين وجيم، وقول علينا يا رحمن يا رحيم. فقال: «يا شيخ ما يهمكش. شد حيلك دلوقت تشوف». فشديت حيلي ودخلت معه القره قول. فماذا شفت؟ ألقوا بنا في «الحاصل» أو الحبس القذر بين المتشردين واللصوص، وأذكر أنني كنت في ذلك اليوم أرتدي بدلة بيضاء. الله يا سيدي على التيل الأبيض من نومه على الأسفلت طول الليل!
إن ما قاسيته في هذه الليلة لا يمكن أن أنساه، كما أنني لا أنسى كلما ذكرت آلامي أن أعترف بجميل السيدتين سرينا إبراهيم ونظلة مزارحي، اللتين برزتا لنا في صباح اليوم التالي كملائكة الرحمة، وقد حملتا إلينا الفطور والسجاير وكل ما خف حمله ولم يغل ثمنه.
ونترك هذه الحوادث ونعود إلى المسرح فأقول إنني بدأت أشعر أن قدمي قد ثبتت تماما، وأنني أصبحت شيئا مذكورا، أجيد تنفيذ ما يجول في مخيلتي من أفكار فنية. إذ كنت أدرس دوري وأعرف كيف أرضي الجمهور، وكيف أتعمق إلى قرارة الشخصية التي تسند إلي.
مع منيرة المهدية
ومع ذلك لم تكن حالة الفرقة من الوجهة المادية تسر أحدا. فظللنا نفكر في طريق الإصلاح، لعل وعسى يفرجها من لا يغفل ولا ينام.
وهبط علينا علي يوسف في تلك الأثناء باقتراح لم نتأخر في تنفيذه، قال: «إن السيدة منيرة المهدية اشتهرت في عالم الغناء، فماذا لو جعلنا منها ممثلة تظهر كذلك على المسرح؟».
وحصل الرضا والاتفاق على أن تمثل السيدة منيرة المهدية في كل ليلة فصلا من إحدى روايات الشيخ سلامة حجازي، ثم نمثل نحن روايتنا كالمعتاد. على أن يكون الإيراد مناصفة بين الفرقة ومنيرة.
واختير لأول ظهور المطربة الكبيرة الفصل الثالث من رواية «صلاح الدين الأيوبي»، وفيه تغني القصيدة المشهورة «إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم».
ونجح برنامجنا والحق يقال، وأقبل الناس إقبالا لم نكن ننتظره.
كانت السيدة منيرة في ذلك العهد تقطن في مصر الجديدة. وبما أنني من سكان هذه الضاحية، فقد اختارتني إدارة الفرقة كي أراجع للمطربة أدوارها نهارا، وأدخل لها ما تمثله مساء.
وفي اليوم الأول دخلت منزلها أمشي على استحياء، يعروني ثوب من الخجل. وتقدمت ربة البيت ... لا لتراجع معي الدور، ولكن لتداعب حيوانا أليفا كانت تقتنيه. أتدري ما هو «عرسة»، أي والله عرسة! والعرسة كما يعرف أصحاب البيوت حيوان كل همه ارتكاب جرائم القتل خنقا ضد الطيور المنزلية المفيدة كالدجاج والحمام. ولكن «عرسة» الست منيرة كانت يا أخي شيء إلهي محبوبة من الجميع.
وجدت أن مراجعتي للست لا فائدة منها، لأن النظرة في وش «العرسة» خير لها ألف مرة من التطلع إلى العبد لله ...! وفي الحال اعتذرت للفرقة عن أداء هذه المهمة. والبركة في الإخوان، اللهم زد وبارك.
عودة إلى الفلس
قلت إن الجمهور تهافت على مسرحنا، وارتفع رقم الدخل ارتفاعا غير منتظر. ولكن لم تمض مدة طويلة حتى شعرت السيدة منيرة أنها هي وحدها المقصودة بهذا الإقبال، وأن اسمها هو الذي يجذب الناس إلى ارتياد التياترو، وأنه من الغبن لها أن نشاركها في الإيراد نصفا بنصف.
ومن ثم صممت على فصم الارتباط. وأنتم من هنا يا أولاد الناس وأنا من هنا، ولقد صح تقدير «الست» ... فما كادت «تسلت» يدها من الفرقة، حتى انسحب على أقدامها الخير الذي عمنا ردحا من الزمن. وعدنا إلى «غلب الزمان». دخل النحس علينا بعد أن فارقتنا وما خلنا أنه نسينا وعرف مضيفين غيرنا. ولكن لا، ما يمكنش نهرب منه. ولو كنا في بروج مشيدة!
وبعد مدة قضيناها. في تلطيش من اللي قلبك يحبه، جاء من يقترح علينا اقتراحا جديدا. كان إخوان عكاشة يعملون على مسرح دار التمثيل العربي، وكان حالهم كحالنا. يعني كنا في الهوا سوا. بس إحنا أميز منهم شوية. لأنهم كانوا ... الله لا يوري عدو ولا حبيب.
والاقتراح هو أن نعقد اتفاقا مع «العكاكشة» على العمل في مسرحهم. مع بقاء الفرقتين مستقلتين الواحدة منهما عن الأخرى، بمعنى أن كلا منهما تمثل ليلة. والإيراد المتجمع يقسم مناصفة بين الفرقتين.
وعقد الاتفاق بالفعل، وانتقلنا من الشانزلزيه إلى دار التمثيل العربي بشارع الباب البحري لحديقة الأزبكية. وكانت نتيجة هذا الاتفاق على رأي المثل، كالمستجير من الرمضاء بالنار!
بارزت عزيز عيد
ويحضرني بهذه المناسبة حادث وقع في الليلة الأولى من عملنا بدار التمثيل العربي لا بأس من ذكره.
كثيرا ما كانت الغيرة على مصلحة العمل تدعو السيدة روز اليوسف إلى الوقوف موقف العناد التام مع الأستاذ عزيز، وكم لهما من مناقشات انقلبت إلى مشاحنات فمصادمات ... إلخ.
ففي الليلة الأولى وقع ما أدى إلى إصرار الاثنين على عدم الظهور على المسرح مطلقا. وكان عليهما رفع الستار فلما حان الموعد ورأيت حرج الموقف. حملت عزيزا بين يدي وقذفت به إلى خشبة المسرح بعد أن رفع الستار، فوجد نفسه أمام الجمهور واضطر إلى التمثيل. ودخلت السيدة روز اليوسف واندمجت في دورها وكأن شيئا لم يحدث على الإطلاق.
وانتهت الليلة على خير. وظننت أن كل شيء قد انتهى، ولو من ناحيتي أنا. ولكن الغريب أن الأستاذ عزيز تقدم إلي في حركة عصبية غريبة، وطلب مني أن أدخل معه في «دويللو». يا دي الداهية يا أولاد ... «دويللو» كده حتة واحدة!
وفكرت طويلا قبل أن أجيبه إلى طلبه، ثم شاورت عقلي، بم أجيب؟ وإذا نزلت على تلك الرغبة فأي سلاح أختار؟ وهل هناك ما يمنع إذا صارحته بأن تكون «الصرمة» سلاحنا في مبارزة سلمية كهذه؟ «فالصرمة» على كل حال سلاح إذا طال عمره ما هو مسيح نقطة دم واحدة!
دارت هذه الأفكار في مخيلتي، ولكنني فضلت أن أحتفظ بهذا الاكتشاف الثمين في عالم المبارزة فتركت عزيزا دون أن أفوه بكلمة.
وقد قلت إننا بعد أن هجرتنا السيدة منيرة اتفقنا مع فرقة أبناء عكاشة على أن نعمل في مسرح دار التمثيل العربي ليلة بينما تعمل الفرقة العكاشية ليلة أخرى وهكذا.
وسار الحال على هذا المنوال إلى أن كان شهر مارس عام 1916 حيث أحسسنا أن وجودنا مع العكاشيين لم يزدنا إلا خيالا، فنشدنا الاستقلال وقررنا أن نترك ما لعكاشة لعكاشة، وننقل حالنا ومحتالنا إلى تياترو برنتانيا مرة أخرى. ومن فات قديمه تاه.
وبعد أن عملنا مدة شعرت أنني أزداد كل يوم نجاحا عن سابقه، وأن الجمهور يرمقني بشيء من انتباهه، ومع ذلك فقد كنت مهضوم الحق لا من الناحية المادية وحدها، بل ومن الناحية الأدبية كذلك. فتشجعت وطلبت إلى الأستاذ عزيز عيد أن يضع اسمي في إعلانات الفرقة، وأن تكلأني الإدارة بشيء من الرعاية من حيث تعريف الجمهور بممثل يحب الجمهور نفسه أن يعرف عنه الكثير. ولكن عزيزا رأسه وألف سيف، مش ممكن وضع الاسم. يا سيدي يهديك، مافيش فايدة. فلما فكرت في واقع الأمر، ورأيت الحالة المؤلمة التي تعيش فيها الفرقة قلت:
سيبك يا واد. بلا فرقة بلا دياولو. وما دامت الفرقة «ميتانة ميتانة» فأشرف لي أنني أموت بعيدا عنها، وأريح نفسي من قرفها .
انفصال ...!
وفي شهر مايو من عام 1916، وما زلت أذكر التاريخ تماما، هجرت فرقة الكوميدي العربي دون أن أفكر في العمل الذي أعيش منه.
وظللت شهرا ونصف شهر أقدح زناد الفكر، وأعرض على بساط البحث، اقتراحات كثيرة، بمشروعات أعمال واسعة النطاق، النجاح فيها مضمون 24 قيراطا. ولكن آخ يا خسارة. مافيش فلوس!
وفي تمام الساعة الواحدة من مساء يوم أول يونيو عام 1916 كنت جالسا في بوفيه تياترو برنتانيا. مفلسا كالعادة. وإذا بي أرى شخصا يهبط علي في سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض وخاتم يلعب شعاعه بالنواظر. فلما جلس إلى جانبي أخرج من جيبه علبة سجاير فاخرة من الفضة وفي حركة أرستقراطية فخمة، ناولني سيجارة!؟
أتدري يا عزيزي القارئ من هو هذا «الوارث» العظيم الذي وصفت. أنه استيفان روستي، زميل العناء والشقاء، استيفان اللي كان زي حالاتي يشتهي سيجارة ماركة الحملي ... والا حتى ماركة الكوز!
إيه يا ولد النعمة اللي ظهرت على جتة اللي خلفوك دي، ومنين العز دا كله؟ تكونش «سطيت» على خزينة البنك الأهلي؟ والا قتلت واحد بنكير ولطشت اللي في جيبه؟ وبكل برود هز استيفان رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك، المهم أن ربنا فرجها علينا والسلام».
خيال ظل ...!
وبعد مناقشات لاستطلاع سر هذا الثراء المفاجئ، ذكر لي استيفان أن هناك «كباريه» خلف برنتانيا يطلقون عليه اسم «أبيه دي روز» وأنه وجد هناك عملا يتقاضى عليه ستين قرشا في كل مساء!
يا نهار أبوك زي الكرمب يا استيفان يا روستي؟ ستون قرشا في الليلة، يعني قد ماهية العبد لله في الشهر إذا كانت الحالة رايجة كمان!
وراح استيفان يشرح لي ماهية عمله.
فإذا به يظهر خلف ستار من الشاش أثناء انطفاء الأنوار في المحل، فيؤدي من مكمنه هذا بعض حركات هزلية، وغير هزلية. يعني بالعربي «خيال ظل» ...
فقلت له: «إنني أعلم أن سمعة هذا المكان لا تتفق وكرامة الإنسان» ...
فأجاب: «وأنا مالي ومال الكلام الفارغ ده. أنا راجل باشتغل من «وراء الستار» ولا حد عارفني ولا حد شايفني». «ثم أن الوقت اللي بامضيه في عملي لا يزيد عن ربع ساعة في كل ليلة، ألهف فيهم الستين صاغ، ولا حد شاف ولا حد دري!».
وفكرت مليا ثم وضعت يدي في جيبي فإذا بها تخرج بيضاء من غير سوء. يعني من غير تشبيه ولا تمثيل. كان الفلس ضاربا أطنابه بشكل يخلي الواحد يبيع هدومه.
أخيرا مددت يدي إلى استيفان، وقلت: «ألا مافيش عندكم شغلة لواحد زيي؟ أي دور، خدام، سيد، باشا، بيه، أفندي، واحد مش لاقي اللضا، أي دور أنا قابل. ثم مش طمعان كمان، نص ريال في الليلة كويس قوي، وثمانية صاغ كمان ... رضا!».
وتركني استيفان بعد أن وعدني خيرا. وفي المساء تلاقينا أمام باب «الأبيه دي روز» فقادني إلى صاحب الملهى وكان إيطاليا اسمه الخواجة «روزاتي».
وكان اسكتش «خيال الظل» المزمع إخراجه في تلك الليلة يحتاج إلى ظهور خادم بربري، فقدمني استيفان لروزاتي قائلا إنني ممثل كبير مشهور، وإنني، ولم يكمل استيفان سلسلة المحاسن والأوصاف، لأن الرجل قاطعه قائلا بالفرنسية: «لا لا، أنا مش عاوز ممثل كبير وشهير، وبتاع ... أنا عاوز ممثل كل شيء كان لأن الدور مش مهم».
وهنا تدخلت أنا في المناقشة وقلت للخواجة: «أنا يا أفندم ممثل بسيط على قد الحال. لا أنا شهير ولا أنا كبير».
فقال: «أنا مش رايح أدفع أكثر من أربعين قرشا».
فأبرقت أساريري، ونظرت إلى استيفان نظرة استفهام، لأنني لم أكن أصدق أن أحصل على مرتب كهذا!
مفاجأة
وأشفقت على نفسي خوفا من أن يكون هذا المبلغ هو المرتب الشهري. وليس اليومي! وحين زالت معالم الدهشة من نفسي، هنأني استيفان وقادني إلى مدير المسرح ومعاونة المسيو روزاتي، وهي فتاة رائعة الجمال كانوا يسمونها «ليليان الجميلة». وهناك أفهمتنا ليليان موضوع «خيال الظل» الذي سنؤديه في تلك الليلة، وكانت إدارة الملهى قد أعلنت في جميع أنحاء القاهرة عن مفاجأة كبرى: هي أن هناك سيدة باريسية ذات جمال فاتن وحسن رائع، ستبدو للجمهور خلف الستار الشفاف ثلاث ليال سويا، وفي الليلة الرابعة تظهر بشكلها الطبيعي ، وأمام الستار لا خلفه.
ونجحت هذه الدعاية في جلب الجماهير الغفيرة طيلة الليالي الأربع، ولما آن وقت ظهور المفاجأة المدهشة، عرف الناس أن السيدة الباريسية الفاتنة، لم تكن إلا استيفان روستي بعينيه وأنفه و«شنبه».
وبعد ذلك بدأنا نمثل على المسرح روايات باللغة الفرنسية ذات فصل واحد: عمادها من الذكور شخصان ... أنا واستيفان أما السيدات ... فقد كان الخير كثيرا ... والكباريه فيه الصنف ده على قفا من يشيل ... فماذا كان يحدث أثناء التمثيل وهل نجحنا في عملنا أو كان الفشل حليفنا؟
الإجابة على هذا السؤال تتضح لك حين تعلم أن المتفرجين كانوا ينتهزون فرصة التمثيل فيديرون ظهورهم إلى المسرح، ويتحدثون بعضهم إلى البعض الآخر، هازلين مصفقين ضاحكين، أما نحن، فقد كنا نمثل للمقاعد وحدها. واللي مش عاجبه يشتغل في برنتانيا، بدال ما يشرب م البحر؟
الفصل الخامس
كشكش بك
خيال ...!
في إحدى الليالي، استلقيت على الفراش واستعرضت أمام مخيلتي كل ما مر بي من تجارب حلوها ومرها، ووقفت أمام الكثير منها استخلص ما تبعها من خير أو شر، فإذا بي أجد مواضيع هي الترجمان الصادق لتلك الحياة التي نقضيها في هذا العالم المضطرب.
وفي فجر هذه الليلة، ولست أدري أكنت في تلك اللحظة نائما أم مستيقظا، وإنما الذي أؤكده أنني رأيت بعيني رأسي خيالا كالشبح، يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت في نفسي. ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد رواياتنا.
ولم أتوان في نفس الدقيقة، وكانت الساعة الخامسة صباحا، فقمت من فراشي وأيقظت أخي الأصغر، وكان لي خير عون وساعد، ورحلت أملي عليه هيكل الموضوع الذي صممت على إخراجه، وكان عبارة عن أن عمدة من الريف وفد إلى مصر، يحمل الكثير من المال فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم، ويقسم أغلظ الإيمان أن يثوب إلى رشده، وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل.
ولما أشرف الخواجة روزاتي صاحب ملهى «الأبيه دي روز» على الإفلاس وكاد يقفل «الملهى »، تقدمت إليه أرجو تأجيل «النطق بالحكم» بضعة أيام، حتى أضع رواية قد تكون الداء الشافي لداء الكساد!!
وقبل الرجل ما اقترحت عليه، فكان أن وضعت أولى روايات كشكش بك، وكانت عبارة عن اسكتش فكاهي، يستغرق عشرين دقيقة، موضوعه كما ذكرت، وجعلنا اسم الرواية «تعالي لي يا بطه».
كشكش بك لأول مرة!
وفي ظهر يوم الافتتاح كنا نجري البروفة النهائية، وقد أحسست حينذاك أن روايتي هذه تعتبر مثلا أعلى في السخافة، وأنني لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعني إلا أن ألعن خاش المؤلف، والمؤلف، بالطبع، هو أنا والمخرج برضه أنا، والملحن ... أنا أيضا! فقلت: آه يا وقعتي يا أنا، وقبضت على قلبي بيدي من هذه اللحظة إلى مساء اليوم المذكور، حيث قصدت إلى المسرح أسير هائما وساقاي لا تستطيعان حملي.
وجلست أمام المرآة أصنع لنفسي «مكياجا»، وأضع للمرة الأولى «ذقن كشكش بك». وانتهيت من مهمتي ونظرت إلى شكلي في المرآة، ولا أنكر عليك يا سيدي القارئ أنني شاهدت وجها «فنيا» يطابق الشخصية التي رسمتها في مخيلتي ... شخصية العمدة الريفي الساذج الذي أشاب الزمان قرنيه، وما تزال أشعة السحر تبدو في عينيه.
وتوكلنا على الله ورفعنا الستار، واقتحمت المسرح بجبتي وقفطاني، ويا قاتل يا مقتول!! كنت مضطربا بالطبع، وكان يلوح في خيالي سوء المصير إذا ما قدر لنا السقوط والفشل. إذ أين أذهب؟ ومن أين لي الأربعون قرشا التي أتقاضاها عن كل ليلة، والتي تدفع عني هموم الزمان وغوائل الحدثان؟
في الزوغان السلامة
وانتهى التمثيل، وما أدري والله العظيم على أي حال انتهى؟ وهل نجحت الرواية أم سقطت؟ وهل نالت القبول من مديرنا العزيز الخواجة روزاتي، أما سببت له امتعاضا فوق ما كان يشعر به من «اشمئناط»؟!
القصد. رأيت أن أرجئ الاستفسار عن ذلك كله إلى اليوم التالي، فلبست معطفي ورفعت «ياقته» أخفي بها أطراف وجهي عن الأعين، وتسللت على مهل متخذا طريقي إلى الخارج دون المرور على الخزينة ... على غير العادة طبعا، لقبض الأربعين صاغا اليومية.
وفي اللحظة التي كدت أسلم فيها ساقي للريح عند الباب الخارجي، لمحتني وكيلة الملهى - وكانت صديقة للخواجة - فصرخت تناديني، وكبل الوهم قدمي فوقفت في مكاني دون حراك، وقلت: آخ ... جالك الموت يا تارك ... التياترو!!
وجاءت إلي الفتاة تهنئني بحرارة، وتحدثني أعذب حديث، وهي تبتسم ابتسامة الحبور والانشراح!! ولكنني مع ذلك كنت أشك في الأمر، وأخشى أن تكون المسألة «تأليس في تأليس»، وأن هذه التهنئة التي غمرتني بها ربما كانت تخفي وراءها «التهزيء التام والطرد الزؤام»!
إلا أنها جذبتني من يدي، فمشيت خلفها متثاقلا إلى أن وجدتني وجها لوجه أمام الخواجة «روزاتي»، الذي استقبلني متهللا هاشا باشا وصافحني قائلا: «أنا ما كنتش أظن أبدا أنك ممثل عظيم بالشكل ده!! أنت هايل قوي، مبروك مبروك!!».
فقلت له: «العفو ... يا خواجتنا بس إيدك على جيبك بقى واتحفني، بالريالين الفينو!! الله يطمنك».
ووضع الرجل يده في جيبه وأخرج ستين قرشا ناولني إياها وهو يقول: «أنت ماهيتك من النهارده كده!!».
ووضعت المبلغ في جيبي وقابلت استيفان روستي خصيصا لأقول له: «ما حدش أحسن من حد. والروس ساوت بعضها يا قفا!!».
رواية جديدة كل أسبوع
ولما اقترب الأسبوع الأول من نهايته، كنت قد أعددت رواية جديدة بالريالات الثلاثة التي ارتفعت إليها ماهيتي اليومية!!
وفي هذه الرواية ارتقى كشكش بك عمدة كفر البلاص، وصار يستصحب في تنقلاته أمينا خاصا - هو «ادلعدي» زعرب (شيخ الغفر)، وقد أسندت هذه الشخصية إلى السيد عبد اللطيف المصري.
ونجحت هذه الرواية كما نجحت سابقتها، ورأى صاحب الملهى بعد ما شاهد من ازدياد الإقبال، أن يرتقي بالنظام بعض الشيء، فجعل رسم الدخول خمسين مليما بعد أن كان الدخول بلا رسوم. وكتب الله لنا «الفتوح» فلم يقف مرتبي عند القروش الستين. إذ اتفق معي صاحب الملهى على أن يكون لي إلى جانب الماهية، حصة تعادل خمسة في المائة من الدخل، نظير التأليف والإخراج، فأقبلت الدنيا ترفرف بجناحيها، وبدأت «أحمر» عيني للبؤس القديم الخالي وأضربه بالشلوت كمان!
وأخرجت روايتي الثالثة باسم «بكره في المشمش»، وبعدها وقفت كل أوقاتي على العمل وحده، أخرج من المسرح ليلا إلى المنزل توا، ومن المنزل صباحا إلى المسرح، لا أعرف للراحة طعما، ولا لمباذل الحياة معنى، وأصبحت الرجل الكامل الذي يعرف قيمة الوقت. فلا يفرط في دقيقة منه دون عمل يؤديه فيه.
خصصت حياتي للفن!
وفي ذلك الحين كان التمثيل في نظر الخاصة وباء يهربون منه ويبتعدون عنه، ولكني شاهدت ظاهرة غريبة قوت من عزيمتي وشدت أزري فيما عولت عليه! هذه الظاهرة أنني كنت في أحد الأيام جالسا في محل (جروبي) القديم، وتصادف أن كان يجلس إلى الطاولة المجاورة لي اثنان تبدو عليهما الوجاهة التامة، ويخيل للرائي أنهما من طبقة الباشاوات، أرباب المعاشات. وكان أحدهما قد راقت له الخلوة فراح يقص على صاحبه نبأ سهرته بالأمس، ويروي له ما شاهده قائلا: «... وبعدين يافندم راح على المسرح عمك كشكش بك ده ... وهات يا ضحك».
وفي يوم آخر كنت أسير في حي الأزبكية، الله يرحم أيامه، فلقد كان في ذلك الحين باسم الله ما شاء الله!!
أقول كنت أسير، فإذا بي أسمع رهطا من النسوة ترتفع أصواتهن بإنشاد لحن من روايتي «بلاش أونطه»، وشعرت بعد ذلك أنني كلما مررت في طريقي، أرى الأصابع تمتد بإشارة نحوي، بينما الأفواه تردد: «هذا كشكش بك»!
في دار القرعة العسكرية
كنت قد بلغت سن الاقتراع قبل ذلك الحين بثمانية أعوام، فدفعت البدلية وعوفيت من الخدمة العسكرية. وبعد الأعوام الثمانية وقع شيء من الجفاء بيني وبين أحد الجيران، فما كان منه إلا أن أبلغ إدارة القرعة أنني هارب من التجنيد، فاستدعيت في يوم الفرز العام، وذهبت لأثبت سوء نية هذا الجار، وأقدم البرهان القاطع على دفعي للبدلية.
فلما بلغت المكان ورأيت الزحام، انتحيت جانبا ووقفت أنتظر دوري. فسمعت أحد الجنود يهتف باسم (نجيب الريحان)، فأجبت النداء على اعتبار أنه ربما نسي الياء الأخيرة في (الريحاني).
وقادني الجندي إلى إحدى الغرف، وقد كنت على يقين أنني واجد فيها مجلس القرعة المؤلف من فريق من الضباط، ولكن شد ما كانت دهشتي حين ألفيت الجلوس رهطا من المشايخ المعممين، وليس بينهم حتى ضابط واحد يخزي العين، سلام عليكم ... عليكم السلام.
وتفرس في أحد المشايخ، وأشار لي بالجلوس فلما جلست قال لي: «اقرأ الربع الأخير من سورة الأعراف!».
أعراف ... وأنا منين أعرف سورة الأعراف يا سي الشيخ؟
قال: «أمال طالب المعافاة من القرعة العسكرية وبتدعي أنك حافظ القرآن ليه؟».
وحقق المشايخ ودققوا، فاتضح أن هناك فقيها اسمه (الشيخ بخيت الريحان)، وأنه حين طلب للقرعة التمس المعافاة لأنه من حملة القرآن الكريم، فجيء به للامتحان. وقد اختلط الأمر على الجندي وقت النداء فنطق بكلمة (نجيب) بدل بخيت.
وانتهى هذا الموقف الحرب والحمد لله بسلام، بعد أن قدمت الدليل القاطع والبرهان الساطع على أنني سبق أن دفعت البدلية بالكمال والتمام منذ ثمانية أعوام.
30 جنيها في اليوم
ولما رأى الخواجة «روزاتي» صاحب الملهى ذلك الإقبال المتزايد، والتهافت المتوالي، والرقي في «صنف المتفرجين» رأى أن يتبع قاعدة العرض والطلب التي يفهمها «المدردحون» من مهرة التجار، فبعد أن كان رسم الدخول خمسين مليما للعموم، أصبح على درجتين أولى بخمسة عشر قرشا وثانية بعشرة قروش.
ولقد أثبت هذا الارتفاع بعد نظر روزاتي، فإن الإقبال كان كما هو مع تضاعف الإيراد بطبيعة الحال.
وهناك ظاهرة لطيفة بدت للعيان، ذلك أن موعد افتتاح الملهى كان الساعة التاسعة من كل مساء، وكان البرنامج يشمل أشياء غير روايتنا، لذلك لم يكن الستار يرفع للتمثيل قبل الساعة الحادية عشرة، وفي هذا الموعد بالذات كانت المقاعد تمتلئ حتى آخرها، أما قبل ذلك فكنا نشاهد المكان شبه «القاع الصفصف» زي أسيادنا البلغاء ما بيقولوا!!
فهذه الظاهرة السارة، أثبتت لصاحب رأس المال، أن العبد لله كان بمثابة البيضة الذهبية، أو المنجم الذي يدر الربح الحلال، فلقد كان الإيراد اليومي لمسرحه يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها بعد مصروفاته جميعها وهو مبلغ لم يكن أحد يحلم به!!
هذا من جهة مدير المحل، أما من ناحيتي أنا فقد كنت قانعا بما قسم لي، أنظر بعين الرضا إلى ذلك الربح الذي يدخل خزينة الرجل، معترفا بما طوقني به من جميل لست أنساه، وفضل وجب علي أن أرعاه. ذلك أنني على مسرحه ظهرت، وبين جدرانه اشتهرت. وقد أحس مني هذه العاطفة فتوثقت بيننا صلة الود وتمكنت عرى الصداقة، مما كان سببا في مواصلة النجاح.
اجتماع البائسين سابقا
قلت إننا عودنا الجمهور أن نخرج له في كل أسبوع رواية جديدة، وقد كان في ذلك العمل إرهاق لي فلم يكن في طاقتي أن أمثل وأجري البروفات اليومية، ثم أضيف إلى ذلك مهمة وضع الروايات وتأليفها، فلما شعر الخواجة روزاتي بذلك، بادرني برغبته في أن أنتقي مساعدا يعاونني في التأليف، كي أوقف جهودي على التمثيل ... فنثرت بين يدي كنانة الأصدقاء القدماء، الذين قاسوا معي العناء، وشربوا وإياي كئوس البؤس والشقاء. فكان أن اخترت من بينهم الأستاذ أمين صدقي. وبانضمامه إلينا أصبحت الفرقة تضم من السادة البائسين السابقين أربعة هم محسوب السيادة وأمين، واستيفان روستي، والواد زعرب الذي هو عبد اللطيف المصري على سن ورمح!!
ولما كانت لكلمتي عند روزاتي قيمتها، فقد رأيت أن أبذل «نفوذي» خي يا خي ... في أن أحصل للزملاء الأكرمين على ماهيات ذات شأن يستعينون بها على «قضاء حقوق للعلا قبلهم»!! كما كان يقول الشعراء ويطردون بها كابوس الشقاء القديم. وإنه ليسرني أن أقول بأن مسعاي قد نجح والحمد لله. وإن الأعزاء - بما فيهم استيفان - قد نالوا ما كانوا يشتهون من مرتب مرتفع. وبعدما كان استيفان هو الذي يتوسط لأجلي، انعكست الآية فرددت له جميله يا أفندم وأهي دنيا قلابة .... يوم كده ويوم كده!!
من أجل كشكش بك
ارتفع مرتبي إلى سبعة وعشرين جنيها في الشهر، وقد كان هذا المبلغ رقما قياسيا لم تعهده المسارح من قبل، ولم يصل إليه ممثل في ذلك الحين، الذي كان الجنيه فيه يسوى الشيء الفلاني والشيء العلاني!
ولقد كان الجميع يتحدثون بهذه القيمة ويتنادرون بها في مجتمعاتهم، مما كان محلا للاستغراب من زملائي الأقدمين ... أولئك الزملاء الذين أصدروا علي منذ سنوات سابقة لهذا التاريخ حكما - مشمولا بالنفاذ - يقضي بطردي من فرقة أبيض وحجازي!! ليه؟ لأنني لا أصلح للتمثيل بتاتا، ولا أليق للظهور على المسرح ... بل ولعل القارئ العزيز يذكر أنني قلت فيما سبق بأن أولئك الإخوان تنبئوا - الله يصبحهم بالخير - بأنني لن أكون في يوم من الأيام ممثلا ناجحا، وأنه خير لي أن أبحث عن مهنة أخرى آكل منها عيش، بدل ضياع وقتي فيما لا فايدة منه ولا عايدة!!
قلت إن مرتبي كان موضع استغرابهم، ولم أقل حسدهم لأنهم بدءوا في ذلك الوقت، وفي ذلك الوقت فقط، يكتشفون مواهبي الرائعة! وفني البديع! وتمثيلي المدهش! بل ويتنبئون لي بمستقبل زاهر وعهد باهر. عيني يا عيني على التنبؤات، التي كانت على طرفي نقيض مع ما سبق أن شرفوني به من تنبؤات ... برضه!!
كشكش بك والجنس اللطيف
لم يقتصر نجاح أعمالي على الوجهة العامة، بل كان له أثر شخصي خاص، فقد كنت شابا في مقتبل العمر، قيافة، على سنجة عشرة، أعيش في وسط تغمره الروح الأجنبية. وكل هذه ميزات ترفع من شأن المرء في نظر الكل، ولا سيما الجنس اللطيف. لهذا أصبحت في ذلك الوقت، مطمح الكثيرات من الزميلات وغير الزميلات، ولكنني في هذا الحين قد طرحت الأفكار القديمة ظهريا، وانتويت أن أخلص لعملي وحده، وأن أدع لغيري مداعبات «المعلم» كيوبيد ومناوراته. ذلك ما عاهدت نفسي على انتهاجه إذ ذاك.
وأرجو أن يسمح لي القارئ العزيز أن أشير إلى أنني ما ذكرت هذه الناحية الدقيقة، وهي أنني كنت هدفا لسهام الكثيرات من أعضاء الجنس اللطيف. أقول إنني لم آت على هذه الناحية الدقيقة، إلا لأنبه الأذهان إلى حادثة خاصة لم يئن أوان سردها بعد. وقد كانت سببا مباشر في تغيير مجرى حياتي، وفي إيجاد اتجاه جديد حملني تياره بقوة جارفة. ولست أريد التبسط في شرحها حتى يجيء دورها. فمهلا وإن غدا لناظره قريب!!
وأعود فأقول إن أعمالنا في ملهى الأبيه دي روز نجحت نجاحا متواصلا. وإن الإيراد الصافي الذي كان يتقاضاه المسيو روزاتي كان يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها في اليوم الواحد. وقد كان هذا النجاح الفذ داعيا أصحاب الملاهي الأخرى إلى أن يحذوا حذو «الأبيه دي روز» وينسجوا على منواله، فراحوا يتلمسون السبل إلى ذلك، ويجهدون أنفسهم في الوصول إلى ما وصل إليه مسرحنا. وكان في مقدمة تلك الملاهي (كازينو دي باري) الذي كانت تديره إذ ذاك مدام مارسيل لانجلو «مكان سينما استديو مصر (ريتس الآن)».
وجاءت مدام مارسيل بالزميل القديم الأستاذ عزيز عيد، وجعلته على رأس فرقة ظلت تواليها بالعناية والاهتمام، ولكن للأسف لم تسفر هذه التجربة عن شيء من النجاح قل أو كثر!! ولأسباب مجهولة باء مسرح الكازينو بالخسران المبين.
ظهور الكسار
وراحت مدام مارسيل تفتق ذهنها في ابتكار الأساليب المتنوعة، فتناولت أشخاص الممثلين بالتغيير والتبديل، وفعلت مثل ذلك مع المديرين أيضا، إلى أن هداها التوفيق إلى الأستاذين مصطفى أمين وعلي الكسار. وهنا فقط بدأت فرقة (كازينو دي باري) تحتل مكانا هاما في عماد الدين، كما بدأ نجم الأستاذ الكسار يتلألأ في ذلك الحين إلى جانب نجمي، وأوجدت الظروف من الفرقة - التي كان على رأسها - منافسا قويا لفرقتنا الناجحة.
ونترك ذلك جانبا فنقول إننا أخرجنا مع الأستاذ أمين صدقي روايات «خليك تقيل» و«هز يا وز» و«اديله جامد».
وأظن القراء الأعزاء يذكرون ما سبق أن قلته، من أن معدل الرواية كان أسبوعا واحدا نخرج بعده الرواية الجديدة.
ولكن النجاح الكبير الذي واجهناه أغرانا بمدها إلى أسبوعين لكل رواية، ومع ذلك فقد كان الجمهور يوالينا بإقباله وتشجيعه، اللذين تعودناهما منه منذ البداية. وبينما كنا على وشك إخراج روايتنا الرابعة، انضم إلينا زميلنا العزيز الأستاذ عزيز.
وقد ذكرت فيما قبل أن هناك حادثا كان سببا في تغيير مجرى مستقبلي، وقد مررت به مرورا ووعدت بالعودة إليه هذا الحادث هو كما يلي:
لم يكن النجاح الذي بلغناه يروق في أعين الكثيرين من حسادنا، هؤلاء وجدوا مرتعا خصيبا فيما كان بيني وبين مسيو روزاتي من صداقة، نبتت على أثر ارتباط مصالحنا المشتركة. ولذلك بدأ أولئك الحساد يعكرون الجو بيننا ويتلمسون أسباب الشحناء، باذلين في ذلك جهودا غير محمودة، إلى أن وقفوا على ناحية الضعف في الرجل، فضربوا على وتر حساس استطاعوا بواسطته أن يتغلغلوا إلى دخيلة الرجل، ويوهموه أنني أناوئه فيما استطاب من صداقة خاصة للبعض، ويعلم الله أنني بريء من هذا الفعل، وأنني كنت أعرف للرجل جميله علي، فلم تحدثني نفسي يوما بنكرانه.
وأحسست أن العلائق بيننا بدأت تتراخى من ناحيته، وأن الدسائس وجدت طريقا إلى قلبه، فلم أتوان في مفاتحته في الأمر، ولكنه أنكر وجود شيء من سوء التفاهم ... ولاح لي من هذا الإنكار أنه كان إلى الإثبات أقرب. فقلت له مادام الصفاء بيننا على حاله فأريد كبرهان قطعي أن ترتفع ماهيتي إلى ثلاثين جنيها في الشهر، أي أن أحصل على ثلاثة جنيهات فقط كعلاوة شهرية، وهو مبلغ ضئيل بالطبع بالنسبة لما كان يربحه، ولكنني ما كدت أتقدم إليه بهذا الطلب حتى رفضه بشكل أثارني، وزاد على رفضه تأنيبا لم أتحمله، وتعريضا لم أجد معه بدا من إنذاره بترك العمل بعد مهلة أسبوع آخر.
ويظهر أنه فهم إنذاري هذا على غير حقيقته، ظنا منه أنها مناورة أطالعه بها، وأنني لن أجد مع غيره عملا كالذي كنت أباشره وإياه، لذلك أجابني بأن الباب مفتوح واللي مش عاجبه ... مع السلامة!!
لم تكن مدة التعاقد بيننا قد انتهت بعد، وكانت الشروط تقضي بدفع مائة جنيه غرامة لكل من يخل بما ورد في العقد، ومع ذلك قررت الإخلال بعد مهلة الأسبوع الذي ضربته له، كي يجد في أثنائه من يحل محلي في مسرحه، ومادام الباب مفتوحا كما يقول فلأعمل أنا على قفله بالضبة والمفتاح؟!
نغنغة
ولقد شجعني على إتيان ما فعلت، أن مفاوضة كانت تجري في ذلك الحين بيني وبين المرحوم الخواجة «ديموكنجس» على أن أتفق معه على العمل في مسرح جديد اسمه «الرينسانس» في شارع بولاق «فؤاد الأول» (26 يوليو الآن)، وموقعه في المكان الذي يشغله اليوم محل (إخوان شملا).
وانتهى الاتفاق بيني وبين مسيو كنجس على أن أتناول مرتبا شهريا قدره مائة وعشرون جنيها. وقبضت منه بالفعل عربونا يعادل ماهية نصف شهر، أي ستين جنيها، فكانت هذه المرة الأولى التي أقبض فيها من عملي مثل هذا المبلغ الضخم دفعة واحدة!!
وبعد نهاية المهلة المعطاة إلى الخواجة روزاتي، انتقلت بحول الله وقوته إلى تياترو «الرينسانس»، وبدأت مع الفرقة نجري بروفات فيه لا نلوي على شيء.
وبدأ مديرنا القديم يشعر بالخسارة التي حلت به، وراح يعض بنان الندم على ما جره إليه دس الدساسين، وأكاذيب المنافقين. فماذا هو فاعل إذ ذاك؟
وما الطرق الذي يسلكه؟
تسجيل اسم كشكش بك
راح يجرنا إلى المحكمة المختلطة مطالبا إيانا بتعويض قدره ألف جنيه مصري، وبعدم استعمال اسم «كشكش بك» باعتباره صاحب المحل الذي ابتكر هذا الاسم. وبعد مرافعات ومداولات أخذت دورا كبيرا في ساحة المحكمة، صدر الحكم، فإذا هو يقضي برفض طلبات المدعي مع إلزامه بدفع مبلغ المائة جنيه المنصوص عليها في العقد المحرر بيني وبين المسيو روزاتي. وزاد هذا الحكم أن سجل لي في حيثياته اسم «كشكش بك» بصفتي أول مبتكر له، وأول مؤلف استعمله. وأسقط في يد الرجل، وكان ذلك نهاية ملهى «أبيه دي روز».
وتألفت فرقتنا الجديدة في «الرينسانس» من السادة إياهم الذين كانوا دعامة أبيه دي روز، وهم الأربعة الكرام «أمين صدقي واستيفان روستي وعبد اللطيف المصري والعبد الفقير، وانضم إلينا لأول مرة عبد اللطيف جمجوم.
وبدأنا عملنا فتبعنا جمهورنا الذي تكون في الملهى السابق، وتضاعف الإقبال عن ذي قبل وكتب الله لنا ما كنا نرجو من نجاح وتوفيق.
وحين كنا نعد روايتنا الأولى، تناقشنا في اختيار الاسم الذي نطلقه عليها وانتهينا إلى قبول اقتراح أحدنا، وهو أن نجعل الاسم أداة لإغاظة خصمنا الذي رفع علينا الدعوة في المحكمة، ولم يكن الحكم قد صدر إذ ذاك - وهذا الاسم هو «إبقى قابلني!!».
ولعله من المناسب هنا أن نقول إن تلك التسمية كانت بداية لاكتشاف جديد في عالم التمثيل، وهو مراعاة «التأويز والتريقة» على الغير، باستعمال اصطلاحات وأمثال يذهب الخصوم في تفسيرها مذاهب شتى : ويطبقونها على ما يكونون فيه من حالة نفسية. ولقد انتشر هذا (الاكتشاف) انتشارا سريعا حتى صار قاعدة، أو تقليدا أو دستورا للفرق، حين اختيار أسماء رواياتها. إذ كانت كل واحدة تراعي في هذه التسمية أن ترد ردا محكما على الاسم الذي تكون الفرقة الأخرى قد اختارته لرواياتها الجديدة ... وهلم جرا.
واستمرت رواية «إبقى قابلني» تمثل شهرا كاملا دون أن يقل إقبال الجمهور أو ينقص إيراد الشباك، مما حمل «المسيو ديموكنجس مؤجر الملهى» على تمام الثقة بأننا نسير إلى الأمام، وبأنه كان على حق حين رغب في الاتفاق معنا.
وبعد شهر أخرجنا رواية «كشكش بك في باريس»، فكان نصيبها من النجاح نصيب سابقتها. وأخذ اسم كشكش بك ينتشر بين الطبقات، ويسري فيها مسرى الكهرباء، حتى جرى على كل لسان في الدور والقصور والميادين والأزقة. ولم يعد أحد في مصر كلها قاصيها ودانيها لم يردد هذا الاسم، بل ويبتسم حين يطرق سمعه.
وكانت ثالثة رواياتنا «وصية كشكش» فلم تقل من حيث النجاح والفوز عن سابقتها.
عطلة إجبارية
وفي شهر مايو سنة 1917 انتهت مدة التعاقد بين الخواجة ديموكنجس وصاحب الملك فلم يشأ ديمو أن يجدده، بل رأى بثاقب بصره أن يستقل بمسرح جديد يكون ملكا خاصا به، ففاتحني في الأمر، ووافقته على وجهة نظره، لأن قيمة الإيجار الذي يدفعه كانت كبيرة جدا. وراح ديمو يبحث عن المكان الجديد فوقع اختياره على «قهوة» في شارع عماد الدين، مقامة على قطعة من الأرض يمتلكها البنك العقاري المصري، وبعد المعاينة اللازمة اتفقنا على احتلالها وإقامة مسرح مكانها.
وتقرر أن يبدأ العمل فورا في الهدم والبناء وقدرت المدة اللازمة لذلك بأربعة أشهر قضيناها معطلين عن العمل.
ولكن كانت جيوبنا والحمد لله تحوي ما يكفينا ألم الفاقة وشظف العيش الذي قاسيناه في أيامنا الخالية ... الله لا يرجعها ولا يورينا وشها!
وانتهت المدة المقررة فإذا نحن أمام مسرح كامل البناء وإن كان من غير سقف، ومع ذلك تقرر استئناف العمل، ولنكتفي بتغطية الصالة بالقماش حتى يحلها الحلال، ثم ننظر في موضوع وضع السقف اللازم!!
وجاء دور اختيار الاسم الذي نطلقه على مسرحنا هذا، ففكرت في اختياره على أن يكون معروفا للمصريين والأجانب على حد سواء، لأني لاحظت أن أولئك الأخيرين بدءوا يتهافتون (كزبائن) مستديمين لفرقتنا، بحيث أصبح الإقبال موزعا بين الفريقين (المصريين والأجانب) على حد سواء. ووقع اختياري على اسم الأجبسيانة فأطلقناه على مسرحنا هذا، وقد كان افتتاحه مبدأ في التاريخ الجديد لشارع عماد الدين. وبعد قليل من الزمن كان اسم مسرحنا يطغي على اسم الشارع لامتداد سمعته واتساع نطاق شهرته.
وهنا أرى أن أعود قليلا إلى موضوع بناء مسرح الأجبسيانة فأقول إن المال الذي كان المسيو كنجس يملكه قد نضب قبل أن ينتهي العمل، فاضطررت أن أمده بما بقي لي من «شقا العمر كله» حتى أصبحت على الحديدة «وعدنا إلى ما كنا فيه من البؤس إياه».
ومن فات قديمه تاه!!
ذكريات الماضي القريب
في هذه الأيام ساقت لي الأقدار فتاة فرنسية ما تزال ذكراها إلى اليوم عالقة في ذهني لا ينسيني إياها كر الغداة ومر العشي. هذه الذكرى الجميلة، أستميح القراء في أن أقف وإياهم إزاءها برهة.
كانت «لوسي دي فرناي» - وهذا هو اسمها - صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، وساعدا يشد أزري ويشدد عزمي. ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها وعهد صداقتها.
ولأذكر لك أيها السيد القارئ مثلا من أمثلة الحياة التي كنت أحياها مع «لوسي».
وصلت إلى القاهرة إحدى الفرق الإفرنجية، وكانت تعمل في مسرح الكورسال، (الذي بنيت في موضعه عمارة عدس بشارع عماد الدين الآن). وكنت شغوفا بمشاهدة تمثيل تلك الفرق، وقد كان في مكنتي كممثل - أن أطلب تصريحا مجانيا للدخول، يعني «بون» بلغة الفن!! ولكنني كنت أرى في ذلك ما يخجل، وكنت أفضل أن أدفع ثمن التذكرة مهما كلفني ذلك.
وفي إحدى الليالي أعلنت الفرقة عن تمثيل رواية كنت شغوفا - أنا ولوسي - بمشاهدتها، ولم أكن أمتلك في هذه الليلة غير اثني عشر قرشا، فاتفقت وفتاتي على أن نحتل مقعدين في أعلى التياترو، وكان ثمن التذكرة خمسة قروش، فدفعت نصف الريال ولم يبق إلا نصف فرنك. وكان الجوع قد أخذ من لوسي كل مأخذ، وهداها تفكيرها إلى خطة قررت تنفيذها. فقادتني إلى قهوة قريبة، وهناك طلبت (واحد شاي). فلما جاء الجرسون بالطلب، شربت الشاي من غير سكر، ثم فتحت حقيبتها ووضعت فيها جميع قطع السكر التي أحضرها الجرسون!
أما الحكمة في ذلك فهي أن الفتاة كانت قد دبرت في المنزل بعض الخبز وقليلا من الشاي، ولم ينقصها إلا السكر!
فلما انتهى التمثيل وقصدنا إلى منزلنا، أعدت الشاي مع ما تهيأ لها من السكر الذي ملأت به حقيبة يدها في أول الليل، وجلسنا نتناول عشاءنا «عيش وشاي وبس!».
فاتحة سعيدة لعهد سعيد
ونعود إلى العمل فأقول إن مسرح «الإجبسيانة» أعد بالفعل، بس من غير سقف ... فجمعت الفرقة بعد أن أعددت مع الأستاذ أمين صدقي أولى الروايات التي أزمعنا إخراجها وهي رواية «أم أحمد».
وقد انضم إلى الفرقة في هذه الأثناء الأستاذ حسين رياض وفي يوم 17 سبتمبر سنة 1917، افتتحنا مسرح الإجبسيانة، وبدأنا عملنا فيه بنجاح كان فاتحة سعيدة.
وإن شئت أن أحدثك عن الإقبال الذي كانت تتمتع به فرقتنا من الجمهور، فيكفي أن أقول لك إن شباك التذاكر كان يقفل قبل موعد التمثيل بأكثر من ساعة لنفاد التذاكر.
وفي أواخر عام 1917 استأثرت رحمة الله بالفقيد الكريم الشيخ سلامة حجازي، فامتلأت قلوبنا حزنا عليه، ورأيت أن الواجب يدعونا جميعا إلى إعلان الحداد العام، وتعطل العمل في المسرح ليلة بهذه المناسبة. ولكن المسيو كنجس رفض أن يجيبنا إلى تلك الرغبة قائلا إنه يكفي لإعلان الحداد وقف التمثيل بضع دقائق!!
وانتهى هذا التضارب في الرأي إلى انسحابي من الفرقة نهائيا، وتصميمي على التضحية بعملي مهما كانت النتيجة.
وأسند صاحب التياترو دوري في رواية «دقة بدقة» إلى الأستاذ حسين رياض، وسار العمل في (الإجبسيانة) بعد انسحابي بضعة أيام لا تتجاوز الأسبوع، ثم تدهورت الفرقة وانفض الناس من حولها، واضطر المسيو كنجس إلى إقفال مسرحه، والعودة إلى الدخول معي في مفاوضات جديدة.
لم تكن تعجبني خطة كنجس في إدارة الفرقة، ولذلك عرضت عليه اقتراحا يتضمن كف يده عن الإدارة، بل وعن كل شيء في نظير أن يتقاضى 30٪ من الإيراد يوميا! فقبل، ومن تلك اللحظة بدأ تاريخي في إدارة الفرقة التمثيلية.
موازنة الميزانية في شهرين
جردت ما في جعبتي من متاع، فإذا الخزينة لا تحوي غير خمسين جنيها فقط لا غير!! ومع ذلك ألفت الفرقة وقبل الممثلون بارتياح كبير أن يعملوا تحت إدارتي، فأعددنا رواية «حماتك تحبك» من وضع الأستاذ أمين صدقي. وبعدها رواية «حلق حوش». وبعد شهرين هما - نوفمبر وديسمبر - عدت إلى جرد الخزينة للاطمئنان على حالة الاحتياطي، ولكنني رأيت رأس المال كما كان ... خمسين جنيها بلا زيادة ولا نقصان! أي أنني استطعت «موازنة» الميزانية بأن جعلت الإيرادات مساوية للمصروفات، وكان الله يحب المحسنين!
لكن ده مش الغرض يا محترم! إحنا عاوزين غير كده.
نهايته. فكرت كثيرا في طرق الإصلاح. فرأيت أن «كازينو دي باري» المجاور لنا، والذي تديره مدام مارسيل، «لانجلو»، ويعمل به الأستاذ علي الكسار، أقول رأيت بعد البحث الدقيق أن هذا الكازينو قد احتكر إقبال الجمهور، الذي كان يقصده زرافات ووحدانا ويملأ مقاعده ومقاصيره. ما العمل إذن؟
فلأوقف التمثيل في مسرحي ليلة أمضيها بهذا الكازينو لأدرس عن كثب علة هذا الإقبال وسببه.
لم أتوان لحظة في تنفيذ تلك الخطبة، فقصدت في الحال إلى دي باري وقضيت به ليلة كاملة (كمتفرج)، فأدهشني أن أرى أن كل ما هناك عبارة عن (استعراض) يغلب فيه العنصر الإفرنجي، وتتخلله بضع مواقف فكاهية يظهر فيها الأستاذ علي الكسار.
لم تكن تلك الاستعراضات تحوي موضوعا ما. ولا معاني خاصة، ولكن كانت فخامة المناظر وعظمتها، و«تابلوهات» الرقص ... هي كل ما يشتمل عليه البرنامج! يا لله!! مادام الأمر كذلك، فلماذا أتعب نفسي «وأشغل مخي» في الإتيان بالموضوعات، والبحث عن الروايات ذات المغزى. وما دام الجمهور يستريح ويقبل على النوع الاستعراضي فماذا يمنع أن نقدم له ما يشتهيه؟
أولى رواياتنا الاستعراضية
صممت بعد هذه السهرة على عمل رواية استعراضية، على شرط أن يكون العنصر المصري فيها غالبا على الإفرنجي، وأطلعت زميلي الأستاذ أمين صدقي على هذه النية. وفي الحال وضعنا «هيكل» رواية «حمار وحلاوة»، وبدأ الأستاذ أمين يضع أناشيدها على أوزان موسيقية مطروقة، بينما جعلت كل همي في ترتيب المناظر، و«توضيب» الستائر وإمداد الفرقة بما ينقصها من عناصر الرقص والإنشاد.
انتهت الرواية وأجرينا بروفاتها اللازمة، ورفعنا الستار عنها في أول ليلة، بعد أن «خرشمت» صحة الاحتياطي، وتلفت أمله وأنزلته من رقم الخمسين إلى الصفر، وأصبحت قبل رفع الستار ... إيد ورا ... وإيد قدام! فإما إلى الصدر، وإما إلى القبر. وأهي تخريمه يا صابت يا اتنين عور!!
كان إيراد الليلة الأولى 35 جنيها فقط. إنما الذي شعرنا به هو الاستحسان العام الذي قوبلت به الروايات من الجمهور وقد كان هذا الاستحسان أقوم إعلان لنجاحنا. فقد كان الإقبال يتزايد يوما عن آخر. ويكفي أن أقول لك بأن الخزينة عمرت في نهاية الشهر الأول، وقفز رقم الصفر الذي كان يحتلها إلى 400 جنيه.
لم يكن النجاح مقتصرا على الناحية المادية، بل هناك نجاح أدبي آخر، ملأ نفسي سرورا وقلبي انشراحا، ذلك أنه في إحدى الليالي طرق باب المسرح طارق، وجيء به إلي، فإذا هو أستاذي القديم (الشيخ بحر) مدرس اللغة العربية، الذي سبق أن قلت إن الفضل يعود إليه في تدريبي على إلقاء المحفوظات العربية في المدرسة بطريقة خطابية مقبولة.
جاء أستاذي الشيخ بحر يهنئني بعد مشاهدته الرواية، ويفاتحني بما شمله من سرور بنجاح تلميذه. وأقسم أيها السادة أن تهنئة الشيخ كانت عندي أكبر من مبلغ الأربعمائة جنيه التي عمرت بها خزانتي إذ ذاك.
أمين صدقي يترك الفرقة
كان الأستاذ أمين صدقي يتقاضى مرتبا شهريا قدره ستون جنيها، ولكنه بعد أن شاهد ذلك الإقبال المنقطع النظير وهذا الإيراد الضخم، رأى أن يملي علي شروطا جديدة فجاءني مطالبا بالاشتراك معي في الإيراد مناصفة بدل أن يتناول مني أجرا! دهشت لذلك طبعا وأجبته بأنني أعارض في ذلك، وإن كنت لا أمانع في رفع مرتبه إلى الدرجة المناسبة.
وتمسك كل منا بوجهة نظره. فأضرب الأستاذ أمين عن الكتابة، حينما طلبت إليه أن يبدأ في وضع الرواية الثانية على غرار «حمار وحلاوة» ....
واضطررت إذ ذاك أن أبحث عن شخص آخر يقوم بمهمة وضع الأزجال. وأعلنت فعلا عن حاجتي هذه إلى كثيرين ممن حولي، فتقدم البعض لأداء هذا العمل. وأذكر من بينهم الأساتذة حسني رحمي المحامي والأستاذ إميل عصاعيصو، وقد كان ذلك أول عهدي به. وكذلك جاءني زميل قديم ممن كانوا معي في البنك الزراعي هو المسيو جورج. ش.
فقلت للأخير إنني أرغب في وضع أنشودة تلقيها طائفة من المرابين «الفايظجية» وقانا الله وإياكم شرورهم!!
وفي اليوم التالي حضر السيد (جورج) وأطلعني على زجل ظريف وقع مني موقع الاستحسان. فسألته: «أنت حقا مؤلف هذا الزجل؟». وأجاب بالإيجاب. فقلت: «إذا كان هذا صحيحا فأنا أعينك في الحال ...».
إلا أنه لم يكد يغادر غرفتي حتى دخل صديق لي أكتفي بأن أرمز لاسمه بحرفي (ت. م)، وقال إن واضع الزجل ليس جورج. ش، ولكن صديق له اسمه (بديع خيري)، وكل ما هناك أن اتفاقا عقد بين الاثنين (بديع وجورج) مضمونه أن يتخصص الطرف الأول في التأليف، ويقوم الطرف الثاني بعملية البيع. وزاد الصديق على ذلك أن في استطاعته أن يعمل على فض هذه الشركة الوهمية، وأن يتصل بالمؤلف مباشرة.
أول اتصال بصديقي بديع
واهتممت بما أبداه الصديق (ت. م) وطلبت إليه المبادرة بتنفيذ قوله، فلم يتوان صاحبنا - كتر خيره - بل جاءني في مساء اليوم التالي يجر خلفه فتى ممشوقا.
ولم يشأ صديق الطرفين (ت. م) أن يترك المسألة تمر طبيعية، بل ضحك وقال لي ما نصه: «ما تتغرش في نفخته دي. دا خجول لدرجة ما تتصورهاش، بس العبارة إنه شرب دلوقت ثلاث كاسات نبيت، علشان يتشجع!».
وتناقشنا بعض الوقت مناقشة دلتني على أن الفتى جد مهذب، وأنه حقا خجول، حسن التربية، جم الأدب. ولعله من الظريف أن أقول إنه بعد فترة قصيرة انكمش صدره العريض وتقلص قوامه الممشوق، وحل به اضطراب غريب. فأومأ لي الصديق (ت. م) قائلا: «اتفرج صاحبنا فاق من الثلاثة نبيت وبقت حالته عبر!».
وقد سألت «بديعا» أهو حقا صاحب زجل «الفايظجية» الذي سبق أن جاءني به المسيو جورج، من يومين، فتردد في الإجابة، وتغلب عليه الخجل والكسوف، وراوغ كي يغير مجرى الحديث، ولكنني أقفلت في وجهه كل أبواب التخلص حتى اعترف.
قلت له إنني أريد منك زجلا جديدا تلقيه طائفة من الأعجام وفدت لزيارة كشكش بك عمدة كفر البلاص، فمتى تتم هذا الزجل؟ فلم يتوان في التأكيد لي بأن في استطاعته الفراغ منه في صباح اليوم التالي. وقد كان عند وعده، إذ جاءني في نفس الموعد يحمل الزجل المطلوب ومطلعه!
هاي هاي أعجام إخوانا ... كفر البلاص قدامنا.
ياللا مافيش استنى
أعجبت بالزجل وبخفة الروح التي تمشت في ثناياه، فلم يغادر بديع المسرح قبل التوقيع على عقد اتفاق بالعمل معي بمرتب شهري قدره ستة عشر جنيها مصريا.
ولعل القارئ يذكر ما قلته من أن المال الاحتياطي بلغ في خزينتي في نهاية الشهر الأول من تمثيل رواية «حمار وحلاوة» أربعمائة جنيه. والآن أقول بأن هذا المبلغ تضاعف دون زيادة أو نقصان عند ختام الشهر الثاني، أي أني وجدت بين يدي إذ ذاك ثمانمائة جنيه مصري ... جنيه ينطح جنيه!
عدت بذاكرتي في هذه الحالة إلى حالة البؤس والشقاء، وجبت في عالم الخيال لحظات أفكر في السعادة وأسبح في بحار الآمال قائلا: «أتكون السعادة يا ترى في الحياة أو العظمة أو المال ...؟».
وحين دارت برأسي هذه الأفكار ذكرت حادثا وقع لي حين كنت أعمل في شركة السكر بنجع حمادي. ذلك أنه وصل إلى المدينة في أحد الأيام فيلسوف فرنسي كان قد نزل عن ثروته للأعمال الخيرية مكتفيا بالكفاف، وجعل همه في إلقاء محاضرات شبه صوفية.
وذهبت مع الذاهبين لسماع محاضرة هذا الفيلسوف، لا حبا في السماع ولا رغبة في العلم، بل لمآرب أخرى! ولئن تسألني عن هذه المآرب ... الأخرى، فلا تنتظر مني جوابا شافيا، وكفاني أن أصرح لك بأن هذه المحاضرات كان يقصد إلى سماعها أناس كثيرون من الجنسين اللطيف والخشن ....
أعود إلى الموضوع فأقول بأن الذي استرعى سمعي في محاضرة هذا الفيلسوف الجملة الآتية: «أيها السادة ... لقد أجهدت نفسي في البحث عن السعادة، فعرفت أنها ليست في هذه الحياة الدنيا إلا لفظا بلا معنى وكلمة بلا مغزى!
كنت غنيا واسع الثراء ... ولكن ذلك لم يجلب لي السعادة ... فتشت عنها في مملكة الحب، فكان لدي أجمل من وددت، ومع ذلك كان هذا الحب أمامي سرابا خلف لي حسرة وتعاسة.
جربت الجاه والترف، جلت في ميادين الصداقة، وأقسم أنني لم أعثر على المسمى الجميل الذي يطلقون عليه اسم السعادة، ولذلك رجحت ... لا بل آمنت بأن هذا العالم خلو من السعادة. وأننا إن افتقدناها فلن نجدها إلا في عالم آخر غير هذا العالم، وفي حياة أخرى باقية غير هذه الحياة الفانية!».
انتهى بتصرف!!
أقول إنني حين وجدت بين يدي ثمانمائة جنيه ترددت في أذني كلمات هذا الفيلسوف العجر، فضحكت ملء شدقي وقلت في نفسي: أين هذا العاجز الغبي، كي أقوده إلى عالم السعادة التي ضل سبيلها وفقد طريقها؟
نهايته ... لست أريد التوسع في هذه الناحية فقد لمست السعادة وقطفت إذ ذاك ثمارها وضربت عرض الحائط بالفيلسوف الفرنسي وبنظرياته البائدة.
مع الشيخ سيد درويش
نجاح متواصل
بعد أن انفصل عنا الأستاذ أمين صدقي، أعددت رواية سميتها «على كيفك» وهي التي وضع أزجالها الصديق الجديد بديع.
وقد كنت في أثناء تمثيلها أدرس حالات الجمهور النفسية، وأرقب مقدار الأثر الذي تحدثه تلك الأزجال الجديدة في نفسه. وقد سرني أنه كان يتقبلها قبولا حسنا، بل وأحسست فوق ذلك أن جميع الطبقات كانت تستريح لسماعها وتقبل عليها أحسن إقبال.
وقد رأيت إزاء ذلك أن أشجع هذا الفتى الجديد «وأفتح نفسه» للعمل، فرفعت مرتبه من 16 جنيها شهريا إلى ثلاثين جنيها دفعة واحدة. ولقد تغير الحال تغيرا مدهشا، واتسعت دائرة الأعمال وأضحى مسرح الأجبسيانة مقصد الرواد من كل حدب وصوب. حتى في الأيام التي كان يعبر عنها بالأيام «الميتة» وهي الاثنين والثلاثاء والأربعاء.
قضينا شهرين في تمثيل رواية «على كيفك» كان الرصيد بعدهما قد بلغ ثلاثة آلاف جنيه، وقد كان قبل تمثيلها ثمانمائة فقط. وبعد أن رأيت هذا النجاح المطرد عولت على أن أجتهد في إرضاء جمهوري، وأن أبادله تلك الثقة التي أولاني إياها. ففكرت في الاستعانة بمؤلف ثالث للاشتراك في بناء هيكل الروايات، وفي استنباط موضوعاتها وابتكار نكاتها، وقد وقع اختياري على الكاتب الأديب الأستاذ حسين شفيق المصري، فاتفقت وإياه توا.
ووضعنا إذ ذاك رواية (سنة 1918-1920) وقد نسيت أن أذكر أن ملحن أناشيد هذه الروايات الثلاث (حمار وحلاوة وعلى كيفك وسنة 1918-1920) كان المرحوم كاميل شامبير.
في هذا الوقت كان النوع الذي نخرجه قد طغى على كل ما عداه في مصر، حتى كاد الدرام والتراجيدي يندثران فلم تقم لهما قائمة، وأصبحت الفرقة المخصصة لهما «تنش طير».
فلما ساءت الحال أمامها وأعرض الناس عن تمثيلها، تقدم بعضهم إلى الأستاذ جورج أبيض ينصح له أن يحاربنا في نوعنا، وأن يختط لفرقته خطة جديدة، ما دام الناس يقبلون علينا هذا الإقبال العظيم.
وانقاد جورج لنصيحة أصدقائه. وكان في هذا الوقت قد عثر على الفتى الصغير حامد مرسي، فجاء به ينشد بعض القصائد القديمة بين فصول رواياته.
وكلف الأستاذ جورج المرحوم عبد الحليم دولار المصري أن يضع له رواية تماثل رواياتنا، فكان أن قدم له رواية «فيروز شاه»!
ولم تحدث هذه المنافسة الجديدة أي أثر من ناحية عملنا، بل ولم نحس نحن بأن هناك منافسا جديدا نزل السوق أمامنا! ولكن كانت هناك ظاهرة جديدة كان لها شأنها من وجهة نظري أنا، أقصها عليك فيما يلي!
لم يكن لدي الوقت بالطبع لأذهب إلى تياترو جورج أبيض كي أشاهد روايته، ولكن بعض ممثلي فرقتي كانوا ينتهزون فرص خلوهم من العمل فيذهبون لمشاهدتها، حتى إذا ما عادوا سمعتهم ينشدون أناشيدها البديعة، ويرددون ألحانها القوية، التي لمحت فيها اتجاها جديدا، وروحا جديدا ... بل فنا جديدا يسمو على كل ما عداه مما سبق أن قدمناه.
الشيخ سيد درويش
سألت عن الملحن؟ فقيل لي إنه شاب إسكندري لم يكن له سابق عهد بالتلحين المسرحي، وإن ألحانه هذه هي الأولى له في هذا المضمار. أما اسمه ... فسيد درويش. عجبت لذلك، وفكرت طويلا في اجتذابه، ولكنني - وقد عهدني القراء صريحا في كل ما خططت في هذه المذكرات - لا أرى ما يحول دون إبداء ما اعتراني في هذه اللحظة من أفكار.
أقول إنني وجدت نفسي بين عالمين متناقضين.
هل يحسن بي أن أتفق مع هذا الملحن؟ أم الأجدر أن أغضي عن ذلك؟ وإذا اتفقت، فماذا تكون النتيجة لو عمل معي شهرا أو شهرين حتى إذا ما تمكنت ألحانه من أفئدة جمهوري، و«خدوا عليها» تركني أعض بنان الندم، أو أملي علي شروطها قاسية، كتلك التي كانت سببا في انفصال زميلي السابق أمين صدقي!!
وهل الأولى أن أسير في خطتي مع الجمهور الذي رضي من ألحاني بما قسم أو أقفز بهذه الألحان إلى العلا ... دفعة واحدة؟!
وأخيرا تغلبت على محبتي للفن، فقررت الاتفاق مع سيد درويش مهما كان وراء ذلك من تضحية، إذ أنني وجدت من الإجرام حرمان الفن من شخص كسيد درويش.
كان المرحوم الشيخ سيد يتقاضى ثمانية عشر جنيها في الشهر من الأستاذ جورج أبيض، فرفعت هذه القيمة إلى أربعين دفعة واحدة، وتعاقدت مع الرجل، وكان مرتب الأستاذ بديع خيري قد وصل في هذا الحين إلى الخمسين.
أعددنا رواية أطلقنا عليها اسم «ولو»، ووضع بديع أول زجل منها وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من «السقايين» يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، ومطلع هذا الزجل هو «يعوض الله ... يهون الله، ع السقايين، دول غلبانين، متبهدلين م الكبانية، خواجاتها جونا، دول بيرازونا في صنعة أبونا، ما تعبرونا يا خلايق».
سلمنا الزجل للشيخ سيد درويش، وقد كانت ميزته رحمه الله أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، وأقصد بهذه الموافقة التعبير الصادق للمعنى العام، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.
تسلم الشيخ سيد لحن السقايين، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي!! حتى إذا كان اليوم الثالث قصد إليه أحد أصدقائنا فسهر معه الليل بطوله. وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق دون جدوى!!
وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام!! صادفهما أحد «السقايين» وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة - وسمعاه ينادي بأعلى صوته وبنغمته التقليدية الخاصة قائلا: «يعوض الله» فتنبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع صديقه وهتف كما هتف أرشميدس (الفيلسوف اليوناني) من قبل حين وفق إلى نظرية الثقل النوعي في أثناء استحمامه فخرج عاريا يجري في الشوارع ويصيح (أوريكا. أوريكا) أي وجدتها. وجدتها!!
نعم لقد هتف سيد درويش حين سمع نداء السقا فقال لصديقه: «خلاص خلاص يا فلان، لقيت اللحن اللي أنا عاوزه!».
وفي المساء حضر رحمه الله وأسمعني اللحن فكدت أطير به فرحا، وفي الوقت نفسه حضر الأستاذ بديع فأسمعني زجلا رائعا مطلعه: «نبين زين ونخط الودع وندق لكم ونطاهر ... ونحبل اللي ما تحبلش ونفك كمان اللي تشاهر».
وفي اليوم التالي كان الشيخ سيد قد وضع له اللحن المناسب، ثم لحن عقب ذلك زجل استقبال كشكش «ألفين حمد الله على سلامتك ... يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك» ... فكان اللحن كذلك بدعة.
وهكذا ظل بديع يتحفني بأزجال من النوع الممتاز فيلحنها سيد تلحينا شائقا، ومن ثم ظهرت رواية «ولو» للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب. ولست أجد وصفا وجيزا لنجاح «ولو» غير أن أقول إنها جاءت آية وكفى ....
وفي هذا الحين كانت شهرتي قد امتدت وصيتي قد بعد، وأرى ألا يقف التواضع في سبيلي إذ صرحت بأنني أصبحت موضع أحاديث الناس في كل مكان ... حتى لم يعد يتردد على ألسنتهم غير تلغراف الحرب العالمية، وروايات نجيب الريحاني. وهنا يحلو لي أن أعود إلى ذكرى حلوة، ذلك أن والدتي كانت إلى هذا الحين تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل وقد سبق أن رويت الكثير في هذا الشأن.
أسعد أيام حياتي
حدث إذ ذاك أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد في أثنائها اسمي، فأرهفت دون أن تشعرهم، وما أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي وامتداح عملي والإشادة بمجهودي!!
أتدري يا سيدي القارئ ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة المترو، واتجهت إلى أولئك المتحدثين وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتكلموا عنه ده يبقى ابني! أنا والدة نجيب الريحاني الممثل!»، وخلي بالك من الممثل دي! «الممثل» هذه الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، أضحت موضع زهوها وفخارها! فاللهم سبحانك ربي ما أعمق حكمتك؟!
وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجبسيانة، خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها، ويمتدحونه؟! فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد أيام حياتي.
ومما زاد في اغتباطي إلى جانب ذلك ما لمسته من رقي الطبقات التي كانت تقصد إلى مسرحنا، وفي مقدمتهم شباب الهاي لايف وفتياته، وأكرم الأسر في مصر، وأعلاها مكانة، وقد كان صاحب السمو الأمير إسماعيل داود في مقدمة الذين أعجبوا بي، فتفضل وأبرز هذا الإعجاب في إطار من التكريم لست أنساه، إذ كان يتفضل بدعوة الفرقة بجميع أفرادها إلى مسكنه العامر حيث تحيي حفلات خاصة ما كان أحلاها وأبهاها.
الفصل السادس
في خدمة الوطن
وإذا كنت إلى جانب ذلك أفخر بشيء آخر، فهو ما كنت أحظى به من تقدير الزعيم الخالد سعد زغلول، الذي كان يتفضل بتشريف حفلاتي، والتردد باستمرار على مسرحي لمشاهدة التمثيل، وإظهار الإعجاب بين وقت وآخر. وكل ذلك ملأني سرورا وفخرا كان لهما الفضل الأول في اجتهادي وموالاتي للعمل بنشاط ورغبة.
كان هذا منذ سنوات عديدة. فهل تدري ماذا كان في هذا العام (1936)؟ لقد تقدمت إحدى الجمعيات الخيرية إلى وزارة معارفنا الجليلة، ترجو السماح لها بدار الأوبرا الملكية لإحياء حفلتها السنوية، على أن تكون فرقة الريحاني هي التي تقوم بالتمثيل!!
فكان جواب الوزارة أن لا مانع من التصريح بالدار، على شرط ألا يسمح لفرقة الريحاني بالتمثيل على مسرحها!!
يالله!! الفرقة التي كانت منذ سنوات عديدة موضع تقدير الأمراء والزعماء والعظماء والكبراء!! تصبح اليوم غير أهل للظهور على مسرح الأوبرا - كما ظهر غيرها من فرق خلق الله؟!
ألا سامحك الله يا وزارة المعارف. وسامح رجالك العاملين.
في إحدى الليالي طرقت بابي فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن تبدو عليها مظاهر الأرستقراطية، ومعالم «الأبهة» والفخفخة!! نظرت إلي من فوق لتحت!! وقالت: «أنت اللي بيسموك كشكش؟» فأجبت: «أيوه يا ستي أنا كشكش» فضحكت ضحكة فيها غير قليل من الاستخفاف وقالت: «النبي حارسك، أمال فين دقنك يا دلعدي؟».
نهايته أقول بأنني رغم هذا «استظرفت» الفتاة، وأعجبت بخفة روحها، ولطف حديثها، فسألتها عن اسمها وأجابت بأنها زينب صدقي!! طيب وعاوزة إيه يا ست زينب يا صدقي؟ عاوزة أشتغل ممثلة يا كشكش يا بيه!!
أهلا وسهلا م العين دي والعين دي. أصبحت زينب صدقي من هذه الليلة ممثلة بالفرقة. ولعل زينب لا يضيرها أن أصارح الجمهور بأنها لم تكن يوم أن قصدت إلى المسرح ميالة إلى التمثيل كل الميل، ولم تكن هوايتها للفن هي التي دفعت بها إلينا، وربما كان القصد قتل الوقت والتسلية، لأنها كانت في أخلاقها وحديثها أقرب إلى الطفولة منها إلى أي شيء آخر، ومع ذلك فقد أحبها كل من يظلهم سقف المسرح من ممثلين وممثلات، مصريين وأجنبيات، وهوت إليها أفئدتهم جميعا. وفي المقدمة (لوسي فرناي) الفتاة الفرنسية التي ذكرتها آنفا والتي عرف القراء أنها كانت شريكة لحياتي في تلك الآونة!! نعم أضحت لوسي وزينب صديقتين لا تفترقان.
المسرح والوطنية
قلت إن إقبال الطبقات الراقية على الأجبسيانة كان بالغا أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام. وأذكر على سبيل التخصيص ذلك الرجل الذي أكن له إلى اليوم احتراما وتقديرا كبيرين، إلا وهو الأستاذ عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة (سابقا)، وصاحب المواقف المشهورة في الدفاع عن لغة البلاد بين جدران تلك المحكمة.
كان عبد السلام في ذلك الحين محاميا ببني سويف، وكان «زبونا» مستديما للأجبسيانة. وفي اليوم الذي يشعر أن مرافعته في إحدى القضايا قد تجبره على البقاء هناك إلى القطار الأخير. أقول إنه كان في هذه الحالة يحجز مقعده في التياترو بالتلغراف، ثم ينزل من القطار إلى التياترو مباشرة!!
وحين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع. فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد.
وكان من آثار هذا الإقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان ينازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية (إذ لم يكن للصحف الأسبوعية وجود في ذلك الحين). ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرا أو نهرين يتغنى كاتبهما بلعنة خاش كشكش وروايات كشكش واللي خلفوا كشكش كمان!!
ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد على أي كاتب. وتحضرني في هذا المجال عبارة قالها أحد النقاد وهو الأديب المعروف الأستاذ حامد الصعيدي (الموظف الآن بالبرلمان): ذلك أنه قال يوما لبعض صحبه: «إيه اللي رايحين نعمله في راجل نفضل نشتم فيه في الجرايد، يقوم حضرته يرد علينا بكلمة: «ولو»، وهو اسم الرواية التي كنت أمثلها إذ ذاك!!
على أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الإقبال أي تأثير - ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت على حضور حفلاتنا تهافتا لا مثيل له.
وفي ذلك الحين ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، كالمرحوم علي كامل فهمي وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة. وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علي شخصيا أثناء التمثيل ... ولكن الله سلم. وفي ليلة أخرى أطلق مأفون علي حصا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلا!!
فكرت كثيرا في هذه الحوادث فرأيت ألا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه (يوسف شهدي)، فجئت به، وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ نظام الصالة!! ولقد أفلحت خطتي هذه، فوقفت المشاغبات نهائيا. وسار الحال من تلك اللحظة على ما يرام!!
إش ...!
كانت رواية «ولو» قد استغرقت في عرضها على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، لم ينقص الإيراد اليومي فيها عن الثمانين جنيها.
وكثيرا ما كان يزيد على ذلك، مما شجعنا على العناية بالرواية التالية، وقد اخترنا لها اسم «إش»، وهي أيضا من تلحين فقيد الموسيقا المرحوم الشيخ سيد درويش، كما أن واضع تلك الأزجال هو الزميل بديع خيري، الذي أضحى من ذلك الحين إلى اليوم وإلى غد وإلى أن نلقى الله، خلا وفيا وأخا عزيزا نتبادل الثقة ونتعاون في السراء وفي الضراء.
نالت رواية «إش» استحسانا مدهشا. وجاءت ألحانها بدعة من ناحيتي التأليف والتلحين. ويكفي أن أنبه الأذهان إلى اللحن الذي امتدت شهرته فتخللت الدور والقصور، وأنشده الكبير والصغير في عاصمة القطر وفي ريفه. ألا وهو «يا أبو الكشاكش كان جرى لك إيه يا هلترى. دقنك شابت في المسخرة وأمور الفنجرة».
وفي هذه الآونة كان الزعيم الراحل سعد «طيب الله ثراه» يؤلف الوفد المصري للقيام إلى مؤتمر الصلح في فرساي كي يدافع عن حق مصر في الاستقلال، ويعمل على استخلاص حقها ورفع الحماية الجائرة عن كاهلها. وكان رحمه الله ينادي بضرورة الاتحاد وجمع شمل الأمة تحت لواء واحد والتفاف عناصرها في كتلة واحدة مهما اختلفت النحل وتباينت الأديان والملل. ولقد انتهزت هذه الفرصة فضربت على تلك الوتيرة وضمنت رواية «إش» لحنا تلقيه طائفة من سياس الخيل، جاء في ختامه هذا المقطع: «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم يا شيخ اتعلم. اللي أوطانهم تجمعهم. عمر الأديان ما تفرقهم».
وهكذا ظلت فرقتنا تؤدي واجبها الوطني على قدر ما تسمح به جهودنا المتواضعة. ولم أشأ أن أقف عند هذا الحد بل ساهمت في التبرع المادي، فدفعت لخزينة الوفد مبلغا شكرني من أجله المرحوم فتح الله بركات، وأولاني من عبارات التقدير ما لا أنساه.
فتحية وعبد الوهاب
وفي ذلك الحين - يعني في عز النغنغة والنجاح - كانت مطربة القطرين السيدة فتحية أحمد ضمن أعضاء الفرقة، وكانت إذ ذاك طفلة صغيرة تنال من إعجاب الجمهور واستحسانه قدرا وافرا، لأنها فضلا عن كونها مطربة جلية الصوت، ساحرة الغناء، كانت خفيفة الظل رشيقة الحركة دائمة الابتسام على المسرح.
وكثيرا ما كنا نعد لها قطعا تلحينية في صلب الرواية كانت تقوم بها على خير الوجوه، وفي إحدى الليالي زارني أحد الأصدقاء ومعه فتى صغير السن، لطيف المظهر، تبدو في عينيه دلائل النبوغ الذي لا يزال المستقبل يحجبه إلا على الخبير المتمكن وقد طلب مني الصديق أن الحق هذا الفتى بفرقتي، قائلا إن لديه موهبة قل أن توجد فيمن هم في سنه، وهي أنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة، وصوت ساحر خلاب، وذاكرته فنية قوية.
لم أشك لحظة في أن الفتى يتمتع بهذه الأوصاف جميعا، فهل تدري من هو الفتى الصغير الذي نعنيه؟
هو الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولولا أن المجال لم يكن يسمح بضمه إلى الفرقة لانتظم في سلكها إذ ذاك.
فلوس في كل مكان
كان المال ينهال على خزينة تياترو الأجبسيانة كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح، ارتفعت معها عقائر الخصوم والحساد، وامتلأت أعمدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميع النواحي. والظريف في الموضوع أن صاحب شخصية كشكش كان مجهولا من الناس طرا، فلم يكن يعرف شكله أحد، ولم يكن إنسان يدري أهو أبيض أم أسمر؟ فتى أم شيخ؟ مطربش أم معمم، ذلك لأنني كنت أظهر على المسرح بالجبة والقفطان وباللحية الطويلة الوقور، ولم أكن أكثر الظهور في الشوارع والطرقات، كذلك لم تكن الصحف الأسبوعية قد انتشرت، بل ولم تكن قد ظهرت وامتلأت صفحاتها بالصور كما هو الحال الآن، تلك الصور التي أوقفت القراء في أنحاء مصر وغيرها على «أشكال» الممثلين والممثلات، وقربتهم إلى الأذهان، بحيث أصبح من السهل الآن على كل امرئ أن يتعرف على أقل مخلوق أو مخلوقة من ممثلي المسرح وممثلاته.
ويحلو لي الآن في هذا الصدد أن أقول، بأن وفرة المال بين يدي كانت تنسيني في كثير من الأحوال المواضع التي كنت أحفظ فيها النقود، من ذلك أنني وضعت يوما في «القمطر»، وأرجو أن يسامحني القراء في استعمال هذا اللفظ، لأنني لم أسمع به إلا من صديق لي قال إن المجمع اللغوي وضعه بدل كلمة «الدولاب»، فأردت أن أنتهز الفرصة وأتفلسف على قرائي المحبوبين، أمال يعني حاتفلسف على مين غيرهم؟ ع المتفرجين؟ ... نهايته.
وضعت يوما في «قمطر» التواليت (لم يخبرني صديقي على الاسم الذي انتخبه المجمع بدل كلمة التواليت) وضعت فيه مبلغ ثلثمائة جنيه مصري، ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك، ولم أعره أهمية، لأن الخير كثير، وستر المولى كان متوافرا للغاية. وبعد عشرين يوما من هذا الحادث تصادف أن كانت «لوسي» تنظف أدراج القمطر - يا سلام أنا داخله في مزاجي كلمة القمطر دي بشكل؟! - فعثرت على 300 جنيه، سلمتها لي بعد أن فركت أذني بأصابعها الجميلة وهي تقول : «خلي بالك من فلوسك يا نجيب أحسن ييجي يوم تحتاج لها» ....
كانت نصيحة ثمينة من «لوسي» ولكنني لم أعمل بها. وكم أتمنى من صميم الفؤاد أن تعود تلك الأيام بأموالها المغدقة أو المغرقة ... كي أعمل بنصيحة لوسي - والله العظيم - ولا أفرطش في القرش الأبيض علشان ينفع في اليوم الأسود!!
وفي يوم آخر كنا «بنعزل» - اعذروني إذ لم أجد كلمة لغوية تفيد معنى النقل من بيت لبيت غير دي - وفيما نحن نرفع بساط غرفة النوم وجدنا تحته ثمانين جنيها!!
أما قفاطين كشكش فلم تكن تخلو يوما من كبشة نقدية «مبعزقة» في جيوبها هنا وهنا!! فكانت لوسي - الله يمسيها بالخير - تتولى جمعها في كل مساء وتسلمها لي مقرونة بالنصيحة إياها!!
لعل واحدا يسأل: «ما علة هذا النسيان؟» وردا عليه أقول إنني كنت دائم التفكير في عملي، وفيما يجب أن تكون عليه الرواية الجديدة، وما هي العيوب الاجتماعية المتفشية في البلاد كي نعالجها فيما نقدمه للجمهور بين ثنايا ألحان الرواية وموضوعها؟ وقد كانت نتيجة هذا التفكير المتوالي السرحان ... المتوالي برضه!!
قلت إنني كنت أدير الفرقة لحسابي الخاص نظير حصة مقدارها 30٪ من الإيراد يتقاضاها المسيو ديمو كنجس صاحب التياترو. وقلت إن التياترو لم يكن مسقوفا، بل مغطى بالقماش وكانت الأرضية ترابا في تراب، ومع ذلك لم يكن الكبراء يأنفون ارتياده، أو ينقطعون عن زيارته، أحصى المسيو ديمو كنجس نصيبه في العام الأول فإذا به ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه مصري!! وهذا المبلغ هو ثلاثون في المائة فقط من الإيراد! فكم يكون نصيبي أنا ... يا صاحب السبعين في المائة الباقية!! س - وسين تساوي ... حوالي عشرين ألف جنيه تقريبا!! فأخ ... أخ من زمان وفلوس زمان!
الأوبرا كوميك والأوبريت حمار وحلاوة
ومن أظرف ما كان يتردد على ألسنة الناس في عهد «النغنغة» أن نجيب الريحاني اشترى عزبة، وأطلق عليها اسم «حمار وحلاوة»، فإذا سأل سائل: «وأين مقر هذه العزبة؟«أجاب بعضهم: إنها في الشرقية، وفي مركز فاقوس كمان!! وربما تطور به الخيال فقال: «وفي زمام بلد اسمها منزل نعيم على حدود نجع عودة، وعمدتها بالأمارة اسمه الحاج عبد الوهاب».
وبعد هذا التعيين المدهش، كدت أنا نفسي أصدق أنني أمتلك عزبة بحق وحقيق ... مين عارف يمكن صحيح؟؟ ولذلك انتهزت فرصة وجود صديق لي من أعيان تلك الناحية، فسألته فيما بيننا: هل صحيح يا خوي عندكم عزبة ملكي اسمها حمار وحلاوة؟ وللأسف نفى لي صديقي هذا «الحلم» اللطيف، مؤكدا أنها مجرد إشاعة عارية من الصحة مختلقة من أساسها! ولو كان قلم المطبوعات يهتم في ذلك الحين بإصدار بلاغات التكذيب، لتوسلت إليه أن يفعل، بعد أن استفحلت تلك التهمة، ووجدت بين عباد الله خلقا كثيرا يؤمنون بها! حتى خشيت أن تنمو عائلتي، ويظهر لي مئات من الأقارب الذين لا أعرفهم، والذين ربما تكون رابطة القرابة الوحيدة بيني وبينهم هي ... حمار وحلاوة ليس إلا!!
على أن الظريف أن بعضهم كان يقول في بعض الأحيان، إن العزبة ليست في الشرقية، بل في المنوفية، وفي يوم ثالث تكون في الدقهلية، وهكذا ظلت «حمار وحلاوة» تتناولها حركة التنقلات - كما تتناول السادة الموظفين - إلى أن تبخرت يا حسرة ... ولم يبق لها وجود في غير أدمغة مخترعيها.
على أنني كنت أستطيع بلا شك لو عمدت إلى الاقتصاد المعقول - وبلاش التقتير - أن أملك عزبا بعدد رواياتي، وأن يكون في حوزتي بدل حمار وحلاوة بس - ولو، وإش، وعلى كيفك ... وأخيرا «24 قيراط» التي لم يحن وقت الكلام عنها بعد.
وقد دار حوار بيني وبين المستر هورنيلو (مدير الأمن العام إذ ذاك). وكانت التقارير والمعلومات التي جمعها له مخبروه حملته على أن يأمر بمصادرة الرواية التي كنا نستعد لإخراجها واسمها (قولوا له). ولكن لم تمض على هذه المصادرة أيام حتى قامت الثورة في مصر قاصيها ودانيها، واشتركت الطوائف والطبقات جميعها في مظاهرات وطنية حارة، فخرجت مع أعضاء فرقتي (ممثلين وممثلات) ننشد على أنغام أوركستر الفرقة نشيد الكشافة.
الريحاني «دسيسة إنجليزية»!
قلت إن شعوري هو الذي كان يدفعني إلى العمل بنشاط وهمة. ولم أكن بطبيعة الحال أرغب من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. ولكن الخصوم والحساد والناقمين، جزاهم الله عن المروءة والشهامة كل خير!
في الساعة الحادية عشرة من مساء إحدى الليالي جاءني الأستاذ مصطفى أمين (وقد كان قبل ذلك شريكا للأستاذ علي الكسار في فرقة كازينو دي باري) جاءني مصطفى إلى منزلي يلهث من التعب ويقول: «انج بنفسك يا نجيب فإنك الليلة مقتول لا محالة»!
كيف؟ وبيد من؟ ومن الذي يفكر في إعدامي؟ قال: «هم مواطنوك المصريون! هذا فظيع ... فظيع!».
وراح الزميل مصطفى يقص ما حدث، قال: «إنني آت من الأزهر الشريف حيث عقد اجتماع حافل تبودلت فيه الخطب الحماسية، وقد وقف شخص من خصومك على المنبر، وبدون أن يدعوه أحد للكلام سمم أذهان المستمعين بأكاذيبه مدعيا أنك (دسيسة إنجليزية)، وأن السلطة العسكرية قد أمدتك بالمال لتلهي الشعب برواياتك عن المطالبة بأمانيه العالية! ولما كانت الجماهير في أوقات الثورات تنساق بلا روية، فقد هتف الناس ضدك وصمموا على قتلك!».
يا للصدمة! ينتقل الواقع من اليمين إلى الشمال في طرفة عين، وينقلب الحق سريعا إلى بهتان ومين؟!
القصد، ثارت زميلتي «لوسي فرناي»، وخشيت علي سوءا فصممت على أن نسرع بهجر المنزل توا قبل أن تحل النكبة.
وكانت ليلة لن أنساها!
أخذنا عربة. وكنت في تلك الساعة أحس أن قلب العزيزة لوسي يكاد يقفز من بين جنبيها، وكان يخيل إلي أنني أسمع دقاته وهو يعلو ويهبط، إذ وقفت على سلم العربة لتحول بيني وبين أنظار المارة، وتستحث الحوذي أن يلهب ظهور خيله كي يبتعد بنا عن منزلنا قبل أن تغشانا الغاشية. نعم لم تشأ لوسي أن تجلس بجواري طول الطريق فظلت على هذه الوقفة حتى وصلنا إلى فندق «هليوبوليس هاوس» أمام المكان الذي تقع فيه الآن لوكاندة هليوبوليس بالاس بمصر الجديدة، ولم تكن هذه قد شيدت بعد.
وهناك في إحدى غرف «هليوبوليس هاوس»، نزلت مع لوسي وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا.
بقيت في هذا الفندق عدة أيام لم تلهني فيها المخاوف عن واجبي الوطني، فقد كنت آتي إلى المسرح في كل صباح ، فأجتمع بالممثلين والممثلات وغيرهم، لنرتب أمورنا ولننظر في شئوننا. ولم تكن هذه الشئون غير مظاهرات نقوم بها هنا وهناك (لأن جميع المسارح كانت معطلة بأمر السلطة).
وجاء الاستقرار
ومضت على ذلك الحال أيام استقرت فيها أمور العامة، وسمحت السلطات لسعد زغلول «رحمه الله» بمغادرة منفاه في مالطة إلى «فرساي»، حيث عقد مؤتمر السلام كما كانوا يدعونه، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن تفتح المسارح ودور اللهو، وأن تعود إلى ما عهده الجمهور فيها من تسلية، وأن تكون هذه العودة بشروط فيها شيء من الشدة، كتحديد مواعيد السهر، وكدقة المراقبة التي فرضتها الداخلية عليها، ونقول الداخلية ونحن على يقين من أنها كانت «مظلومة»، لأنها لم تكن إلا «مخلب القط» في أيدي السلطة الأجنبية!
ما علينا فلندع شأن السياسة، ولنبق في محيطنا الذي نحن بصدده. جاهدنا بعد أن عادت البلاد إلى ما يقرب من الحالة الطبيعية في أن يسمح لنا بتمثيل روايتنا المصادرة «قولوا له»، وقد سرني أن أصل إلى مبتغاي بعد أن كدت أيأس من الوصول إليه.
وجاءت الليلة الأولى لظهور الرواية ... فكيف أصفها؟ وأين لي قدرة الكاتب النحرير لأستطيع الدقة في التعبير؟
كانت هذه الليلة عيدا شاملا لكل من احتوته دار التمثيل، سواء في ذلك الممثلون أو المتفرجون. أما تأثير الرواية فتصور قنبلة تنفجر في مكان آهل، ثم تصور ما يكون لها من دوي يهز الجماد ويحرك الصخور!
ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التي اشتركت فيها جميع الطبقات، وقد راعينا أن ندخل في صلب الرواية ألحانا وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه المظاهرات، بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، حين يتقمصون شخصيات أفراد تلك الطوائف على المسرح، واحدة بعد أخرى.
وناهيك بأزجال يضعها بديع ويلحنها سيد درويش!
وإذا كان للنسيان أن يجر أذياله على الذكريات جميعا، فإني على يقين من أنه لن يمحو من مخيلتي، ذلك المظهر الفاتن الذي بدا من الجمهور في اللحظة التي تحرك فيها الستار مرتفعا عن الفصل الأول في هذه الرواية في كل مساء!
هتاف يرتفع إلى عنان السماء، وتصفيق يكاد يصم الآذان، أما حين أظهر على المسرح بعد ذلك، فلك أنت يا سيدي القارئ أن تقدر ما كنت أقابل به من الجمهور!
دعني أقرب لك الواقع فأقسم أن الدموع كانت تغالب الموقف في عيني، وكان قلبي يطفر اعترافا بالجميل لأبناء الوطن، الذين تهافتوا على أخ لهم يشعر أنه لم يؤد من الواجب عليه إلا قليلا. ومع ذلك فقد ارتفع في نظرهم قدره وسما بينهم ذكره، حتى كدت والله أعذر حسادي فيما فعلوا من محاربتي، لأن هذه المظاهرة الكاملة - بل وأقل منها - كان يكفي لكمدهم ولإشعال نار الحقد بين ضلوعهم.
وبعد أن انتهت الأيام التي قدرناها لرواية (قولوا له)، كنا قد أعددنا الرواية التالية واخترنا لها اسم (رن) ... وقد جاءت كسابقتها شعلة من الوطنية متأججة، ولهبا من الحماس تشتعل ناره ويلتهب أواره، وقد ظهر فيها مع (كشكش بك) تابعه وأمينه (زعرب)، ونجحت بالفعل رواية (رن) كما نجحت سابقاتها.
ماذا أديت للفن؟
على أنه يحلو لي في هذا الوقت أن أعترف بحقائق لم أكن أطالع بها إذ ذاك غير المخلصين من المحبين. فإنني كنت كلما خلوت بنفسي وحاسبتها على ما أديت للفن من خدمات تستحق أن توصلني إلى ذروة الشهرة التي اعتليتها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مداه، أقول إنني كنت أحاسب نفسي، فأجد أعمالي كلها من الناحية الفنية - صفرا على الشمال! وليس لها من قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير، وهذا وحده ليس كافيا لأن يكون مطية ذلولا تطفر بي في ميدان الشهرة هذه الطفرات المتواليات، ولذلك أردت أن أشبع حاستي الفنية، وأن أستبدل بهذا النوع الحالي من الفن نوعا جديدا أرضي به ضميري وجمهوري في آن واحد!
ولكنني بعد أن أعملت الفكر كثيرا، خفت أن يرى الناس نوعا لم يألفوه من قبل. وبذلك يهجرونني فأكون كالغراب حين فتنه مشي العصفور فعمد إلى تقليده، ولما أعيته الحيل فضل العودة إلى مشيته الأصيلة ولكنه كان قد نسيها، فظل على الحال التي نراه بها من القفز الثقيل الظل.
فماذا أفعل للتوفيق بين النظرتين؟
العشرة الطيبة
نظرت حولي فألفيت الأستاذ عزيز عيد خاليا من العمل بعد أن فشل مشروعه في كازينو دي باري، ذلك المشروع الذي افتتحه برواية «حنجل بوبو».
وكان حوله طائفة من الزملاء أعيتهم البطالة: فاستدعيت عزيزا وأشرت عليه بتأليف فرقة تجمع بعض البارزين من الممثلين. ثم صممت على أن أتخذ لها مسرحا مستقلا، فاستأجرت كازينو دي باري بالذات، وكانت قيمة الإيجار ألفي جنيه في العام.
وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبني اسمها «اللحية الزرقاء»، فاتفقت مع الكاتب المرحوم محمد تيمور بك على أن يقتبسها ويمصرها. ثم عهدت إلى الأستاذ بديع خيري في وضع أزجالها، وإلى المرحوم الشيخ سيد درويش أن يلحن هذه الأزجال. فأثمرت جهود أولئك الفطاحل عن الدرة التي أطلقنا عليها اسم «العشرة الطيبة».
وتألفت الفرقة من الأستاذ عزيز والسيدة روز اليوسف والأساتذة محمود رضا ومنسي فهمي ومختار عثمان واستيفان روستي والمطرب زكي مراد والمطربة برلنته حلمي والسيدة نظلي مزراحي وغيرهم، وقد مكثوا يؤدون بروفات هذه الرواية مدة أربعة أشهر كاملة كنت أدفع فيها مرتباتهم.
أخرج عزيز الرواية. ويهمني هنا أن أقول بأنني اعتنيت بها عناية فائقة، فلم أغلل يدي عن الصرف، ولم أحجم عن بذل كل ما تطلبه إظهارها في المظهر اللائق من مال قل أو كثر أما المناظر فقد عهدت في رسمها إلى الأستاذين أحمد لطفي (الموظف الآن بمصلحة المساحة)، وعلي حسن الذي تخصص في إيطاليا لهذا العمل، ثم قصدت إلى خان الخليلي فحصلت على مجموعة شائقة من التحف القديمة والملابس الأثرية ذات القيمة، وكان من بينها ما ارتداه أو استعمله بعض مشاهير القواد والفاتحين من العصور السابقة.
وفي اليوم المحدد لظهور الرواية، كان مجموع ما صرف في سبيل إعدادها إلى اللحظة التي يرفع فيها الستار عن أول مشاهدها مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري. وكانت رواية «العشرة الطيبة» هذه أول عهد الأوبرا كوميك والأوبريت في مصر! كان موضوع الرواية يتضمن تبيان شيء من استبداد الشراكسة، وكانت تركيا قد خرجت إذ ذاك من الحرب العالمية مقهورة، وكانت الأفكار في مصر تعطف عليها وتحن إليها، كما كانت حاقدة على الإنجليز لوقوفهم في سبيل نهضة مصر أولا، ولأنهم كانوا أقوى عامل في هزيمة تركيا ثانيا.
دسيسة أخرى
ولذلك استغل خصومي الموقف، وراحوا يعيدون فريتهم السابقة من أنني دسيسة إنجليزية، وأن القصد من عرضي لرواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ الأتراك في عين المصريين، وتقريب الإنجليز لقلوبهم. وهذا مع أن الرواية ليس فيها أقل رائحة يشتم منها أي عطف على الإنجليز، أو أي إساءة للترك. ولكن ماذا أفعل مع من لا يتورعون؟
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ولم تكن تمر ليلة إلا ويقف في إحدى مقاصير كازينو دي باري في أثناء التمثيل، أو في فترة الاستراحة، خطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويهتف بسقوط الريحاني (داعية الإنجليز وربيب نعمتهم). كل ذلك وهم يعرفون تماما أن الريحاني كان هدفا لنقمة الإنجليز وسلطتهم العسكرية في مصر، وكثيرا ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمتنورين، فيردون على سفاسف أولئك الخطباء ويسفهون آراءهم.
انتصار
ولكنني مع ذلك أعترف بأن دعاة السوء قد استطاعوا التأثير في بعض السذج بهذه الدعاية.
فلما رأيت هذه النتيجة طلبت إلى الصديقين المرحوم محمد تيمور بك والأستاذ بديع خيري، أن يقصدا إلى أحد البارزين من أعضاء الوفد المصري الذين يعتقد الشعب بآرائهم، ويطلبا إليه أن يتفضل بمشاهدة تمثيل الرواية، ثم يحكم بعد ذلك من الناحية الوطنية لها أو عليها. فكان أن وقع اختيارهما على المرحوم مرقص حنا، وكان إذ ذاك وكيلا للجنة الوفد المركزية. فذهبا إليه، وفي المساء نفسه حضر رحمه الله في رفقة السيدة قرينته والآنسة كريمته السيدة عايدة هانم (قرينة الأستاذ مكرم عبيد).
وفي اليوم التالي تفضل المرحوم مرقص حنا فنشر في الصحف رأيه الصريح، مقرظا الرواية نافيها عنها كل ما يذيعه المغرضون لحاجة في نفس يعقوب. فكان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة، معولا دك حصون خصومي ودورهم على أعقابهم خاسرين. ومع ذلك فإن فرارهم من الميدان العام لم يكن ليحول بينهم وبين بث دعايتهم، كل وما يقدر عليه. ولعله من الظريف أن أروي في هذه المناسبة ما وقع بين واحد منهم وبيني شخصيا!
مقارنة مضحكة
كان ذلك في سنة 1920، حين وفد إلى مصر الممثل الفرنسي الكبير (جان كوكلان). وكانت الصداقة قد ربطت بيني وبينه موثقا، فدعاني إلى مشاهدة إحدى رواياته في حفلة (ماتينيه) بتياترو برنتانيا القديم. ولبيت الدعوة، وكان إعجابي بالرواية شديدا بحيث كنت من أكثر المتفرجين تصفيقا. وهنا التفت إلي الشخص الجالس في المقعد المجاور لي ولم يكن بالطبع يعرف من أنا، وقال ما نصه: «أيوه كده ... أهو دا التمثيل الصحيح مش الراجل كشكش اللي بيضحك على عقلنا بكلامه الكارع».
وتمشيت معه في الحديث، فوصفت كشكش بأنه دجال لا أقل ولا أكثر. «وتبحبح» الرجل معي بحبحة «فضفض» فيها بكل ما يأكل قلبه من حقد. وأنا أنصت إليه بكل انتباه. ويظهر أن الشك داخل الرجل أخيرا، فسألني عن شخصيتي، وتطمينا له أجبته بأنني وإن أكن «شقيق» نجيب الريحاني، إلا أنني لا أقر خطته في المسرح، ولا أوافق مطلقا على النوع الذي يعرضه أخي الدجال!
تدهور مادي ومعنوي
والآن نترك السادة الخصوم، وندع تأثيرهم في أذهان الجمهور، وننظر إلى هذا الأثر في نفسي. فأقول بكل صراحة إن شيئا من اليأس قد داخلني، وزاد منه أن توالت علي صدمات مالية قاسية. فقد اشتريت قبل ذلك قدرا هائلا من الفرنكات والليرات والأسهم والماركات، فهبطت أسعارها جميعا. وكان التدهور المادي شنيعا فأحسست بعده فعلا بهبوط حالتي المعنوية، حتى لم أكن أتمالك نفسي على خشبة المسرح ... ودب في عملي نوع من الإهمال الذي انقلب إلى فوضى تفشت في ثنايا المسرح، وكادت تقلبه رأسا على عقب.
وكانت ثالثة الأثافي أن تغير شعور كل من المرحومين عزيز عيد والشيخ سيد درويش نحوي، وسمعت من بعض المتصلين بهما أنهما ينويان رفع راية العصيان، ويتحدثان بأن الإيراد الذين يدخل جيبي من فرقة الكازينو - ولست ممثلا فيها - يجب أن يكون من حقهما وحدهما.
وحين وصل إلى سمعي هذا الخبر، قصدت إليهما وصارحتهما بأنني رجل لا أحب العمل إلا في وضح النهار. ثم سردت عليهما ما وقفت عليه من شأنهما، وأتبعته بأنني على تمام الاستعداد لنفض يدي من المشروع وتركه لهما بخيره وشره، فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا، وأن يكفياني مئونة النظر في أمرها. وكان ذلك الإجراء الحاسم فصل الخطاب بيني وبينهما، وتضافر الاثنان في إخراج رواية (شهر زاد).
ثلاث شقيقات
فاتني أن أذكر حادثا له أهميته، في مذكرات كهذه، يقصد بها وجه التاريخ الصحيح، الذي آليت على نفسي فيه منذ البداية أن أكون صريحا في سرد الحقائق، وإن آذت مرارتها شخصي في بعض الأحايين.
في سنة 1920 تقدمت إلى ثلاث فتيات منهن طفلة يبلغ سنها حوالي الأحد عشر أو الاثني عشر عاما، وطلبن الالتحاق بالفرقة!
فلم أتأخر عن إجابة هذا الطلب، وأضحت الفتيات (رتيبة وإنصاف وفاطمة رشدي) من أفراد فرقتي، وأريد إلى جانب ذلك أن أقول بأنني لاحظت في الصغرى ذكاء وقادا، وهواية شديدة للتمثيل، ورغبة أكيدة في العمل للتقدم على خشبة المسرح، بعكس شقيقتيها اللتين شعرت أن ميلهما كان متجها إلى إلقاء المقطوعات التلحينية. هذا ما رأيت إثباته قبل العودة إلى المدى الذي تركت القارئ عنده.
وهناك شيء آخر تدفعني الصراحة كذلك إلى إبدائه، وهو أنه في أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بين الصديقة (لوسي دي فرناي) وبيني، فافترقنا إلى غير عودة. ويقيني أن هذا الفراق كان أول النكبات التي صبها القدر فوق رأسي وساقها إلي حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض.
ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا، حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر.
الفصل السابع
كشكش تقليد
أنا كشكش تقليد!
وقد اشتركت مع الحاج مصطفى حفني، وقمت بالفرقة إلى سوريا ولبنان في أولى رحلاتنا الفنية. وقد رميت بهذه الرحلة أولا وقبل كل شيء، إلى الترويح عن نفسي بعدما لحق بي من أسى، وتجديد نشاطي الذي تضاءل، والتخلص مما حل بي من فتور وسقم.
ونزلنا في بيروت وكلنا آمال بالنجاح الذي ينتظرنا فيها.
ولكن بكل أسف ضاعت الآمال من الليلة الأولى، وبلينا بالكثير من الإخفاق الذي لم نكن نتصوره.
أما علة ذلك فهي أن الأستاذ أمين عطا الله (وقد كان ممثلا بفرقتي قبل ذلك بسنوات)، استطاع إذ ذاك أن ينسخ جميع رواياتي فألف فرقة من مواطنيه في سوريا، وعرض بضاعتنا كلها، ولم ينس أن يغتصب كذلك اسم (كشكش بك).
وأحب أن أنصفه فأقول إنه لم يأخذ الاسم على علاته، بل تصرف فيه من حيث الشكل فضم «الكافين» في بيروت وفتحهما في دمشق، في حين أنهما مكسورتان في مصر!
هذا هو كل التصرف الذي أدخله أمين عطا الله على عمدة كفر البلاص!
المهم أن الناس هناك اعتبروني مقلدا لكشكش بك الأصلي، الذي هو أمين عطا الله، وزاد الطين بلة أن هذا الكشكش بك كان سوريا، وقد مكنه ذلك من معرفة عادات مواطنيه، والوقوف على ما يرضيهم وما لا يرضيهم، فكان يؤدي لهم ما يرغبون كما يرغبون.
وهذه الرغبة أن القوم هناك يميلون إلى الكوميدي المفتعل، بمعنى أن الممثل يجب أن «يتمرمغ» في الأرض، أو يخبط دماغه في الحيط، أو ... أو إلخ، وقد تعمق معهم أمين في هذا النوع، أما نحن فقد حافظنا على روح رواياتنا، وعرضناها مقتطعة من عادات الحياة المصرية، فإنها كانت بعيدة عن عادات إخواننا السوريين، ولذا أصبحت أنا كشكش «التقليد» في حين أضحى أمين عطا الله في نظرهم كشكش «الأصلي». وقد كنت أسمع بأذني بعض الناس هناك يقولون: «هايدا مانه كشكش، هايدا تقليد!» فكنت آخذ هذا الوصف في «أجنابي» فأقول في سري ... سبحان مغير الكشاكش!
المهم لم تنجح الرحلة من الوجهة الفنية ولا من الناحية المادية، فقد كانت النتيجة أن الإيرادات والمصروفات كانا متوازيين، أي أن الميزانية كانت متوازنة فلم نخسر ولم نكسب هذا من الناحية العامة. أما من وجهة نظري الشخصية فقد كان هناك شيئا متناقضان، يدخل أحدهما في باب الخسارة والثاني في كفة الربح، فالخسارة كان مبعثها أن التسلية والترويح اللذين قصدت إليهما من الرحلة أتيا بنتيجة عكسية وزادا من همومي، وأما من ناحية الربح فلها قصة!
بديعة مصابني
في أول حفلاتنا هناك لفت نظري في المقصورة الأولى سيدة «بتلعلع» وقد ارتدت أفخم ملبس وتحلت بأبهى زينة.
لم أعرفها حقا، ولكنني تنبهت لوجودها وفي فترة الاستراحة بين الفصول، أدهشني أن وجدت هذه السيدة بذاتها تحضر لتحيتي وتهنئتي في حجرتي بالمسرح. ويظهر أنها لاحظت ما أنا فيه من ارتباك، فدفعها ذكاؤها إلى أن تعرفني بنفسها فقالت: «إلا أنت مش فاكرني والا إيه؟ أنا بديعة مصابني اللي قابلتك في مصر وكتبت وياك كنتراتو ولا اشتغلتش!».
وبعد أداء ما قضى به الواجب من أهلا وسهلا، وإزاي الصحة وسلامات، عرفت منها أن الدافع لها على هجر مصر، بعد أن اتفقت على العمل في فرقتي، هي أنها استرجعت للشام على عجل لأمور قضائية تتصل بعملها الفني هناك. وقد عرفت إذ ذاك أنها كانت تعمل بنجاح تام كراقصة وأن اسمها ذاع في أنحاء سوريا ولبنان.
كما أنها كانت قد اشتركت في فرقة أمين عطا الله، وحفظت الكثير من مقطوعاتنا الغنائية التي ورثها عنا أمين ... ونحن على قيد الحياة. ثم سألتني السيدة بديعة: «هل إذا التحقت بفرقتك يكون لي نصيب من النجاح في التمثيل؟».
فأجبتها: «إنك لا تنجحين على المسرح فقط، بل إنني أتنبأ لك بمستقبل تصلين فيه إلى مراتب النجوم من أقرب طريق وفي أسرع وقت».
وفي تلك الليلة جددنا عقد الاتفاق على العمل، وانضمت بديعة إلى الفرقة، وظهرت معنا لأول مرة بمرتب شهري قدره أربعون جنيها مصريا.
وكان أول اشتراك فعلي لها معنا في بيروت حيث ظهرت في أدوار غنائية، فنالت ما كنت أوقن به من نجاح.
قضية
مكثنا في رحلتنا بسوريا ولبنان ثلاثة أشهر كاملة، فلما عدت إلى مصر، راعني أن أجد في انتظاري قضية مدنية رفعها ضدي المرحوم (ديموكنجس) صاحب تياترو الأجبسيانة الذي كنت أعمل فيه. وإليك موضوعها:
كان في ذمة «ديمو» لي مبلغ ستمائة جنيه كتأمين، فلما اتفقت على القيام بالرحلة تراضينا على أن أدفع له مبلغ خمسة جنيهات عن كل يوم من أيام تغيبنا في هذه الرحلة. إلا أنه انتهز فرصة غيابي فرفع هذه الدعوى مطالبا إياي بتعويض مالي لما سببته له من خسائر «بامتناعي» عن العمل في مسرحه! واخد بالك!! نهايته استمرت هذه المنازعات حوالي شهرين، وانتهت والحمد لله في مصلحتي!
وفي أوائل سنة 1922 تقدمت إلي شركة سجاير ماتوسيان تعرض مشروعا للاتفاق معها على أن تعمل فرقتي ثلاثة أشهر في الإسكندرية لحسابها. وكانت طريقة الشركة أن تضع في علب سجايرها كوبونات يستطيع الزبون أن يقدمها لعامل شباك التياترو فيحصل بواسطتها على تنزيل.
وافقت على مشروع شركة ماتوسيان بالطبع، وبدأنا عملنا في تياترو كونكورديا بالميناء الشرقي بالإسكندرية، من أول شهر مارس وانتهى في مايو. وكانت هذه المدة فرصة استطاعت السيدة بديعة في أثنائها أن تحفظ أدوارا في رواياتي القديمة التي لم تكن يد السيد أمين عطا الله قد وصلت إليها، كما أن لهجتها السورية بدأت تنقلب في هذه الأشهر الثلاثة، وعدت إلى مصر، فشعرت بشيء غير قليل من الضيق، واحتل قلبي نوع من اليأس زاد في إضرامه موت والدتي.
وكأن قسوة القدر لم تكتف بهذه الكارثة، ففجعتني بأروع منها! ذلك أن أصغر إخوتي وأقربهم إلي وأعزهم على نفسي ... بل قل إنه كان التعزية الوحيدة لي، والأمل الباسم في حياتي، هذا الشقيق المحبوب، اختفى في ذلك العام المنحوس - ومازال إلى هذه اللحظة التي أسطر فيها مذكراتي، دامع العين، مفتت الكبد جريح الفؤاد، أقول مازال شقيقي هذا مجهول المصير مني ومن محبيه وأصدقائه - ولم تكن منزلته لديهم لتقل كثيرا عنها لدي فاللهم صبرا جميلا.
وبعد أن انتهت مدة الثلاثة أشهر التي اتفقنا فيها مع شركة سجاير «ماتوسيان» للعمل بتياترو «كونكورديا» بالإسكندرية، تقدم إلي متعهد يعرض علي أن تقوم الفرقة إلى سوريا مرة أخرى في رحلة فنية، ويسوؤني أن أقول إنها لم تكن أحسن حظا من سابقتها، خصوصا وقد لقيت في أثنائها من تعنت الممثلين الشيء الكثير.
يوسف وهبي وعزيز عيد
عاد إلي إذ ذاك فتوري القديم، وكدت أيأس من مواصلة العمل، لولا خبر نما إلي وأنا في ربوع لبنان.
أما الخبر فهو أن الأستاذين يوسف وهبي وعزيز عيد قد عادا من إيطاليا، وقررا تأليف فرقة يهيئان لها مسرحا في شارع عماد الدين.
ولقد كان مجرد علمي بذلك باعثا لي على إشعال جذوة النشاط في نفسي، فعقدت العزم على العودة إلى مصر وموالاة العمل فيها، مهما كانت الأحوال ومهما حكمت الظروف.
كان ذلك في يناير عام 1923، وهنا يجدر بي أن أنوه باكتشاف وفقت إليه! ذلك أن صديقي بديع خيري كان إلى هذا التاريخ زجالا فحسب، ولم يكن قد اشتغل بالتأليف بعد. فلما وجد مني اهتماما بالبحث عن رواية أقابل بها المنافسين المستجدين، تقدم إلي في حيائه المعروف وهو يقول بأنه انتهز بعض فرص الخلو من العمل واشترك مع شقيقي الأصغر في وضع رواية «على قد الحال».
اتهمت بالكسل صداقة فنية
وقد عرفت منه فيما بعد ما أقصه عليك أيها القارئ فيما يلي:
كان أخي الصغير صديقا حميما لبديع. وكان كل منهما يخلص الود لصاحبه، وقد تآلفت روحاهما، واتحدت أفكارهما، فكان الواحد منهما يجد في زميله الأخ الشقيق لا مجرد صديق.
وقد ظن الاثنان أن في مقدورهما أن يخلقا من نفسيهما مؤلفين، ولكن واحدا منهما لم يطلعني على هذا السر الدفين.
ومن ثم راحا يعملان فيما بينهما، فوفقا إلى رواية فرنسية اسمها «الفانوس السحري، أو علاء الدين» وهي إحدى قصص «ألف ليلة».
فلما انتهيا منها، رغبا أن يبرهنا على قدرتهما بطريق غير مباشر، ولذلك لم يعرضا روايتهما علي بل راحا «يسرحان» بها على الفرق الأخرى لعل واحدة منها تضع في عينها «حصوة ملح»، وتشتري الرواية. وفي ذلك البرهان القاطع الذي يقدمانه لي، ويحملاني به على الإقرار لهما بأنهما مؤلفان لا يشق لهما غبار!
على أن الفرق التي قصدا إليها السيدان المؤلفان لم تر في الرواية رأيهما، فلم تقبل إحداها الشراء!! كما أن بديعا وأخي لم يجرآ على مفاتحتي في الأمر، ومن ثم أودعا الرواية في المهملات بمنزل الأستاذ بديع، وأبقياها كهدية منهما إلى جياع الفيران، إذ لم تحن الفرصة لبعثها!
ومضت السنوات على ذلك إلى أن عادت الفرقة من سوريا - وكنت كما قدمت - في أشد الحاجة إلى رواية أقابل منافسي. فتقدم إلي الأستاذ بديع «باقتراحه المتواضع» الذي سبق بيانه!
اطلعت على الرواية فوجدتها من «حسبة 25:30 منظرا» ومع أنها كانت كلعب الأطفال أو عبث المبتدئين، إلا أنني أحسست فيها ثمرة يمكن اجتناؤها وأساسا يصح البناء عليه، وإذ ذاك اشتركت مع بديع في «توضيبها»، وصبها في القالب المرضي الذي يضمن لها النجاح المنشود، وكان أن أطلقنا عليها اسم «الليالي الملاح». وكان هذا أول عهد بديع بالتأليف الروائي، ومن ذلك اليوم سار ملازمي في كل ما نضع للمسرح من روايات.
بديعة تبكي
حدثتك يا سيدي القارئ عن «بديع» والآن فلتسمح لي أن أحدثك كذلك عن «بديعة».
قلت إنني اتفقت وإياها على أن تعمل بفرقتي، وأمضينا اتفاقا «في أثناء وجودنا بسوريا»، ينص على أن تتقاضى أربعين جنيها شهريا، فلما عدنا إلى مصر، بدأنا إجراء بروفات «الليالي الملاح». وكم قاسى الممثلون في تلك البروفات، وكم بذلوا من جهود جبارة لم تكن السيدة بديعة قد اعتادتها في عملها مع غيرنا. وإني لأذكر أنها كانت في كثير من الأحوال تبكي وتنتحب و«تقطع» شعرها من الجذور بعد أن ينهكها التعب، وتتوتر أعصابها من العمل المتوالي في البروفات.
ولم يكن ذلك ليقلل من قسوتي أو يثبط من عزيمتي، فقد آليت على نفسي أن أجعل منها عروسا للمسارح، وكوكبا يلمع في أفق الفن. ولم أقصر في إطلاعها على هذه الرغبة في بعض الأحايين، فكان ذلك يدفعها إلى تحمل الألم، حتى إذا ما بلغ غايته، تملكها الغضب وغادرت المسرح باكية صاخبة ولسان حالي يقول: «برضه ولو!».
فنانة بالفطرة
كانت بديعة فنانة بفطرتها، وكانت تهوى المسرح بطبيعتها، وكنت أحس ذلك منها، وأرى في قوامها وفي جمالها ما يساعد على تكوين عقيدتي التي أبديتها، وهي أنني لابد وأن أجعل منها الممثلة التي أبتغيها، ولذلك لم أكن أولي غضبها و«عصبيتها» أية عناية. بل بالعكس، كانت كلما ازدادت غضبا ازددت قسوة ونضالا في سبيل مصلحتها من ناحية ومصلحة عملي من الناحية الأخرى.
وأخيرا آن أوان اقتطاف الثمرة، وجاء الوقت الذي شاءت فيه العناية أن تنيلنا أجر ما بذلنا من جهود. فظهرت «الليالي الملاح» آية فنية رائعة، وبدت فيها «بديعة مصابني» كوكبا هل على الجمهور في صورة ملكت لبه، واحتلت مكامن إعجابه. وزاد الإقبال وتحسنت الأحوال، وبدأ الناس يتحدثون في كل مكان عن ممثلتنا الجديدة فيقرظها عارفوها، ويرفعها غيرهم إلى أسمى مكان من إعجابهم! وهنا فقط عرفت بديعة سر التدقيق في «البروفات»، ورأت بعينيها أن نجاحها لم يكن إلا وليد تلك الجهود التي أبكتها فيما مضى فأغضبتها المرة تلو المرة.
أراني ملزما بتحليل نقطة في منتهى الأهمية، ولو من وجهة نظري أنا، كانت بديعة هاوية خالصة الهواية وكانت - وما تزال على ما أعتقد - شعلة من النشاط، فجاء نجاحها المجيد بعد ذلك حافزا قويا حملها على مطالبتي بموالاة العمل لإخراج رواية جديدة. وكأنها ظنت أن تأليف الرواية لا يكلفنا شيئا من العناء. وما هي إلا أيام معدودة أجتمع فيها بزميلي بديع ونتبادل الرأي ثم تنتهي الرواية وتكون معدة للمسرح!
حاولت أن أفهمها خطأ ما ذهبت إليه، وأبين لها أن المسألة أبعد مما يتراءى لها، ولكن! كيف أصل إلى موضع الاقتناع منها؟
هل أنا كسول؟
ومضى الشهر الأول والنجاح حليف «الليالي الملاح»، ولم نكن قد أنهينا من الرواية التالية غير الفصل الأول. وبعد أيام تبعه الثاني، وكانت بديعة أشبه بالسوط يلهب ظهورنا، ويستحثنا على الإسراع وبذل الهمة «للفراغ من دي المهمة»! فلما أبطأنا بعض الشيء لم تجد إلا أن ترميني بالكسل.
وقد كانت سامحها الله، أول من خلع علي لقب البطولة في هذه الرذيلة. وقد وجدت دعايتها من أذهان الناس مرتعا، فأصبحت في نظرهم جميعا شخصا كسولا، ولزمني هذا الوصف «بهتانا» إلى اليوم، كذكرى من ذكريات السيدة بديعة مصابني. وأقول بهتانا لأنني لا أرى مسوغا له، ولا أرضى أن أوصف به!
وأعددنا بقية الرواية الثانية «الشاطر حسن» وكان من أثر استعجال بديعة، أن أخرجنا الرواية قبل تهيئة الفصل الأخير منها، فظهر في اليوم الأول مفككا لا ضابط له، إلا أننا استطعنا بحمد الله أن نصلح ما أفسدت السرعة منه. فاحتلت الرواية مكانها من إعجاب الجمهور، وكانت كسابقتها من حيث النجاح والإقبال.
ويهمني أن أعترف هنا، بأن بديعة كانت تنتقل في كل يوم من نجاح إلى نجاح، حتى جاءت الرواية الثالثة «أيام العز»، وفيها ارتكز مجد بديعة على أساس ثابت، وأضحت العروس التي تنبأت بها، والمعدن الذي كشف الصقل جوهره، فبدا للعيان لامعا كشمس الضحى. كان هذا حال بديعة بعد الرواية الثالثة، فإذا كانت قد رمتنا بالكسل قبل أن تصل إلى هذه الدرجة من السمو، فماذا بربك تكون حالتنا في نظرها وهي تريد أن تظهر كل يوم في رواية جديدة؟
بديع مؤلف وزجال
وقد قلت فيما قبل إن الزميل بديع خيري كان إلى ما قبل ظهور رواية «الليالي الملاح» زجالا فحسب. إلا أنني حين اطلعت على أثره في تلك الرواية عرفت أنه مؤلف بغريزته، وأن أثوابه تخفي تحتها عبقريا لا ينقصه إلا أن يرفع عنه ستار الخجل الذي يكسوه، وإلا أن يحل من قيد التردد الذي يعروه. هذا ما تأكدت منه بعد درس روايته الأولى التي اشترك معه فيها أخي الصغير.
وتوالت الروايات التي اشترك معي في تأليفها بديع، وفي خلال تلك المدة كسبت في شخصه أكبر معين لي في عملي، إذ اتحدت أذواقنا، وائتلفت أرواحنا، وأصبح كل منا للآخر أخا روحيا أو تكملة لابد منها للثاني.
لقد قلت في مناسبات كثيرة إن بديعا الزجال كان آية من آيات النبوغ في فنه، وهاأنذا أؤكد أن تلك المكانة من الزجل لمست فيه أضعافها في التأليف، ورسم الحقائق والأخلاق المصرية الصميمة، والقدرة على إلباسها الثوب الحقيقي الخلاب في أسلوب يلذ للمرء أن يتابعه بشغف وانتباه.
أضحى بديع خيري إذن زجالا ومؤلفا في وقت واحد. وقد ساعدني ذلك على التفكير في إخراج الكوميدي المصري الصميم.
هذا ما أرى من واجبي أن أثبته للحقيقة والتاريخ قبل أن أواصل السير في سرد الوقائع التي بدأت بها.
اشترك معي بديع في «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن» و«أيام العز» ... وقد كان نجاحها بليغا، كما كان أثر بديع وبديعة فيها واضحا جليا.
ريا وسكينة
وهنا ... معذرة يا قرائي الأعزاء إذا عدت بكم ثلاث سنوات إلى الوراء، لأسجل حادثا له أهميته الاجتماعية والفنية.
في سنة 1921 روعت مصر من أقصاها إلى أقصاها إثر اكتشاف حوادث جنائية في الإسكندرية لم يكن للبلاد بها عهد من قبل، وتلك الحوادث هي استدراج بعض النسوة إلى مكان معين، وسلب حليهن ثم قتلهن أشنع قتلة، والتمثيل بجثثهن ثم دفنهن تحت الجدران. وكان أبطال هذه العصابة امرأتين «ريا» و«سكينة» وزوج إحداهما واسمه «حسب الله».
كان اكتشاف هذه الجنايات حديث الناس جميعا. ولما كنت أشعر بأنني خلقت للدراما لا للكوميديا، فقد عولت على اقتباس موضوع من هذه الحوادث الدامية وإخراجه على المسرح.
وهذه النزعة - نزعة الدرام - يظهر أنها تسكن أدمغة رجال الكوميدي جميعا، فكل منهم يعتقد - إن حقا وإن باطلا - بأنه مبرز في هذا النوع، وأنه إذا اتجه إليه فاق نفسه في الكوميدي بمراحل.
ولعل القراء يعرفون كيف عقد شارلي شابلن عزمه على إخراج دوري نابليون وهملت، وكيف صرح مرارا بأنه سيكون المجلى فيهما. نهايته ... أعددت رواية «ريا وسكينة» وأخرجتها في مسرح برنتانيا، ففاق نجاحها كل حد، بحيث كنت أسمع بأذني النحيب والبكاء صادرين من الناس طرا. وكم سمعت البعض ينادون بالصوت العالي: «بزياده بقى ... قتلتونا يا ناس ...».
كان الممثل حسين إبراهيم يقوم بدور «ريا»، وكانت بديعة تظهر في دور إحدى الضحايا التي تفتك بهن العصابة. كما اضطلعت أنا بدور سفاك اسمه مرزوق. وما دمت قد أشرت إلى ما كان لهذه «الدرام» من تأثير عميق في الجمهور، فلا مانع من ذكر هذه الواقعة.
دشرها ولاك ...!
حدث عندما كنا نمثل هذه الرواية في يافا، أن كان أحد المشاهد حاميا بيني وبين بديعة، وكان الحوار بالغا أشده، حين تقدمت من الفريسة وأطبقت أصابع اليدين حول عنقها وهي تتلوى - كالطير يرقص مذبوحا من الألم - وأرجو السماح يا حضرات القراء في الاستشهاد بهذا المثل ... واستحملوا فلسفتي ... ربنا ما يوريكم مكروه.
أقول بينما المناقشة حادة، وأنا أقوم بمهمة الخنق خير قيام، إذ بي أسمع صوتا يدوي من أقصى الصالة صائحا: «دشرها ولاك ... العمى بعينتينك ...!».
وأتبع حضرته هذا القول بطلقة من غدارته، كادت ترديني على خشبة المسرح ... لولا أنني أخدتها من قصيره، وبرطعت إلى الخارج تاركا الفريسة تعرف شغلها مع صاحب هذا الاحتجاج العملي الغريب في نوعه! أما وقد انتهينا من ذكر ما نسينا فلنقفز بعد ذلك ولنواصل ما انقطع.
معلهش يا زهر
عرفتم أنني صادفت في أثناء عملي في شركة السكر بنجع حمادي عرافة فرنسية تنبأت لي بسنوات أعوم في أثنائها في الفلوس عوم، وأن هذه السنوات ستتبعها أخرى عجاف، وهكذا دواليك.
انقضت سنوات القحط والنحس والبلا الأزرق. فاستمع يا سيدي وارث معي للحال التي كنت فيها.
لعلك تذكر المسيو ديمو كنجس ... صاحب تياترو برنتانيا، وكيف فتحت أبواب النعيم باتفاقي وإياه على العمل في مسرحه، ذلك العمل الذي در عليه ربحا لم يكن يتصوره، وملأ خزانته بمال لم يكن يمتد إليه أمله حتى في أحلامه. وإنه وإن كان لي أن أتحدث بنعمة ربي، فإني أقول إنني نقلت هذا الرجل إلى سماء الثروة الجارفة، إذ كان إيراده السنوي من المسرح ثمانية آلاف جنيه أو يزيد. فهل عرف لي هذا الجميل؟ وهل قدر لي ذلك الصنيع؟
الجواب على ذلك: أنه اتفق مع الحاج مصطفى حفني «مدير مسرح برنتانيا» على أن يشتركا في إتمام بناء التياترو (لأنه كان إلى هذه اللحظة، على الله، سقف خيش وجدران مترين طوب وأرضية من الرمل و... إلخ).
ولكن للأسف كان الشرط الأساسي أن يخرجاني منه، وأن يجلبا فرقا أجنبية من الخارج للعمل به، الواحدة تلو الأخرى. ألحفت في الرجاء لعلي ألين قلب هذين الشريكين، وبعد مقت وفلقة قلب، تفضلا وتنازلا وقبلا أن يسمحا لي بالتمثيل في فترات متقطعة، بين سفر فرقة أجنبية ووصول أخرى، وفي أيام الصيف القائظة التي يرفض الأجانب أن يعملوا في أثنائها! برضه معلهش يا زهر إذ لم يكن أمامي إلا قبول ما يملى على من قاسي الشروط.
دقات أخرى
آدي دقة! أما الأخرى. فقد كان لي في أحد البنوك الأجنبية سندات تقدر بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه كنت أقترض عليها إذا ما أعوزني المال. إلا أنني فوجئت بحجز تحفظي على هذه السندات، لأن رجلا أتى من عرض الطريق ادعى أنني مدين له بمبلغ مائة جنيه! ولذلك رفض البنك أن يجيب مطالبي، وتوقف عن إقراضي أي مبلغ، بالرغم من توسلاتي إليه أن يحتفظ بمبلغ الدين، بل بأضعاف أضعافه، إذ أين المائة من الثلاثة آلاف.
عام بأكمله قضيته دون أن أجد قرشا واحدا، في حين أنني أملك في البنك آلاف الجنيهات!
أما ثالثة الأثافي، ولا مانع من الاعتراف بأنني أستعمل هذا الاصطلاح غصبا عن عين زميلي بديع خيري، ورغم معارضته، لأنه يدعي أن مافيش حاجة في الدنيا اسمها «ثالثة الأثافي»، وأنه لا يفهم لها معنى، ومع أنني أوافقه على أنني أنا أيضا لا أفهم لها معنى إلا أنني برضه أستعملها لأني سمعتها من أحد الفضلاء المبجلين أعضاء بسلامته المجمع اللغوي!
أقول إن ثالثة الأثافي «واللي يزعل يشرب من الزير»، أنني صدمت صدمة نفسانية قاصمة، لا تقاس بجانبها الصدمات المادية مهما اشتدت. صدمة جاءت في الصميم، فضعضعت حواسي، وأسلمتني إلى اضطرابات عصبية قاسية كنت في أثنائها في حاجة إلى من يواسيني ... ولكن أين لي أن أجده؟
لست أريد التوسع في شرح تلك الصدمة مكتفيا بهذه الإشارة الموجزة حتى لا أسيء إلى أحد.
هجر شخصية كشكش
قلت إنني قبلت شروط الشريكين ديمو كنجس والحاج مصطفى حفني، ورضيت أن أعمل في «برنتانيا» في فترات متقطعة ، فأعددت رواية «البرنسيس» مع زميلي بديع، وقد كانت أول محاولة حقيقية لنوع الكوميدي في مصر، وإن كانت أشربت ببعض نواحي «الأوبريت».
وفي هذه الرواية - وللمرة الأولى - خرجت عن شخصية كشكش، وظهرت في دور آلاتي بائس يعزف على القانون اسمه «المعلم حسنين»، كما ظهرت بديعة في دور «عيوشة».
ونجحت الرواية كما كان مقدرا لها، وتوطد مركز بطلتها بديعة في عالم التمثيل. ولولا أن الرواية كانت تعرض في فترات متقطعة لواصلت نجاحها يوميا، ولآتت أكلها كما كنا نبغي. ولكن آه! ثم آه! ... من الحاج حفني. ومن أجواقه التي كانت كأجواق «أبو حجاب»، الذي يقولون إنه لا ودى ولا جاب!!
وبعد رواية «البرنسيس» أخرجنا رواية «الفلوس»، ثم رواية «لو كنت ملك» ثم «مجلس الأنس».
وفي هذه الأيام، كنا كالأيتام في مأدبة اللئام، إذ لم يكن لنا - كما شرحت - مسرح ثابت نعمل فيه، كما أن الدرام قد طغى على مصر فاشتهر فيها اسم «مسرح رمسيس»، وعمل عميده يوسف وهبي ومخرجه عزيز عيد، على ترجمة أحسن منتجات الغرب الأدبية، وعرضها على الجمهور في ثوب قشيب ومظهر خلاب، لفت هذا النوع أنظار الناس قاطبة، فتهافتوا على مشاهدته، وولوا وجوههم شطره، وتركنا نتابع سيرنا الأعرج تحت رحمة الحاج مصطفى حفني، وفي ظل رضائه عنا حينا وغضبه علينا أحيانا، فكانت محاولاتنا الكوميدية تنجح في محيطها المحدود، ولكن لم يكن لها مثل ذلك الدوي الذي كان يتمتع به الدرام إذ ذاك.
تأويل مدهش
أي والله مدهش! ذلك التفسير لنصوص العقد، الذي أجبرتني الحالة على توقيعه مع الحاج مصطفى حفني مدير تياترو برنتانيا. كان بين الشروط التي أملاها «الحاج» أن تحيي الفرقة أربع حفلات نهارية (ماتنيه) في كل أسبوع، وإذا «امتنعت عن إحياء إحدى هذه الحفلات كان عليها أن تدفع غرامة مقدارها ثمانية جنيهات.
هذا هو الشرط. وقد كان يحدث في شهور القيظ أن يفتح شباك التذاكر لحفلات الماتينيه، ولكن العامل «لا يصطبح» بابن حلال يوحد الله. لأن الناس كانوا يفضلون سهر الليالي على حجز أنفسهم عصر كل يوم في ذلك العرق المحرق. فإذا جاء أوان رفع الستار وجدنا التياترو خاويا على عروشه، ومقاعده أفرغ من فؤاد أم موسى. ولذلك كنا نتفق مع الحاج مصطفى على إلغاء الحفلة.
وفي أواخر يوليه من عام 1924 انتهت مدة التعاقد.
وفيما أنا مستعد لنقل الحال والمحتال - أي ما أملك في المسرح من ملابس ومناظر وأدوات وستائر - وقف الحاج مصطفى يحول بيني وبين نقل أي «قشايه» ... إيه يا سيدنا؟ - لأنك مدين لي بمبلغ سبعمائة وعشرين جنيها؟ - يا خبر زي بعضه ... وبتوع إيه دول يا حاج؟ - بقى يعني مش عارف حضرتك؟ بتوع الماتينات اللي بسلامتك رفضت تشتغلها! - لكن دا مش بسلامتي بس اللي رفض، دا بسلامتك أنت كمان لأن مافيش حد جه، ولأنك كنت حاتخسر ثمن النور وأجرة العمال! - لا. مافيش كلام من ده!!
وطبعا انتهت المناقشة وانفض المشكل على أن (ما فيش كلام من ده). وضاعت ملابسي ومناظري وستائري الغالية في شربة ماء. والظريف أن الحاج مصطفى بعد الرجاء الحار، والوسائط الكثيرة، قبل أن يكتفي بهذه الأشياء ... ويتنازل - وخد بالك من يتنازل - عن بقية ما في ذمتي من أموال نظير الامتناع عن «إحياء» الحفلات الميتة إياها!!
بعد هذه الفصول السخنة، وبلاش الكلمة الثانية، يئست من هذه الحياة، التي أنكر الناس فيها الوفاء وباعوا الأصدقاء، فاعتزمت أن أرحل بعيدا عن أناس اشتريتهم، فباعوني، وأخلصت لهم فأنكروني. ثم فكرت أن أجد في الزواج تعزية أو شبه تعزية، فكان قراني ببديعة مصابني، وامتلأ رأسي بفكرة النزوح عن الوطن، والبحث ولو عن فائدة واحدة من الفوائد الخمس، التي يقولون إنها مقرونة بالسفر.
كشكش الأصلي
وفي أحد الأيام نصحت لي بديعة أن نتسلى بشم الهواء في مصيف روض الفرج فرافقتها، وما كدنا نصل حتى طرق أذني صراخ شخص يوزع رقاع إعلان وهو يقول بصوته المنكر: «الحق هنا يا جدع، تعالى شوف كشكش الأصلي يا جدع، هنا ملك الكوموكودو - أي والله هكذا قال - الحق قبل ما يلعب».
وتراءى لبديعة أن تقف هنيهة لتناقش ذلك «الإعلانجي» في صيغة ندائه، ولم يكن بالطبع يعرف شخصيتها، فجرى بينهما الحوار التالي:
بديعة :
لكن يا أخينا (كشكش الأصلي) في عماد الدين مش هنا.
الإعلانجي :
لا يا ستي هانم. دكهه تقليد، لكن الأصلي هنا.
بديعة :
طيب وإزاي الأصلي يهزأ نفسه في روض الفرج، ويسيب التقليد يتمتع في عماد الدين؟
الإعلانجي :
وإيه يعني عماد الدين يا ست. فيه في الدنيا أحسن من روض الفرج؟ دا روض العشاق يا هانم ...!
ورأيت أن الخناقة قد تطول وتتشعب البحوث فتجر إلي توتر العلائق بين كشكش الأصلي وبين حرم كشكش التقليد، اللي هو أنا، فجذبت بديعة ودخلنا لنشاهد (الكوموكودو) كشكش اللي مش تقليد!!
ورفع الستار وظهر «المبروك»، فرقص ومثل وغنى وأنشد، فكدت أطير ... لا من السرور، ولكن لأن كشكش ذلك الاسم الذي كنت أعتز به أضحى على هذه الحال من الهوان، يتلاعب به مثل هذا الإنسان «ويمرمغ» به الأرض. ولست أخفي على القارئ أنني لولا وجود بديعة إلى جانبي في تلك اللحظة، يعلم الله أنني ربما ألقيت نفسي في النيل منتحرا، وبلاش الغلب الأزلي ده!!
نهايته. كانت هذه السهرة (الروض فرجية) سببا في القضاء على ترددي في السفر، فلم ينقض الليل، حتى كنت في صباح اليوم التالي قاصدا إلى قلم الجوازات، لاستخراج جواز السفر لي ولبديعة.
غريبالدي
وبعد الانتهاء من الإجراءات اللازمة قابلني الممثل (فريد صبري).
فلما عرف أنني قاصد إلى أمريكا الجنوبية، أظهر الرغبة في مرافقتي، فأفهمته أنني لا أضمن أن أعمل هناك، وقد يقتصر الأمر على تبديل الهواء وانتجاع الصحة. فأجابني بأن الأمر من وجهة نظره على حد سواء. لأنه - وهكذا قال - مقطوع من شجرة، ولا يهمه ما يأتي به السفر، وبناء عليه لم أمانع في أن يصحبني كما صحبني الممثل محمود التوني.
وقصدت إلى إحدى شركات الملاحة، وهناك فهمت أن باخرة اسمها «غريبالدي» تقوم من جنوا قاصدة إلى البرازيل.
فاسترحت إلى قطع التذاكر بها، وقلت لابد وأن إيطاليا إذا أطلقت اسم زعيمها العظيم «غريبالدي» على إحدى بواخرها، فإن هذه الباخرة لابد أن تكون عروس زميلاتها الأخريات.
وغادرت مصر إلى جنوا، وفي معيتي بديعة مصابني وفريد صبري ومحمود التوني وجوجو ابنة بديعة ... شايف المعية يا عم!! وظللت أمني نفسي بعظمة «غريبالدي» وأبهتها وفخامتها، حتى إذا وصلنا إلى جنوا تبخرت هذه الأحلام. لأن تلك «الغريبالدي» شبهت لي بقارب من قوارب الصيد، أو بسفينة من ذلك النوع القديم الذي علق أثره بأذهاننا من عهد الدراسة، والتي كان الفينيقيون يتنقلون عليها بين ثغور البحر الأبيض. وهنا قلت كيف يتسنى لهذه «القربة» أن تخطو خطوة واحدة في المحيط الأطلنطي؟ نهايته.
أنا سندباد بحري
سارت غريبالدي «تهكع» بنا، موجة تشيلها، وموجة تحطها، إلى أن اجتزنا مضيق جبل طارق، ودخلنا مياه المحيط وهنا كان الغلب الأزلي!! بل هنا كان التحقيق العملي للمثل المعروف وهو: «كالريشة في مهب الريح» أي والله ريشة!!
ولكي تفهم قيمتها في المحيط أقول إنها قضت بنا فيه أو قضينا بها في المحيط خمسة وعشرين يوما في حين أن غيرها من بواخر خلق الله يقطع هذه المسافة في أسبوع.
كان هذا حال «غريبالدي» أما ركابها فربنا ما يوري عدو ولا حبيب. ملك دوار البحر بديعة فلم تعرف رأسها من رجليها. وطرح التوني وفريد صبري أرضا، لكن أرض إيه؟ هي فين الأرض؟ قول طرحا خشبا!! وهذه كانت حالة الركاب جميعا، ولم تكن مقصورة على زملائي، ولم يكن بين الجمع إلا فرد واحد لم يستطع البحر ولا دواره، بل ولم تستطع «غريبالدي» «بخيابة» قدرها أن تؤثر فيه أي تأثير. فكان يغدو ويروح واضعا يديه في جيوبه، ضاحكا من هذا ومن ذاك ممن كانوا يتلقحون في الممرات. هذا الفرد الواحد هو أنا.
ولكن ما ذنبي وقد خلقت مني الأقدار «سندبادا بحريا» في آخر الزمن؟ ولقد كنت أنتهز بعض فرص هدوء البحر فأجمع زملائي، و«أسليهم» بعمل بروفه ... على رواية «هملت»، وغيرها من «الدرامات»، لأن الموقف لم يكن يتحمل عمل بروفات كوميدي!!
وبعد هذه النكبات المدلهمات، شاهدنا أرضا عن بعد.
فقلت: «الله يرحمك يا خريستوف كولومب ويحسن إليك. ولو أنك كنت السبب في المرار الذي شربناه من حفيدتكم المحترمة «غريبالدي» إذ لولا أنها طلعت في مخ حضرتكم فاكتشفتم أمريكا، ما فكرت في النزوح إليها!!
الفصل الثامن
في أمريكا الجنوبية
في عواصم أمريكا الجنوبية كشكش مغنواتي ...!
عملت الباخرة بأصلها، وأوصلتنا إلى بلاد القارة الجديدة، بعد أن قطعنا الأمل من هذا الوصول، معتقدين أن الله سبحانه وتعالى قد اختارنا طعاما طيبا لأسماك المحيط الجائعة ...!
مررنا أولا بمضيق رائع المنظر عند بلدة «سانتوس»، فأنسانا جماله وفتنته ما لاقينا من عذاب غريبالدي «صبحا ومسا» على رأي ليلى بنت الصحراء ...!
وفي الميناء، عقب أن رست الباخرة، وأقصد القارب الذي حملنا، شاهدت «شحطا»، (والشحط على ما يتراءى لي من غير الرجوع إلى معاجم اللغة هو المارد الطويل العريض) واقفا تماما كما وقف ديلسبس على مدخل القنال، وقد ظننته لأول وهلة تمثالا رخاميا، إلا أنه راعني أن أجد سلاسل من ذهب تحلي صدره، وتتدلى إلى جيوب صديريته. وأخيرا عرفت أنه من إخواننا السوريين الذين يقابلون الرواد والسائحين، ليقودوهم إلى فندق المدينة. فتقدمت إليه وحييته، ثم أفهمته من أنا!! ولكنه هز كتفيه من غير مبالاة وقال: «شو بيكون كشكش هيك ... مغنواتي؟».
وأخذتها في عظمي، وقلت ... بشرة خير، والله اطمأنينا على الشغل. نهايته. وذهبت ورفاقي (بديعة وابنتها جوجو والتوني وفريد صبري) إلى الفندق، وهناك استودعتهم الله، وقلت فلأذهب لارتياد المدينة، لعلي آتيكم منها بنبأ. أو لعلي أستطيع تهيئة فرصة لإحياء حفلة أو حفلتين، وصحبني محمود التوني ورحنا نجوب سانتوس شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
سانتوس!! إنها قرية أو ضيعة، أو قل ما شئت. نظرت إلى التوني متسائلا! «أنحن في أمريكا؟ أمال المغربلين تبقى إيه يا وله؟ نهايته لقينا في تجوالنا في أحد الشوارع رجلا ذا مهابة، قدمه إلينا دليلنا، فعرفنا أنه يدير أكبر فندق في المدينة. وأنه هو الآخر سوري من علية القوم هناك.
وحين قدمني إليه باسم «كشكش بك»، لاحت على الرجل دلائل الشك والريبة ... ثم ما لبث أن أخذته نعرة الصراحة ففاجأني قائلا: «شو ها الحكي!! أنت ما لك كشكش. لأني أنا شفت كشكش السنة الماضية بمدينة حمص في الشام ... وكان إله لحيه، وحضرتك هلا حليق» ...! على أنني لم أحتج إلى وقت طويل لإقناعه بأنني كشكش صحيح، وبأن اللحية التي رآني بها جاهزة.
أول حفلة
سر الرجل بذلك ووعدني بالعون، وقال إنه سيهيئ للفرقة فرصة العمل في فندقه في نفس المساء، والغريب أن عادتهم جرت على تناول الغداء في الساعة الحادية عشرة صباحا، والعشاء في السادسة والنصف. وكان علينا بالطبع أن نجاري القوم فيما درجوا عليه. فبعد أن مضت ساعة أو ما يزيد دعينا إلى ردهة الفندق، فإذا بها ملأى بالسيدات والرجال من أرقى الطبقات، وإذا النبأ قد سرى بينهم متضمنا أن فرقة (غنائية) ...! غنائية وحياتك!! قد وصلت من مصر، وأنها ستطرب الحضور بأصواتها الرخيمة!! الرخيمة! يا دي الليلة اللي زي بعضها يا أولاد ... والرخيمة دي نجيبها منين؟
ثم إذا فرضنا أنني مطرب ... وخستكت حبتين، فماذا أقول عن صوت التوني وزميله فريد صبري؟ هل امتدت إليهما الخستكة مني عن طريق العدوى مثلا؟!!
وأخيرا طرأت فكرة!! فلتكن بديعة هي المطربة، ولنكن نحن جميعا مذهبجية التخت!!
ولم نتوان لحظة في تنفيذ هذه الفكرة السديدة، فتوسطت بديعة أريكة الطرب وجلسنا حولها، نخزي العين، وفشر تخت الشيخ سيد الصفتي في زمانه!!
وألقت بديعة قطعا وطنية حماسية من ألحان روايتنا، بينما كنا نحن نردد كالمذهبجية بحق وحقيق. وانتهت الحفلة بنجاح ما بعده نجاح. و«هاص بنا جمهورنا العزيز، فنلنا من إعجابهم وتقديرهم ما نؤكد أننا غير جديرين به إطلاقا!!».
وأخيرا نصح لنا بعض الراسخين أن نولي وجوهنا شطر مدينة سان باولو (على بعد ساعتين في القطار من سانتوس)، وأفهمنا الناصحون أنها مدينة عامرة بمحبي الفن الذين يعشقون التمثيل، ويودون أن نتيح لهم فرصة مشاهدته. وكان ذلك في شهر نوفمبر من عام 1924، فعقدنا العزم على الرحيل إلى سان باولو، وامتطينا القطار، وكم كانت دهشتنا بالغة حين أطللنا من النوافذ، وشاهدنا المناظر التي تجل عن وصفها الألسن، وتتضاءل إلى جانبها أشهر المناظر السويسرية وأبدعها.
في «سان باولو»
وفي هذه المدينة عرفنا حقا أننا اجتزنا البحر إلى أمريكا، فهي مدينة كبيرة عامرة وبها جالية سورية تتحكم في أغلب المرافق، بين تجارة وصناعة وأعمال مجدية مثمرة. نزلنا في فندق كبير يديره نزيل سوري، وكان خبر قدومنا قد سرى مسرى الكهرباء، فكان في استقبالنا جمهور يربو على الخمسمائة شخص، أكرموا وفادتنا وأنزلونا منهم على الرحب والسعة.
ومنذ اليوم الأول أظهروا لنا رغبتهم في مشاهدة بعض رواياتنا: فأفهمتهم بأن رحلتنا لم تكن فنية، وأننا ما قصدنا بها إلا الاستجمام والراحة، ولذلك لم نصحب فرقة من الممثلين الذين يمكن أن نعمل معهم. فطمأنونا من هذه الناحية، وأبلغونا أن في المدينة جمعية من الهواة، ما لبث أعضاؤها أن وافونا حيث نزلنا، فإذا على رأسها الشاب جورج أستاتي. نجل المرحومة السيدة ألمظ أستاتي (وقد كانت من مشهورات ممثلات فرقة الأستاذ جورج أبيض قبل ذلك وهي شقيقة السيدة إبريز أستأتى قرينة الأستاذ أمين عطا الله). والظريف أن جورج أستاتي كان يمثل رواياتي هناك، ويطلق على نفسه اسم (كشكش البرازيلي)، كما كان زوج خالته (الأستاذ أمين عطا الله) يفعل في سوريا ولبنان!! ووجدت من أفراد هذه الجمعية البرازيلية شابا اسمه جبران طرابلسي، وقد قرأت في جريدة الأهرام أنه يعمل الآن على رأس فرقة في الأرجنتين متخذا لنفسه (شكشك بك). آل يعني تصرف في اسم كشكش، فقلب كيانه!!
ألفت الفرقة إذن مستعينا بأولئك الهواة، وكنت - من قبيل الاحتياط - قد حملت معي طائفة من أهم رواياتي. ورأيت أن أبدأ بزيارة إدارات الصحف كلها قبل أن أبدأ عملي، وقد قابل أصحابها تأليف الفرقة مقابلة مستحبة! إلا أنني شعرت بأن هناك بونا كبيرا بين ما قوبلنا به من صحافة الجالية السورية، وما قابلتنا به الصحافة الوطنية (البرازيلية). ذلك لأنني أحسست في كتابات الأخيرة شيئا من روح التهكم وعدم المبالاة بما يمكن أن تفعله فرقة «شرقية».
وقد علمت أخيرا أن سبب هذا الفتور إنما يرجع إلى الجفاء بين أهل البلاد الأصليين وبين ضيوفها النازحين، لتمكن الأخيرين من امتلاك أعنة البلاد الاقتصادية.
وجدت نفسي في موقف هو الحرج بعينه، ولكنني مع ذلك أقدمت مستعينا بالله على تذليل ما يعتورني من صعاب.
في جو مكهرب
استأجرت المسرح أربع ليالي بإيجار يعادل خمسين جنيها عن الليلة الواحدة، وعدت إلى الفرقة أجاهد معها في إعداد روايات ريا وسكينة، والبرنسيس، وأيام العز، التي أطلقنا عليها اسم (حلاق بغداد)، وأجهدت نفسي في البروفات، خصوصا بعد أن تكهرب الجو، ورأيت أمامي أعينا مفتحة تريد أن تنتهز فرصة تنال فيها من الشرق والشرقيين. وأقول لك الحق إنني ذكرت ما كان يجب أن أذكره في هذه الآونة! وهو أنني كنت بعملي هذا سائرا في أحد طريقين، فإما للصدر وإما للقبر. ومضت أيام اقتربنا بعدها من الموعد المحدد للتمثيل، فتساءلت عن حركة بيع التذاكر، وهالني أن أعرف بأن المبلغ الذي جمع إذ ذاك وصل إلى ألفي جنيه!!
راعني ما شهدت فعدت إلى نفسي أحاسبهم. ترى ماذا تكون الحال لو قدر الفشل لنا؟ ثم ماذا أكون أنا في نظر أولئك الناس الذين أحسنوا بنا الظن ...؟
ونظرت من خلال ثقب في الستار قبيل التمثيل فما أروع ما شهدت!
طوائف من أرقى الطبقات رجالا وسيدات تشع من نحورهن وأصابعهن أنوار الحلي البراقة والماسات ذات اللون الأصفر الفاقع الذي لم أر له مثيلا في غير البرازيل. وقد خيل إلي وأنا أنظر إلى السيدات إذ ذاك بأن هنالك قطعة متماسكة من الجواهر أو صفوفا متراصة من اللآلئ. ورفع الستار فمثلنا رواية (ريا وسكينة) وهي من فصل واحد انتهى دون أن أتبين له في نفوس الجمهور نتيجة ... ثم جاء أوان البدء في رواية (البرنسيس).
وهي تبدأ بظهور بديعة على المسرح أولا، وبعد فترة طويلة أظهر أنا ... فعكفت في غرفتي أعالج تهيئة وجهي بالميكياج وأنا أرتجف لوعة، وتملكني خوف أحسست معه كأني مبتدئ لم يعهد أضواء المسرح، ولم يبد أمام الجمهور من قبل. ثم أرهفت أذني منصتا لأقوال بديعة، أستشف أثرها في أفئدة الناس. وقد سرني أن وجدتها تمثل في إقدام وشجاعة، وكأننا على مسرحنا المعتاد في مصر. وكان أن ظهرت أنا أيضا متشجعا حتى أتممنا الفصل الأول بين عاصفة من التصفيق والهتاف، وامتلأ المسرح بالصحفيين والمهنئين، وغرقنا في لجة من القوم الذين أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم. وقد كان فخر أفراد الجالية السورية بإخوانهم المصريين لا يقدر. وانتهت الليلة ونحن نحمد الله كل الحمد، على ما أنعم علينا من توفيق حمل البرازيليين أنفسهم على تقديرنا ورفع شأننا.
فيفا ريحاني!
ارتفع شأننا بعد النجاح الذي لقيناه في (سان باولو)، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في نادي (سبورتنج كلوب)، الذي أنشأته الجالية السورية في تلك المدينة. ذلك أن النادي دعانا إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم، بين فريقه وفريق البرازيل ... وكان المتفرجون يزيدون على العشرين ألف متفرج امتلأت بهم جوانب الملعب. فما كدت وبديعة نظهر أمام هذا الجمع الحافل، لنأخذ أماكننا، حتى سمعنا هتافهم صاعدا إلى أجواء الفضاء (فيفا ريحاني) وفيفا معناها يحيا ... وأنت فاهم طبعا ...!
وقد قلت إن أسباب النزاع كانت متوافرة بين النزلاء السوريين وبين أهالي البلاد الأصليين، لتمكن الأولين من القبض على ناصية الحركة الاقتصادية والمالية دون الآخرين. ولذلك شاهدنا في ملعب الكرة قوة كبيرة من الجند كاملة السلاح، استعدادا لما عساه يحدث من احتكاك بين أفراد فريقي المتفرجين الذين عزل أحدهما عن الآخر، فجلس السوريون في ناحية والبرازيليون في الناحية الأخرى، ووضع بينهما فاصل من الجند المدجج بالسلاح حتى لا يغير أحدهما على الآخر، إذا ما توترت الأعصاب عقب هدف من الأهداف، أو إصابة لاعب من لاعب. على أن المعجزة التي تمت هي أنني كنت والحمد لله بمنجى من الأذى المتوقع، لأنني شملت برضاء الخصمين. وكنت بمثابة الضيف المرموق بعطف الفريقين.
ومن أمثلة الرضا التي حبانا بها الوطنيون في البرازيل، أن صحافتهم بعد أن شاهدت رواياتنا، عادت فأثنت على التمثيل بمستطاب الثناء، بعد أن كانت مقابلتها لنا قبل ذلك فاترة غير مطمئنة.
وفي فترة الاستراحة بين نصفي اللعب، أي (الهافتايم) بلغة الرياضيين، أو (الانتراكت) بلغتنا احنا يا ممثلين، عاد الهتاف يدوي (فيفا ريحاني)، وقد اشترك فيه الجميع حتى خلت نفسي رئيسا لجمهوريتهم، أو فاتحا لمالطة. أو على الأقل جبت الديب من ديله!!
واستؤنف اللعب، فهطل المطر مدرارا كأفواه القرب. أقول لك الحق دي فلسفة مني. لأن المطر كان مدرارا صحيح ... لكن مش كأفواه القرب. لكن نعمل إيه في فلاسفة اللغة، الذين يأتوننا بتشبيهات مش معقولة أولا ومستحيل تحصل ثانيا.
القصد يا سيدي نزل المطر كأفواه القرب وأمرنا لله، ومع ذلك ظل اللاعبون في تنافسهم دون أن يتوقفوا، مع أن الكرة كانت تعوم في بحر خضم.
وانتهى اللعب بفوز السوريين، ثم ابتدأت المعركة التي كان البوليس يخشاها. ومحسوبك وبديعة ومن معنا ... «فككان».
إلى ريو دي جانيرو
وبعد أن أحيينا ليالينا الأربعة في سان باولو، ألح الأهلون علينا في البقاء مدة أخرى. فحاولنا أن نجد ليالي خالية في أحد المسارح الهامة، واستطعنا بعد جهد أن «نربط» أربع حفلات أخرى، نالت من النجاح حظا لا يقل عن سابقتها.
وهنا كان الطمع قد فعل مفعوله في أحد أفراد الفرقة وهو (فريد صبري)، وقد كنت أمنحه في رحلتنا هذه مرتبا شهريا قدره ثلاثون جنيها مصريا، في حين كان يتقاضى في مصر حسبة «خمسة ستة جنيه».
رفع فريد راية العصيان، فجاء يملي شروطه قائلا إن مرتبه إذا لم يرفع إلى تسعين جنيها كما يرفع مرتب التوني إلى سبعين فإنهما سيضربان عن العمل!!
طيب واشمعنى يعني الفرق ده بينك وبين التوني؟ ولم لا تتساويان في المرتب؟
القصد؟ لم أجد مشقة في استمالة التوني إلى صفي، إذ كان من قدماء ممثلي فرقتي، وكان لين العريكة سهل القيادة. أما زميله الثائر فقد فضلت أن أقطع الصلة به، وأن أعيده إلى مصر قبل أن ينفث أفكاره في بقية الصحب الذين جمعتهم من بين هواة (سان باولو)، وسلمت فريد صبري حسابه، وفوقه حق «الشبرقة» كمان، وقطعت له تذكرة السفر إلى مصر، وودعته، واحنا من هنا وأنت يا بن الناس من هنا.
وقصدنا بعد ذلك إلى العاصمة (ريو دي جانيرو). وكانت الشهرة والصيت قد سبقانا إليها، ولذلك استقبلنا فيها استقبالا حافلا، ونجحنا في حفلاتنا الثمان التي أحييناها بتلك المدينة، وكان متوسط إيراد الحفلة الواحدة 500 جنيه.
وما كدنا ننتهي من هذه الحفلات حتى استدعينا ثانية إلى سان باولو، وهناك أقمنا حفلتين.
أنا سندباد بري إلى الأرجنتين
بعد أن انتهت حفلاتنا الناجحة في سان باولو، بدت لنا فكرة الرحيل إلى الأرجنتين، أي الجمهورية الفضية، ولكن وجدت مشكلة عويصة، هي التشديد المتناهي في الكشف الطبي على العيون قبل اجتياز الحدود، ولن يدخل البلاد شخص يثبت الطبيب وجود التراخوما في عينيه!
تتوسط جمهورية أرجواي جمهوريتي البرازيل والأرجنتين، وقد نصح لنا بعض الصحب ألا نقصد إلى هاتين الجمهوريتين رأسا، بل نمر بأرجواي أولا، وهناك نعمل على الاتصال بسوري كبير يشتغل في تجارة الحرير، وله في جمهوريات أمريكا الوسطى كلمة مسموعة ونفوذ طائل، وركبنا البحر إلى (مونتيفديو) في أرجواي، وفي المحطة التي رست فيها السفينة على الميناء كنت جالسا في صالون الدرجة الأولى بها، فسمعت أشخاصا يخترقون صفوف الركاب وينادون بأعلى أصواتهم: «سنيور ريحاني سنيور ريحاني». وما كدت أسمع النداء حتى اعتقدت أن هناك مكيدة دبرت لنا، وأنهم لا شك آخذونا من الدار إلى النار.
وجاءت بديعة وقد كسا وجهها الاصفرار، وكاد يغمى عليها.
وتقدمت من هذا المنادي متصنعا الشجاعة، (قال الشجاعة قال وأنا ركبي عاملة زي الشخشيخة!) وقلت: «هاأنذا». فابتسم الرجل وقدم نفسه إلي فإذا به صحفي عرف بمجيئنا فوصل ومعه المصورون لالتقاط صور لنا، وعمل أحاديث معنا! الله يغمك يا حضرة الزميل الفاضل (باعتباري الآن صحفيا ولو خارج الهيئة)، وأنت كركبت مصارين السنيور ريحاني!
نهايته كان عدد أفراد الفرقة ثمانية أشخاص بما فيهم أنا وبديعة، ولما كان كلانا في الدرجة الأولى فإننا لم نشعر بصعوبة كبيرة في إجراء الكشف، وأما ركاب «السكندو» فقد كانت الدقة رائد الطبيب عند توقيع الكشف. وكان من سوء الحظ أن تكون عينا محمود التوني موئلا بل مخزنا لحبوب «التراخوما»، فمنع من النزول إلى البر بتاتا. وبعد جهاد ومشاوير من هنا لهنا، صرح له على شرط السفر فورا إلى الأرجنتين دون تمضية وقت طويل في أرجواي.
لغاية هنا كويس، لكن إيه اللي رايح يوصله الأرجنتين يا نضري؟ ذهبنا لقطع تذاكر السفر بحرا إلى «بونس أيرس» فطلب منا مبلغ ثمانمائة جنيه كتأمين بمعدل مائة جنيه لكل شخص، حتى إذا ظهر أن شخصا واحدا مصابا بالتراخوما ضاع علينا المبلغ جميعه.
يادي الحوسه! ما هو ظهر معنا شخص واحد عنده تراخوما توزع على أورطه بحالها!
عملية تهريب
وعقدنا مؤتمرا منا ومن التاجر السوري الكريم، الله يمسيه بالخير، وفي هذا المؤتمر تفتقت الأفكار عن حيلة لطيفة هي أن تسافر بديعة بحرا مع الخمسة السليمين وبذلك نطمئن على استرداد التأمين، وهو في هذه الحالة ستمائة جنيه. أما أنا ومحمود فلنجتز الحدود سرا ولنغامر بالهرب على أن يعاوننا ذلك الشهم السوري وأعوانه.
وأقلعت السفينة ببديعة وبقية الفرقة. أما أنا والتوني فقد صحبنا رجل من قبل تاجرنا الكبير يحمل معه خطابا إلى رجل آخر في مدينة أخرى. وامتطينا قطار السكة الحديد، ومكثنا فيه ثلاثة أيام بلياليها نجوب مجاهل أمريكا، مجاهلها والله العظيم. وبلد تشيلنا وبلد تحطنا، وفي كل منها يسلمنا شخص إلى آخر وهذا يسلمنا إلى غيره. وفي كل مرة يصحبنا خطاب من محطة التصدير، إلى محطة التوريد! وكأننا بضاعة مهربة: كوكايين، هيرويين، حشيش، إلى آخر اللستة إياها.
وفي المرحلة الأخيرة، وبعد الليالي الثلاث، وصلنا محطة صغيرة على شاطئ نهر، وفيها نزلنا وأشار دليلنا بإصبعه إلى الشاطئ الآخر من النهر قائلا: «شايفين الكشك اللي هناك ده. أهو إذا نفدتم منه بقيتم في أرض الأرجنتين. ويبقى في إمكانكم تحطوا صوابعكم في عينين الجعيص، حتى لو ظهرت التراخوما في دمائكم مش بس في عنيكم!».
كلام طيب ... لكن ننفد من الكشك إزاي يا أخينا؟
اتكلوا على الله!
واتكلنا على الله. أمال حانتكل على مين؟ واجتزنا النهر في رفقة الدليل العزيز بعد أن نصح لنا بالجلد وتصنع الشجاعة حتى لا يبدو علينا خوف مريب. فقلت للتوني. «تشجع» فأجاب: «ما تخافش أنا قلبي جامد» وأبصرت فإذا هذا القلب «الجامد» وقد وصل في سقوطه جنوبا إلى كعب صاحبه. ومال دليلنا على حارس الحدود فتسارا قليلا ثم أفهمه أنني وزميلي صديقان له وأننا حضرنا لمشاهدة حفلات الكرنفال المقامة إذ ذاك في بلاد الجمهورية الفضية. وتنفسنا الصعداء أنا والتوني، وتملكنا في هذا الحين مرح كمرح الأطفال، فعدونا بأخف ما حملتنا أقدامنا إلى القرية كي نأخذ القطار إلى بونس أيرس، وتقدمت متلهفا إلى عامل الشباك أطالبه بتذكرتين إلى المدينة التي نقصدها، فنظر إلينا وهز كتفيه بابتسامة لم نفهم لها معنى وأخيرا قال: «متأسف جدا. لقد تأخرتم لأن القطار مر صباح أمس!».
صباح أمس! وما هو موعد القطار التالي إذن؟ ...
قال: «بعد أسبوع؟!».
أسبوع!؟ وتقولون إنكم في بلاد متمدنة؟ أسبوع يا بني آدم في قارة اسمها أمريكا؟!
دي أفريقيا على كده رايتها لبن يا أولاد العم سام! القصد. أصبحنا أمام الأمر الواقع. وما باليد حيلة. ولكن أين نقضي هذا الأسبوع. ونحن في قرية لا تزيد مساكنها عن مائة بيت؟
ولكن إذا نسيت كل شيء فلن أنسى اسم هذه القرية التي أرتني الويل وسواد الليل، اسمها يا عزيزي الفاضل، «سان جوزيه» وينطقون هذا الاسم في الأرجنتين «سان خوسيه».
بشرة خير
التفت إلي التوني وقلت له: «أين نمضي الأسبوع ده يا وله؟» ثم غادرنا المحطة، واجتزنا البلد كلها بيتا بيتا في حسبة خمس دقائق، وهنا أشير إلى ظاهرة غريبة، وهي أن السوريين في أمريكا الجنوبية كاليونانيين تماما في مصر. وأني لأذكر أن اللورد كرومر كتب في أحد تقاريره السنوية، حين كان عميدا لبريطانيا في مصر، جملة مأثورة ترجمتها «إنك لو رفعت حجرا في إحدى قرى الصعيد «الجواني» لابد واجد تحته بقالا يونانيا». ولو أن كرومر كان معنا لكتب جملته هذه عن إخواننا السوريين في البرازيل والأرجنتين.
وفي أثناء اجتيازنا للشارع الوحيد في «سان خوسيه» هذه قابلنا رجل تفرس في وجوهنا. وكلمة من هنا وكلمة من هنا، حصل التعارف. إنه سوري يسكن في سان خوسيه، بشرة خير. قادنا إلى فندق البلدة، آل فندق آل، إنه بيت به حجرة أرضية هي اللوكاندة! وفي هذه اللوكاندة، أو الحجرة بمعنى أصح سرير واحد وكنبة! وبس والله العظيم، أما الأرضية فطبقات من التراب بعضها فوق بعض، وكذلك الحال في السرير حتى لقد ظننت أنهم في كل يوم «يتربونه» لا ينظفونه!
كنت أحمل في هذه الأثناء مبلغا يربو على الألف وخمسمائة جنيه! جلست فوق السرير المترب العالي والتفت خلفي فإذا نافذة خشبية يستطيع الواقف في الخارج أن يمد يده منها ويخطف الفلوس. وإذا ساقه الشر، فيمكن أن «يخطف» روحي كمان من غير إحم ولا دستور، إذ لا يكلفه الأمر سوى تناول زمارة رقبتي وضغطها بإحدى يديه. ويا لوكاندة ما دخلك شر!
لعب الفار في عبي، فجمعت مجلس شورى القوانين، المكون مني أنا رئيسا، ومن محمود التوني سكرتيرا وأمينا للصندوق وأعضاء كمان. وتباحثنا في الأمر واستقر رأينا على أن نقتسم النوم بيننا، فأنام ليلة يسهرها هو كنوبتجي يحمل النقود بين يديه بينما ينام هو في الليلة الثانية واحتل أنا مكانه ... وهكذا دواليك!
دواليك دي مش على مزاجي أبدا، لكن استحملها مني الله لا يسيئك! القصد أمضينا ليالي هذا الأسبوع الذي طال وكأنه عام، أمضيناه زي ما أمضيناه والسلام. وجاء القطار بعد ذلك يتمخطر، فركبنا إلى بونس أيرس حيث تنتظرنا بديعة مع بقية «الشلة».
إلى بونس أيرس
ويغادر هذا القطار محطة «سان خوسيه» في الساعة الثانية بعد الظهر ويصل إلى بونس أيرس في الثامنة من صباح اليوم التالي. جلسنا في أحد صالونات القطار. وحين أرخى الليل سدوله - شايف إزاي بنعرف نتفلسف ونقول سدوله - حين أرخى الليل سدوله جعلنا الصالون عربة نوم. لأن المقاعد تحول أسرة حسب النظام المتبع في هذه القطارات.
وأستطيع أن أقول إننا هنئنا حقا بالنوم في القطار، بعد أن استرحنا من نظام النوبتجية الذي لازمنا ست ليال سويا. إلا أن شيئا غريبا وغريبا جدا لاحظته!
حوالي الساعة الثالثة صباحا - في دغششة الفجر يعني - صحوت من النوم فلم أسمع صوت القاطرة. فظننت أن القطار وصل إلى إحدى المحطات، ونظرت من النافذة فإذا المياه تغمرنا من الناحيتين! ...
أيقظت التوني وسألته: «إحنا يا وله وقت ما نمنا كنا راكبين وابور بحر والا وابور بر؟» فدهش لهذا السؤال وأطل هو الآخر من النافذة قائلا: يا خبر أبيض نكونش غرقنا. والا متنا وجم الملايكة يحاسبونا؟! تملكتنا الحيرة حقا. ورحنا نسعى بالسؤال إلى أن عرفنا السبب فبطل العجب. هناك نهر كبير يجتازه القطار، لا بواسطة كبرى كما هو الحال عندنا وعند غيرنا من عباد الله في جميع بلاد الدنيا، بل بواسطة صنادل يضعون عربات القطار فوقها بالقطاعي، وتسير الصنادل فتنقل العربات من شاطئ إلى شاطئ، دون أن يشعر الركاب بهذه العملية على الإطلاق! والله عشنا وشفنا!
خلصنا على كده ونقلت شحنة القطار إلى البر الثاني، وواصل سيره إلى بونس أيرس. وقبل أن نصل إليها بساعتين أو يزيد خرج بسلامته سي محمود التوني يتمشى في ردهة القطار، ويتعاجب اسم الله بشبابه وسحنته الرمادي إياها. أنا عيني بترف يا أخواتي ... لازم الواد الملعون ده مش راجع إلا لما يجيب لي مصيبه وياه!
في هذه الأيام كانت هناك خلافات ومشاحنات سياسية بين البرازيل والأرجنتين. وكانت هذه المشاحنات قد كهربت الجو بين أهالي البلدين، وكثرت العيون والأرصاد في قطارات السكة الحديدية، إذ جندت الأرجنتين كثيرين من المخبرين وخصصتهم للخدمة في القطارات.
قابل التوني في طريقه أحد جرسونات القطار فجرى بينهما حديث. والتوني الله لا يكسبه يعرف له كلمتين ثلاثة إسبانيولي: سأله الجرسون: «حضرتك برازيلي؟» وأجاب التوني متعنطزا: «لا فشر أنا شمالي!» آل يعني أمريكاني أصلي من الولايات المتحدة. ولم يدر العبيط أنه زاد الطين بلة.
عاد إلي حضرته شامخا يقص حديثه مع الجرسون، فقلت: «بس والله وديتنا في شربة ميه يا سي التوني. يعني مش كفايه ان التراخوما بتعتك تشحططنا الشحططة دي وتلففنا في المجاهل اللي ما قدرش خريستوف كولومب يوصل لها. وفي الآخر كمان تسلط علينا فلسفتك تخرب بيوتنا!؟».
لم أكمل هذا الحديث حتى فتح باب الصالون «خواجة» طويل عريض وطلب منا أوراقنا!
مشكلة!
أوراقنا!! والله جالك الموت يا توني أنت ونجيب!! هو احنا يا حسرة معانا أوراق؟ ... داحنا تفليتة، وهربونا أولاد الحلال. ونظر إلي التوني وأراد أن يمدني بشعاع من عبقريته. فوضع يده في جيبه وقال لي بالعربية: «طلع الباسبورت وحطه في عينه كمان». وسارعت لاعنا أبا خاشه قائلا له: إوعى تعملها يا ابن الفرطوس، أحسن نروح في داهية. هي الباسبورتات بتوعنا عليها تأشيرة بدخول الأرجنتين يا مفش، واقتنع التوني بقولي فأخرج يده من جيبه من غير باسبورت ولا دياولو وتشجعت ثم قلت لهذا الخواجة: «ليست معنا أوراق باسبورت لأننا لسنا آتين من الخارج، بل كنا نزور صديقا لنا في «سان خوسيه» ونحن عائدون الآن إلى بونس أيرس، وإذا شئت برهانا على قولي فانتظر حتى نصل إلى العاصمة، وهناك ترى زوجتي وابنتي ينتظراني على الرصيف. وظللت أتلطف مع صاحبنا هذا وأداري سوأة التوني إلى أن وصلنا بالسلامة، دون أن يفارقنا مخبر الهنا. وكانت دهشتنا عظيمة حين رأيت بديعة وجوجو والبقية المحترمة، وقد أحضروا معهم جوقة موسيقية، تقول لجوقة حسب الله قومي وأنا أقعد أزمر مطرحك وهات يا طبل وهات يا عزف. وكان استقبالا فخما لم يستطع معه مخبر الأنس أن يقول لي تلت التلاتة كام. وكانت بديعة قد أعدت معدات العمل، واستأجرت المسرح الذي نعمل به، فلما حان موعد التمثيل، لم يتملكنا شيء من الاضطراب الذي شعرنا به في أول مرة بسان باولو، بل ظهرنا بقلب جامد، ونجحنا نجاحا «جامدا» كذلك. وطنطنت الصحف هناك بالفرقة وأفرادها ومقدرتهم التمثيلية، وخلعت علي لقب «برافتشيني دلاكايرو» أي برافتشيني بتاع القاهرة. وبرافتشيني هذا، هو ممثل من أساطين الفن في تلك البلاد.
العودة إلى مصر
كانت محبة إخواننا السوريين لي وللفرقة طوال المدة التي تنقلنا فيها بأمريكا الجنوبية مما يجل عن الوصف. أحيينا أربع ليال في بونس أيرس كان النجاح فيها حديث الجميع، ثم زرنا مدن روساريو وقرطبة وتوكومان. وهناك كنت أنشر الخريطة بين يدي، وأضع إصبعي عند المكان الذي نحن فيه ثم أنقله إلى موقع مصرنا المحبوبة، فأقول ... إحنا فين وأنت فين يا حبيبتي يا مصر؟ وهل يكتب الله لنا أن نعود إليك في سلام وخير؟ بعد اجتياز هذه المجاهل التي ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف؟!
وبعد ذلك عدنا إلى بونس أيرس مرة أخرى، ومثلنا بعض الروايات. والغريب أن الجمهور كان لا يكاد يسمع صوتي من بين الكواليس قبل الظهور على المسرح، حتى يصرخ مصفقا، وكأننا نمثل بين جمهورنا المحبوب في مصرنا العزيزة.
رحلات مختلفة
بعد أن أنهينا عملنا في بلاد الجمهورية الفضية (الأرجنتين)، عولنا على العودة من نفس الطريق، ولنأخذ الخط إيابا كما قطعناه ذهابا، فنزلنا أولا في أرجواي، وهناك أحيينا حفلتين في (مونتفيديو)، ثم قصدنا إلى البرازيل، فلما حططنا الرحال في عاصمتها (ريودي جانيرو)، وجدنا ترحيبا لا داعي لوصفه، ووجدنا كذلك رغبة من الجمهور في معاودة التمثيل، فوافقت هذه الرغبة هوى في نفوسنا، ولم نتردد في القبول، وفي مدينة ريودي جانيرو تياترو اسمه المسرح الإمبراطوري، لم أجد له مثيلا في أية ناحية من نواحي العالم، لا سيما في اتساعه وكثرة مقاصيره ومقاعده، ذلك الاتساع الذي تأكدنا لأول وهلة أن الجماهير مهما احتشدت فلن يمتلئ بها أبدا.
استأجرنا هذا التياترو، وقلنا إننا نحسد إذا استطعنا أن نجد متفرجين يملئون ربع مقاعده. فلما جاء يوم الشباك، وذهبت في الساعة الثامنة صباحا لأسلم التذاكر لعامل الشباك، راعني أن أجد زحاما لم يسبق لي عهد به، لا في تلك المدينة حين نزلناها أول مرة، ولا في غيرها من المدن التي ارتدناها.
مفاجأة!
وقبل الغروب قصدت إلى التياترو فآلمني أن أجد ساحته أفرغ من فؤاد أم موسى. يا لله أين ذهب القوم الذين احتشدوا صباحا؟ وهل كانت مجرد مظاهرة قاموا بها ثم «افرنقعوا بعد أن تكأكئوا على المسرح كتكأكئهم على ذي جنة»!!
شايفين الجملة يا خلق؟ أهو كل يوم من ده. أما أشوف بقى أنا والا المجمع بتاعكم!! القصد نرجع إلى لغتنا العربية المفهومة، فأقول إنني أخذت بحالة الهدوء السائد حول المسرح، وقلت والله باين ختامه قرف وليس مسكا! فلما وصلت إلى شباك التذاكر للاطمئنان على الحالة، لم أجد العامل في مكانه، بل وفوق ذلك وجدت الشباك مقفلا!!
يا دي الوقعة اللي زي بعضها يا عالم!! إيه الحكاية؟ وما التدبير وما العمل؟ على رأي المرحوم الشيخ سلامة حجازي!؟ أخيرا عثرت بعامل الشباك في مقهى مجاور للتياترو!! أنت فين يا بني؟ وهل ده وقت قعدة القهوة؟ وكيف تقفل الشباك في مثل هذا الوقت، ثم تأتي للسرمحة والقنزحة والمش عارف إيه؟؟ وبكل ثبات أجابني العامل: «لقد أقفلت الشباك بعد أن انتهت مأموريتي، لأن جميع التذاكر قد نفدت!!».
نفدت ... نفدت؟ وأظن يا إخواني لو جمعنا سكان البرازيل، واستلفنا عليهم كبشتين تلاته من سكان الأرجنتين وأرجواي، يمكن ما يملوش التياترو!! القصد. جاء أوان التمثيل فنظرت من خلال فجوة صغيرة في الستار، فرأيت الجماهير كالنمل الزاحف، والمقاعد ليس بينها واحد خلا من صاحبه. ونجحنا بحمد الله، ثم اتخذنا طريقنا إلى سان باولو، حيث حالفنا النجاح كذلك، وواصلنا طريق العودة إلى أوربا، بعد أن مكثنا عاما بأكمله في ربوع أمريكا الجنوبية والسفر منها وإليها.
في باريس
وعرجنا على باريس، وأخذت معي كذلك محمود التوني، على سبيل أن نتفرج ع الدنيا!! إلا أن الدنيا التي قصدناها كانت أبعد شيء عنا، إذ أمضينا في باريس خمسة عشر يوما، لم نزر خلالها متحفا ولا رأينا مسرحا، بل كان همنا كله البقاء في جاليري لافاييت. فقد كنا نقصد إلى هذا المحل يوميا من التاسعة صباحا إلى الثامنة مساء، لنشتري كل ما طاب لنا من ملابس، وما راق لنا من أدوات وكماليات. وكم مرة اتفقنا على قضاء السهرة في دار السينما أو في مسرح معين، حتى إذا حان الحين كان التعب قد تملكنا، ولا نجد إلا أن نتخذ سبيلنا إلى الفندق لننام، كي نستأنف في اليوم التالي زيارتنا المعتادة لجاليري لافاييت.
عدنا من أمريكا بمبلغ يزيد على ألف جنيه. وقد تسألني كيف يقف الإيراد عند هذا الحد الضئيل، إذا ما قيس بالنجاح المتواصل الذي نجحناه، فأجيبك بأن العام الذي قضيناه في أمريكا لم تتح لنا الظروف أن نعمل فيه أكثر من نيف وثلاثين ليلة، وما ذلك إلا لمصادفة عدم خلو المسارح أثناء وجودنا في بعض المدن التي حللنا بها. ولولا ذلك لبلغت مكاسبنا أضعاف أضعاف ما عدنا به. قلت إننا تركنا أمريكا وفي حوزتنا ألف وبعض ألف من الجنيهات. وقد كانت الأيام الخمسة عشرة التي قضيناها في باريس، بل قل في جاليري لافاييت، كفيلة بالتهام هذا المبلغ إلى آخره. بحيث لم يبق معنا أجر العودة إلى مصر، مما اضطرنا إلى أن نرسل إليها في طلب ذلك الأجر تلغرافيا. وقد كان فوصلنا بطريق البرق مبلغ مائة جنيه.
نقول إن جاليري لافاييت التهم كل ما كان معنا، فقد انفتحت أنفسنا لشراء كل ما وقعت عليه أنظارنا سواء من الملابس أو الموبيليا، حتى لكأننا كنا نلم في آخر زادنا.
وأخيرا ... في مصر
فلما وصلنا ثغر الإسكندرية وجدنا الأستاذ أمين صدقي ويظهر أنه كان على نار في انتظارنا ... إذ عرفنا منه أن خلافا دب بينه وبين شريكه الأستاذ علي الكسار، وأنهما فضا الشركة التي كانت قائمة بينهما، ولذلك فإنه يرى أن أتفق وإياه في عمل متحد. ولم أمانع في تلبية هذه الرغبة، فألفنا فرقة للعمل في دار التمثيل العربي. وكان لواء البطولة النسائية فيها معقودا على هامة بديعة مصابني والمطربة فتحية أحمد، أخرجنا رواية «قنصل الوز» وعقبها رواية «مراتي في الجهادية»، وهنا دب شقاق بيني وبين بديعة، وإنني وإن كنت لا أجد معنى للتوسيع في تبيان ما وراء هذا الشقاق، إلا أن ذلك لا يحول دون ذكر منشئه ... ولو من باب تسجيل الواقع إن لم يكن من باب التفكه، فقد كان سبب غضب بديعة مضحكا حقا!!
في أثناء رحلتنا الأمريكية، كنت أنتهز فرصة الخلو من العمل في ساعة الظهيرة مثلا، أو بعد التمثيل مساء، فألعب «برتيتة» بلياردو. إلا أن ذلك لم يكن يرضي بديعة، فكانت تغضب وتكثر من الشكوى وترميني بالإهمال الشنيع. ولا تنسى وهي تشكو للأصدقاء وغير الأصدقاء أن تقول لهم كبرهان على إهمالي ... جملتها المأثورة: «دا مهمل خالص يا اخواني ...! دا بيلعب بلياردو يا عالم» ... تقولشي يعني البلياردو ده منكر!! أو حرمه ربنا ... وغضبت عليه الملايكة؟ وأنا خلقت عنيدا وإن كنت في دخيلة نفسي أكره هذا الخلق ... ولكن ما حيلتي وقد تكونت هذه الخليقة معي؟ نهايته امتلأ رأس بديعة بفكرة واحدة ... وهي أنني مدمن إهمال!! طبعا إذا كنت بالعب بلياردو ... لأ ومش بس كده، وباشرب سجاير كمان. ما علينا. بعد أن أخرجنا روايتي «قنصل الوز» و«مراتي في الجهادية» تركت الفرقة تعمل لحساب أمين صدقي في دار التمثيل العربي بعد أن أمضيت في العمل فيها شهرين.
برنتانيا أيضا
في هذه الأثناء كان زميلي الأستاذ بديع خيري يؤلف لفرقة الأستاذ علي الكسار، فعدنا إلى الاتفاق من جديد، ثم جاءني الحاج مصطفى حفني وألح في أن أستأجر مسرحه (برنتانيا).
ولما كنت أعتقد أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فقد تشددت في أن ينص في عقد الاتفاق على غرامة مائتي جنيه، يدفعها الطرف الذي يقف دون تنفيذ أي شرط من شروط التعاقد. ومع ذلك فإنه لم تمض على إمضاء هذا العقد عدة أيام حتى جاءني الحاج مصطفى يتدثر بثوب من الخجل، يحمل في إحدى يديه العربون الذي تقاضاه مني وفي اليد الأخرى الغرامة المتفق عليها وهو يرجو ويسرف في الرجاء.
الله إيه الحكاية يا حاج مصطفى؟
الحكاية أن الست منيرة عاوزه التياترو وجابت لي ناس جامدين فاضطررت أن أكتب معها كنتراتو!!
شيء جميل قوي يا سي الحاج!!!
أخيرا أشفقت عليه، ولم أر أن أعامله بأفعاله، فأحللته من العقد، وتناولت العربون والغرامة التي اعتبرتها حصة من بضاعتنا ردت إلينا.
ولعل القارئ العزيز لم ينس بعد حكاية الملابس والمناظر التي استولى عليها الحاج مصطفى، بحجة سداد ديون ما أنزل الله بها من سلطان. وفي هذا الحين وقع ما كان يخشى من سوء التفاهم الذي استحكمت حلقاته بين بديعة وبيني فافترقنا.
وبحثت عن مسرح آخر غير مسرح برنتانيا. فلما أعياني ذلك فكرت في إنشاء مسرح خاص.
كانت تقع في ملتقى شارعي عماد الدين وقنطرة الدكة قهوة اسمها «راديوم». وكان إلى جانبها صالة تحمل الاسم نفسه، وكانت ملاصقة لتياترو «رمسيس»، فاستوليت على هذه الصالة وأنشأت في مكانها «مسرح الريحاني». وبينما أنا أفكر في تأليف فرقتي، هبط علي الزميل القديم علي يوسف، وأفهمني أن ممثلي فرقة الأستاذ يوسف وهبي متذمرون، وأنهم جميعا راغبون عن العمل معه، ولذا اعتزموا الاستقلال دونه بفرقة شرعوا في تأليفها بعيدا عنه. ثم اقترح أن أضم شملهم لأظهر في الدرام بدل الكوميدي.
وأخيرا - وبعد تردد وتفكير - اقتنعت باقتراح السيد علي يوسف وشرعت في التنفيذ، ولاسيما أنني بعد الخلاف مع بديعة هبط اعتمادي على نفسي، وشعرت أنني في حاجة إلى عون قوي أستند إليه في ملاقاة الجمهور. وكانت بديعة في هذا الحين قد استأجرت صالتها المعروفة في عماد الدين.
فرقة دراماتيكية
ألفت فرقتي الجديدة من السيدات: روز اليوسف، وعزيزة أمير، وزينب صدقي، وسرينا إبراهيم، وماري منصور، وغيرهن، والأساتذة: حسين رياض، ومنسي فهمي، وحسن فايق، وأحمد علام، ومصطفى سامي، وجبران نعوم، ومحمود التوني، وغيرهم. وقبل أن أدخل في شرح ما انتابني في هذا المشروع من نكبات ومصائب أقول إنني بدأت في بناء التياترو في أغسطس من عام 1926، وفي الوقت نفسه ألفت الفرقة ولم نبدأ التمثيل إلا في شهر نوفمبر، أي بعد ثلاثة أشهر، كنت أدفع فيها أجور الممثلين، وغير ذلك من مصاريف البناء والتأثيث، وأثمان المناظر والستائر والملابس وما إلى ذلك مما أوقعني في ضائقة مالية.
وأوجدت إلى جانب الفرقة قلما خاصا لانتقاء طائفة من أهم الروايات العالمية، ونقلها إلى اللغة العربية. وقد أدى قلم الترجمة هذا واجبه، وترجم حوالي الاثنتي عشرة قصة من روائع الأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والروسي. كما أن الأستاذ جورج مطران شقيق شاعر الأقطار العربية خليل مطران، قدم إلي ترجمة للرواية الخالدة (النسر الصغير)، تحملت في مدى الأشهر الثلاثة التي أجرينا فيها البروفات الكثير من دلع السادة الممثلين والممثلات، وأرهقتني طلباتهم التي لا مبرر لها، ورأيت من فعالهم وتعنتهم ومرمطتهم لي الشيء الكثير. ومع ذلك سايرتهم، ولم أتردد في إرضائهم، ورجلي على رقبتي !!
يا خسارة
ولم أكن أدري ما بيتوا لي من غدر وسوء. إذ أنه حين اقترب يوم البدء في العمل، وبعد أن أعددنا ست روايات للظهور، تسلل الممثلون واحد إثر الآخر من الفرقة، وعادوا إلى فرقة رمسيس دون إنذار سابق، ودون أن يتركوا لي مهلة البحث عن غيرهم. في حين أنني كنت قد أسندت إليهم أهم الأدوار في الروايات الست التي أعدت للعرض على الجمهور وبذلك راحت البروفات «هدر» ويا خسارة يا مال الناس!!
جاهدت بكل ما لدي من قوة، وما وصل إلى يدي من مال. فبدأنا عملنا في نوفمبر برواية «المتمردة»، وأعقبناها برواية «مونا فانا»، ثم مثلنا روايتي «اللصوص» و«الجنة».
وهنا خارت عزيمتي وانهدت قوتي، ولم أعد أحتمل آثار الأسلحة الدنيئة التي حوربت بها. وكنت أظن أن سوء الحظ وحده هو الذي ساقني إلى ما وصلت إليه من هبوط.
الفصل التاسع
عودة إلى: كشكش بك
ديون وحملات
بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف ومائة جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة، التي سلطت علي رعاياها المحترمين، فسلقوني بقارص الكلم وبألسنة حداد. وهل يوجد أطول من ألسنة رعايا صاحبة الجلالة؟ ولا مؤاخذة أيها الزملاء الأعزاء! فواجبنا نستحمل بعضنا ... وإذا كنت قد انقرصت من حضرتكم شهورا وأياما، فاغفروا لي فرصة واحدة متواضعة أرد بها التحية ع الماشي!
كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدرام من غير إحم ولا دستور.
ولكي أعطيك عينة بسيطة أروي القصة الطريفة التالية:
تقدمت إلي إحدى ممثلات الفرقة، وطلبت أن تشتري لحسابها حفلات أسبوع كامل. فقبلت عن طيب خاطر. وبعد إحياء تلك الحفلات جاءتني ساخطة لأنها خسرت 35 جنيها! طيب يا ستي قسمتك كده، نعمل إيه في النحس المجوز على حضرتك وعلي أنا كمان؟ قالت: «لا يا سيدي، فيه طريقة» ... طيب اتفضلي بالأمر وأنا طوع الإرادة.
نهايته، اتفقنا على أن تستأجر أسبوعا ثانيا بمبلغ مائة جنيه كي تسترد خسارتها، ثم أعطتني خمسة وستين جنيها وحصلت مني على إيصال بتسلم مائة! وما قبلت توقيع مثل هذا الإيصال، إلا تحت ضغط أقساط الممثلين المطلوبة ومصاريف التياترو وغير ذلك من الرزايا.
وبعد مرور أيام من أسبوع الممثلة، كانت الروح قد بلغت الحلقوم. فلم أستطع الاستمرار في العمل، واضطررت لحل الفرقة بعد أن تقدمت للست صاحبة الأسبوع بما دفعت، وهو الخمسة والستون جنيها. ولكن بسلامتها أبت استلام المبلغ بحجة أنها دفعت لي مائة جنيه لا 65، وحتى إذا ما كنتش مصدق، الوصل آهه! آه ... والله طبيت يا أنس!
لم يكن لدي المبلغ بأكمله بالطبع، وما شعرت في اليوم التالي إلا ببلاغ مقدم من حضرة الممثلة المصونة والجوهرة المكنونة، تتهمني فيه بالنصب والاحتيال والاستيلاء منها على 100 جنيه «جنيه ينطح جنيه». وقد تطوعت جريدة «المقطم» الله يمسيها بالخير ولا يوريناش فيها مكروه ... تطوعت برواية الخبر على هذا النحو الطريف الخفيف الذي صورتني فيه تصويرا يبعد عن الواقع بعد الخيال عن الحقيقة.
استطاعت الست الممثلة أن تحصل على وساطات كادت توديني في شربة ميه! ولولا دقة النائب العمومي في ذلك الحين وهو المرحوم طاهر نور، لتحلت يداي بالأساور الحديدية المعدة للسادة اللصوص وقطاع الطرق. نعم لقد كتب السيد أحمد شرف الدين خطابا إلى المرحوم طاهر نور شرح فيه الحقيقة، فقرر الإفراج عني، وكنت قد جمعت من هنا ومن هناك الخمسة والثلاثين جنيها التي كمل بها مبلغ المائة جنيه وسلمته إلى الست الشاكية. وبذلك تقرر حفظ بلاغها.
وبعد، أليست هذه طريفة من الطرائف؟؟ أليست عينة من عينات الاعتراف بالجميل عند كثيرين من عابري سبيل هذه الحياة الدنيا؟
ولماذا أضع أمام عينيك سيدي القارئ عينات أو ما يشبه العينات؟ إنه يكفي أن أقول لك إنني منذ اليوم الأول من شهر يناير، إلى اليوم الآخر من ديسمبر سنة 1927، لم أكن أصل إلى شباك التذاكر، حتى يطالعني العامل بورقة حمراء لدفع كمبيالة للبنك، أو إعلان لحضور جلسة، أو بروتستو أو إعلان حجز أو بيع ... يعني أن سنة 1927 التي مرت على الناس بسيطة كانت على دماغ العبد الله كبيسة بشكل ... الله لا يوري عدو ولا حبيب!
وفي شهر فبراير من العام المذكور اجتمع حضرات الدائنين الأماجد، وأنشئوا ما يشبه نظام صندوق الدين، وانتخبوا من بينهم السيدة «ك» لتكون بمثابة متصرفة، أو قيمة، أو وصية على العبد لله، فكانت تعطيني في مساء كل يوم سبعين قرشا فقط لمصروفي، ثم تجمع بقية الإيراد لنضعه في الصندوق لحساب الدائنين وكل سنة وأنتم طيبين؟
عودة إلى كشكش
وسدت السبل في وجهي من كل ناحية، فلا أنا واجد إنصافا من الناس، ولا عرفانا بالجميل ممن كانوا حولي. وفيما أنا على تلك الحالة زارني أحد دائني وتحدث إلي، لا في طلب ماله، بل في نصيحة رأيت أن أعمل بها. ذلك أنه قال لي: «قوم حط دقنك وألبس جبتك وقفطانك يا سي كشكش، وأنت تلقى الفلوس هلت عليك تاني يا أخينا!».
ودارت في مخي هذه النصيحة، واحتلت جوانب رأسي وإن كنت واثقا أن مصدرها لم يكن حب الخير للخير، بل لحصول الدائن على دينه! وفيها إيه يعني؟ ما تجرب حظك تاني يا وله!
وفكرت في زميلي القديم بديع خيري. فرأيت أننا إذا افترقنا حل البؤس والشقاء بكلينا، وإذا اجتمعنا كان الخير في ركابنا وضحكت الدنيا لنا. فلماذا لا نضم الشمل ونشترك في زغزغة الدنيا مع بعض ... يمكن ربك يفرجها؟
ووضعت يدي في يد الصديق العزيز بديع ثانية، واستأنفنا العمل معا بعد أن درسنا نفسيات الجمهور وعرفنا النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضاء منه.
أعددنا رواية استعراضية خفيفة اسمها (جنان في جنان) عهدت في وضع رسوم مناظرها إلى الرسام الشهير (لومباردي) ثم ألفت الفرقة الجديدة وكان من أعضائها كمال المصري (شرفنطح) والقصري وحسين إبراهيم والتوني وجبران نعوم والفريد حداد وسيد سليمان. واخترت لإدارة المسرح الإداري الحازم الأستاذ محمد شكري، ولم يكن في هذا الحين قد حصل على لقبه الحالي (بابا) فلما ناله بجدارة عرف كيف يكون حازما حقا وكيف يحمل الكل على احترامه بحيث لم يكن أحد يجسر على الضحك «على بابا»!
أما الممثلات فقد تخيرتهن جميعا من الأجنبيات. وأخرجنا بعد «جنان في جنان»، روايتي «مملكة الحب» و«الحظوظ» وفي أثناء عملنا في رواية (الحظوظ)، تقدمت لي فتاة يونانية خفيفة الروح، كانت تتكلم العربية بطلاقة وبلهجة رائعة، فضممتها إلى الفرقة، وأسندت إليها دورا في الرواية أدته كما يجب، ثم تدرجت في طريق النجاح، إلى أن اشتهر اسمها بعد ذلك، وعملت في فرق أخرى غير فرقتي، وهي الفتاة كيكي.
كانت الفرقة مشاركة بيني وبين مدام مارسيل لانجلو كما ذكرت قبلا وكان وكيل مارسيل المفوض هو المسيو أصلان عفيف.
رحلة فنية
وكان المرحوم الشيخ عبد الرحيم بدوي (صاحب مطبعة الرغائب) دائم الاتصال بنا، وكثيرا ما كان يأتي إلى المسرح، فيداعبنا بلغته «الصعيدية» القحة ونداعبه نحن بالمثل. وفي إحدى الليالي عرض علي أن يستأجر الفرقة لمدة شهر، تقضيه في رحلة تنتقل في أثنائها بالمدن والبنادر في بعض مديريات القطر، فأحلته على الخواجة أصلان عفيف لوضع شروط الاتفاق وإمضائها. فقصد إليه وانتهى الأمر بينهما على إجابة تلك الرغبة. وجاءني أصلان وحده ومعه (الكونتراتو) وهو يبتسم ابتسامة المنتصر الظافر، واطلعت عليه فإذا به يقضي بأن يكون إيجار الليلة الواحدة خمسة وثلاثين جنيهات خلاف أجر الفنادق ومصاريف السفر بالقطارات والسيارات والعربات وشحن الملابس والمناظر، فإن الشيخ عبد الرحيم بدوي هو الذي يتحملها. الله يسامحك يا أصلان يا عفيف! خربت بيت الراجل الطيب في شربة ميه!! قمنا بالرحلة وانتهى بنا المطاف في الإسكندرية بعد قضاء الشهر في المدن والأرياف، وجاءني المرحوم الشيخ عبد الرحيم «يوحوح»، بعد أن خسر الجلد والسقط والكوارع كمان، وهو يقول: «كده يا ريحاني تخربوا بيتي الخراب المستعجل ده (بتعطيش الجيم)» ... قلت وأنا مالي بس يا عم الشيخ عبد الرحيم، مين اللي قالك تتفق الاتفاق المقطرن ده، عليك وع الخواجة أصلان يمكن يرق قلبه لحالك! لكن هو مين؟ دا أصلان يا عم والأجر على الله.
أول محاولة للاقتباس في كازينو سان استفانو
وفي الإسكندرية تركت الشيخ عبد الرحيم كما تركت الفرقة لأصلان ولمدام مارسيل يعرفوا شغلهم بها. وانتقيت أربعة خمسة ممن أثق بهم من الممثلين، واتفقت مع إدارة كازينو سان استفانو برمل الإسكندرية، على أن نعرض روايات قصيرة في كل مساء على المصيفين والرواد. القصد حاجة ناكل منها عيش والسلام. كان الإيراد بسيطا على كل حال، ولكني استطعت في هذه الآونة أن أتعرف على كثيرين من الكبراء أمثال المغفور له حسين رشدي (باشا)، وحلمي عيسى (باشا)، وغيرهما من أكابر نزلاء الكازينو ومن الوزراء العاملين والسابقين. وهؤلاء راقهم ما كانوا يشاهدونه من تمثيل الفرقة أو «الفريقة»، فطلبوا من مدير الفندق أن أكثر من عرض هذا النوع، وكان المدير مسرورا جدا حين نقل لي هذه الرغبات، التي فتحت نفسي ونشطتني في عملي. وقد أردت يوما أن أختبر مكانتي عند هذا المدير، فأطلعته على رغبتي في العودة إلى القاهرة، ولكنه أصر على البقاء، وألح في الرجاء، فقبلت بعد تردد! وأقصد بعد تصنع التردد لأننا يا حسرة كنا نيجي مصر نعمل إيه؟ والدنيا صيف والبلد مشطبة والتياترات قاعدة تنش ... أقول بعد محادثتي مع المدير، عرض علي أن أنزل بالفندق (يعني بسان استفانو) ولم ينتظر مني مدير فندق سان استفانو جوابا، بل تناول التليفون وطلب وندسور، ورجا أن ترسل في الحال حقيبتي، وعزالي، ومعها فاتورة الحساب!
وفي اليوم نفسه كنت أحتل غرفتي الجديدة في سان استفانو العظيم، كما يفعل العظماء والوارثون ... وما فيش في جيبي ولا مليم.
ازدادت حركة العمل في الكازينو، وازداد إقبال المتفرجين من الطبقات العليا من رجال وسيدات.
فرقة فاطمة رشدي
وبعد أن قضيت أياما في كازينو سان استفانو على خير، وعدت إلى القاهرة، علمت أن خلافا حادا وقع بين السيدة فاطمة رشدي وفرقة الأستاذ يوسف وهبي، على أثر مشادة بين الأولى وبين السيدة زينب صدقي التي عملت أظفارها في عنق فاطمة ووجنتيها.
وكان ما كان من زوبعة الأستاذ عزيز عيد ضد الفرقة، وخروجه منها متضامنا مع فاطمة، لأن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. والدم الذي أراد إراقته عزيز هو «خرشمة» فرقة يوسف وبهدلتها، ويمكن فركشتها كمان: ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ هو تأليف فرقة على رأسها فاطمة تقول لفرقة رمسيس: اقفلي والبركة في أنا! ووقع اختيار فاطمة وعزيز على مسرح الريحاني كي يؤديا فيه رسالة الفن ويسويا الهوايل.
ولست أريد الإطالة في ذلك ولا شرح الهوايل التي «سويت» وإنما أكتفي بأن أقول إننا اتفقنا على أجر قدره أربعة جنيهات مصرية كأجر يومي للتياترو، وقد مكثت هذه الفرقة تعمل على مسرحي أكثر من شهر ونصف شهر. وإذا كان القارئ الكريم قد تناول منها أجر يوم واحد، أكون أنا تناولت كذلك. لكن ماعلهش ... كله عند الله! ومن قدم خير بيداه التقاه!
وفي نوفمبر من عام 1927 ألفت فرقتي ثانيا، وبدأت موسما جديدا على مسرحي بعد أن وضعت بمعاونة الزميل العزيز بديع خيري رواية الافتتاح باسم «علشان بوسه»، وأعقبتها رواية «جنان في جنان»، ثم «آه م النسوان» و«ابقى اغمزني». وقد كنا نحاول في خلال ذلك أن نتخلص شيئا فشيئا من نوع الريفيو «الاستعراض»، ونتعمق قليلا قليلا في الكوميدي الأخلاقي. وكان يبهجني جدا أن تنجح محاولاتنا، وأن نسترد جمهورنا العزيز، الذي أقبل على نوعنا إقبالا شجعنا على السير فيما اعتزمنا من خطة.
وفي صيف 1928 كان الوجيه صادق أبو هيف يدير في الإسكندرية كازينو زيزينيا، فاتفق معي على أن تمثل فرقتي بالكازينو بضعة أسابيع فانتقلنا إلى الثغر على الأثر وبدأنا العمل.
صلح مع بديعة
وهنا أقف لحظة لأشير إلى حادث له أهميته. ذلك أن بديعة كما سبق أن قدمت كانت تعمل بصالتها في عماد الدين. وبديعة ماهرة في كل أساليب الدعاية، ويظهر أنها شعرت في ذلك الحين أنها في حاجة إلى أن تثير حولها ضجة، وأن يدوي اسمها في كل مكان. وفي ذلك من الدعاية «المجانية» لصالتها ولعملها ما فيه.
في أحد الأيام دعتني عائلة من كرام السوريين في الإسكندرية إلى وليمة عشاء، فلبيت الدعوة شاكرا، وأدهشني أن أرى بين المدعوين السيدة بديعة مصابني (وقد كان الخلاف بيننا إذ ذاك بالغا أشده)، كما كان بين المدعوين أيضا الأستاذ جورج أبيض والسيدة دولت.
وجرى حديث على المائدة بين الجميع بضرورة عودة المياه إلى مجاريها بين بديعة وبيني، وأن كلا من الطرفين في حاجة إلى زميله، وأن الحياة لا معنى لها إذا اعتورها مثل هذا التباعد البغيض، وأن ... وأن إلى آخر (الأنات) التي قيلت في تلك الليلة والتي أنتجت ثمرتها بالصلح الذي كان يبغيه أهل الخير ووسطاؤه.
وعادت بديعة إلى الفرقة من جديد فأعددنا رواية تكون هي بطلتها، واهتممنا بوضع ألحان الرواية، فأخذنا للتلحين موسيقيا بارعا، هو الأستاذ زكريا أحمد، الذي أبدع كل الإبداع ووفق تمام التوفيق. أما الرواية فكان اسمها «ياسمينة»، وقد نجحت بالفعل بديعة كما كان مأمولا. وأخرجنا عقب «ياسمينة» رواية أخرى اسمها «أنا وأنت»، وبعدها رواية ثالثة اسمها «علشان سواد عينها».
ورأيت أن أخرج بعد ذلك رواية استعراضية فأعددنا «مصر في سنة 1929» ...
وكما تقضي سنة الأشياء وطبيعتها، دب الخلاف بين بديعة وبيني مرة أخرى، وتجددت أسباب النزاع. وأصبح الصفاء القديم خبرا يروى. فعاد الوسطاء ومحبو الوفاق يجهدون أنفسهم في إزالة ما اجتاح النفوس من موجات الاستياء، ولكن كانت محاولاتهم فاشلة، فذهبت مجهوداتهم أدراج الرياح. ورأى كلانا (بديعة وأنا) أن حالة كهذه مستعص علاجها على «نطس» المصلحين، فاتفقنا فيما بيننا على وضع حد لكل شيء، وذلك بفصم عرى الحالة المعيشية، أما ما بقي من معاني الوفاق والمجاملات، فهذا ما يظل بيننا على حاله. ولقد كان اتفاقنا هذا على يد محام، وبذلك انتهى كل شيء، ولم يعد هناك سبيل للشقاق أو الوفاق.
بلا حمص
وعودة بسيطة إلى الوراء كي أبين ما كنت فيه من حالة لا تسر. ذلك أني كنت في أثناء هذا الموسم وقبله غارقا «لشوشتي» في ديون شرحت فيما مضى أصولها وفروعها، وقلت إن الدائنين قد اختاروا السيدة (ك) بصفة (سنديك) ووصية علي في وقت واحد، فكانت تتناول عن الدائنين أقساط الدين وتعطيني مصروفا يوميا، ولقد زاد على ذلك مرتب بديعة مصابني وقدره خمسة جنيهات في اليوم.
أنهينا الموسم على خير، وكانت نتيجته أن سددت الديون بمهارة الست (السنديك)، وإن كنت أنا قد خرجت من الموسم بلا حمص - كما هي العادة - وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
شعرت أن صحتي في حاجة إلى العناية، وأنه لابد لي من الالتجاء إلى الهدوء بعض الوقت. ولكن أين لي ذلك والجيب مافيهش ولا مليم على رأي الصنايعية المساكين! تقدمت إلى مقام الست المبجلة الوصية المحترمة، طالبا من الله، ولا يكتر على الله، ثلاثين جنيها بس علشان أشم هوا في لبنان، وإلا في إسكندرية. وتفضلت، الله يسترها ولا يوريهاش مكروه في عزيز لديها، تفضلت وسمحت بإقراضي هذا المبلغ، بعد أن ألقت علي محاضرة لا بأس بها في مبادئ الاقتصاد وعلوم التدبير المنزلي واللوكاندجي! وكان ظريفا منها أن تختم هذه المحاضرة النفيسة، بنصيحة نفيسة برضه، هي أن آخد بالي من صحتي أحسن مش كويس. ولعل هذه هي النتيجة الوحيدة التي عملت بها من بين الثلاثين أربعين نصيحة التي ألقتها علي المدام (السنديك).
وقد نصح لي البعض بإدخال عنصر الطرب في الفرقة. وعملت بالنصيحة، عندما تقدمت لي فتاة من الإسكندرية اسمها (هدى)، واهتممت بأمر إظهارها، واتفقت مع الموسيقي الكبير الأستاذ محمد القصبجي على أن يضع لها ألحانا توافق صوتها، وتعدها للظهور أمام الجمهور بالمظهر الذي كنا نوده ونعمل له.
ووضعت بالاشتراك مع الزميل العزيز بديع خيري أيضا رواية «نجمة الصبح»، وقد أسندت دور البطولة النسائية فيها إلى مطربتنا الجديدة (هدى). وقد نجحت (أقصد الرواية) نجاحا كبيرا يكفي لوصفه أن أقول بأنه ما يزال إلى اليوم حليفا لها في كل مرة تعرض فيها، لا من فرقتي وحدها، بل ومن الفرق المتجولة التي تستحل - كده بالعافية - أن تغير على روايات الغير في وضح النهار، واللي ما يعجبوش فأمامه البحر يملا منه معدته كما يشاء، مادام مفيش في البلد قانون يحمي المؤلفين من نشالي الروايات وخاطفيها ... عيني عينك!
محاولة الاقتباس
وبعد أن أخذت هذه الرواية قسطها وأكملت عدتها، وعرضت على الجمهور وقتا طويلا، جاء أوان التفكير في غيرها، فاتجهت نيتي إلى اقتحام ميدان الاقتباس، وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتني. وما إن أطلعت زميلي بديع على نيتي حتى ساهم وإياي في خطتي، وبدأنا في الحال، فلما انتهينا اخترنا للرواية اسم «اتبحبح»، ولما كانت روايتنا هذه هي أول محاولة لنا في الاقتباس، فقد وضعت يدي على قلبي وخشيت أن يكون نصيبها من الجمهور فشلا يعود بنا سنوات إلى الوراء.
كانت الرواية من النوع الكوميدي الأخلاقي، وكان خوفي عليها ناشئا من كثرة حوادثها وضرورة متابعة المتفرج لهذه الحوادث بانتباه تام، ومزيد من العناية والاهتمام، بحيث إذا فاته شيء ولو قليل، ضاع منه كل شيء، وهوت الرواية من أساسها، دون أن يكون لموضوعها دخل في هذا السقوط.
وبعد حمد الله والثناء عليه أقول إن الجمهور قابل روايتنا الجديدة مقابلة لم أكن أنتظرها، وقد شجعني إقباله هذا على أن أقدم له أنواعا جديدة، بمعنى أن أعرج بين وقت وآخر على الفودفيل، ثم أستأنف الكوميدي الذي كان رائدنا على كل حال. وتنفيذا لهذه الخطة أخرجنا رواية «ليلة نغنغة» فنجحت هي الأخرى.
بعد ذلك قامت في مخنا - بديع وأنا - أن نطلع على الجمهور برواية استعراضية ولم يطل بنا التفكير حتى وضعنا رواية «مصر باريس نيويورك»، وقد جاءت والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أسخف ما جادت به القرائح البشرية لدرجة كنت أشعر معها وأنا على المسرح بأنني أجبر الجمهور على الاستماع بطريق الغصب تماما، كما يفعل الطبيب حين يناول مريضه شربة الملح الإنجليزي! ومرت أيام هذه البتاعة وبلاش الرواية ويسرني أن أقول بأن الجمهور ونحن معه قد نسينا ومحونا من أذهاننا ذكراها.
نحن الآن في عام 1930 ولا مانع من أن أقف لحظة لأقدم للقراء شخصية جديدة.
الأستاذ طبنجة
عرفت أثناء رحلتي في فلسطين وسوريا شابا من طرابلس الشام اسمه (ناجي صبيح)، كان إذ ذاك مندوبا لجريدة لسان العرب، فلما عادت الفرقة إلى مصر، وراحت أيام وجاءت أيام، وأصبحنا في عام 1930 كما قدمت، وإذا بي أرى هذا السيد ناجي صبيح وقد ترك الصحافة وجاء يخطب ود الفن.
وضممته إلى الفرقة، لا ممثلا لا سمح الله ولا موسيقيا أو مؤلفا، بل وكيلا للإدارة. وسواء أظهر في عمله كفاءة أم لم يظهر، فقد كانت فيه ناحية تعجبني والسلام. ذلك أنه كان كثير التحدث ببطولته، وبما كان يرويه من حوادث البطولة والشهامة التي وقعت له أثناء وجوده جنديا في الجيش!
كان ناجي يعقب على كل نادرة أو قصة أو حكاية بجملة مأثورة، هي أنه أخرج الطبنجة من جيبه. واخبط راح خاطف روحه. فمثلا يقص علينا أنه طلب فنجان قهوة من الجرسون، فتأخر هذا قليلا في تنفيذ المطلوب «فلم يكن مني إلا أن أخرجت الطبنجة. واخبط. رحت خاطف روحه!».
وفي أحد الأيام جلس ناجي يلعب النرد (نرد إيه يا خويا والطاولة جرى لها إيه؟ سيبك يا شيخ). جلس يلعب الطاولة مع الممثل كمال المصري المعروف باسم شرفنطح. وهو معروف إلى جانب ذلك بأنه يخاف من خياله. وكثيرا ما كان ينصت إلى الجملة إياها، أو اللازمة التي لا تفارق ناجي، فيرتجف هولا، ويخشى أن يعملها ناجي بعقله، ويخبطه طبنجة من طبنجاته يخطف فيها روحه، علشان خاطر دوش أو شيش جهار أو دوسه يختلفان عليها والا حاجة! نهايته لعب الاثنان، وكان أن وقعت الواقعة، واحتدم الجدال بين اللاعبين، فلم يكن من شرفنطح إلا أن تشجع «وبرق» عينيه الواسعتين، ولعب حاجبيه وسأل ناجي قائلا: «الطبنجة معاك دلوقت والا مش معاك؟» ... وأجابه هذا بأنها معه، وفي الحال أقفل شرفنطح الطاولة بشدة وقال له: «طيب اخلص أعمل معروف واخطف روحي بسرعة»، وانتقى بعد ذلك من الجمل المستوية ما ختمها بقوله: «يا خويا أنت من يوم ما وصلت مصر، وانت شطبت على أرواح عباد الله ... شفهي كده، اتفضل دلوقتي اخطف لك روح واحدة تحريري ولو بصفة بروفه!».
الفصل العاشر
إلى الأقطار الشقيقة
وبعد أن مكث السيد ناجي صبيح يعمل معنا حينا، تناول أجرة العودة إلى القطر الشقيق وما كاد يستقر هناك، حتى وصلتني منه رسالة يستحثني فيها على السفر فورا مع أفراد الفرقة، للقيام برحلة في سوريا ولبنان. ولم ينس السيد ناجي أن يفهمني بأن في انتظارنا هناك سمنا وعسلا، وأن الفرصة سانحة ستفلت من أيدينا إذا لم ننتهزها عاجلا. وإنما الذي نسي الإشارة إليه هو أنه سوف يخبطنا طبنجة يخطف بها روحنا إذا امتنعنا عن السفر!
وصادف أن حضر إلى مصر في ذلك الحين الوجيه (خضر النحاس)، وهو من أنشط رجال الأعمال في الأقطار الشقيقة، وقد وافق على أن يتعهد بنشاطه المعروف رحلتي، وتلطف فدفع مبلغ مائتي جنيه كعربون أو كدفعة أولى تحت الحساب.
وقمنا إلى فلسطين أولا فنجحنا فيها والحمد لله، ثم واصلنا السير إلى لبنان وسوريا، ولكن للأسف لم نر ما كنا نأمل فيه من نجاح مادي، إذ اقتصر الأمر على النجاح الأدبي، وهو وحده «ما يأكلش عيش!» والغريب أننا كنا نرى التياترو مليئا بالجماهير، فإذا عدنا للإيراد تبين أنه لا يزيد عن العشرين جنيها أو ما حواليها صعودا وهبوطا.
وحتى لا أطيل في شئون هذه الرحلة أكتفي بالقول إنني عدت منها مدينا للسيد خضر النحاس بالعربون الذي دفعه، وهو ال 200 جنيه، ولعله يستحق مني أن أسجل له في هذا المقام فضلا لست أنساه، ذلك أن هذا الدين ظل في عنقي أمدا طويلا، بحيث لم يسدد إلا بعد مدة طويلة. وهذا ما يحملني على أن أجدد للسيد خضر شكري، لأنه يا سادة يا قراء عمل بأصله صحيح.
عملي في السينما
وعدنا من رحلة الأقطار الشقيقة للاستعداد لموسم سنة 1931. وبينما أنا في التفكير زارني استيفان روستي ومعه المصور السينمائي المعروف (كياريني)، وعرضا علي الاشتراك معهما في إخراج فيلم (صامت) إلا أنني اعتذرت لهما بأن أعمالي المسرحية من الكثرة بحيث تحول بيني وبين ما يرميان إليه، ولكنهما لم يقنعا بهذه الإجابة. وكلما أبديت لهما الأعذار، زادا في الإصرار. وأخيرا قبلت، واتفقنا على إخراج فيلم أطلقنا عليه اسم «صاحب السعادة كشكش بك».
وقد كان غريبا أن نبدأ العمل فيه دون أن نضع له فكرة معينة، أو نكتب له سيناريو محدد المناظر والوقائع. وكل ما هنالك أننا كنا نخرج في السادسة صباحا دون أن ندري ما سنفعل، حتى إذا جلست لتركيب لحية كشكش، بدأت أفكر في المناظر التي نصورها وفي الحوادث التي نمثلها. فإذا انتهيت من تركيب اللحية أكون قد انتهيت من تفكيري فنبدأ في التنفيذ، يعني في التصوير.
وتكلف فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» أولا عن آخر مبلغا وقدره أربعمائة جنيه مصري فقط لا غير. يعني أننا أخرجناه بتراب الفلوس، ومع ذلك فقد نجح وجلب فلوس، وأقبل الجمهور على مشاهدته إقبالا لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا.
مأزق حرج
وافتتحنا موسم سنة 1931 التمثيلي برواية «أموت في كده». وفي هذا الحين بدأت الحكومة (تحت ضغط الرأي العام) تهتم بالمسرح، فتألفت في وزارة المعارف لجنة من أفاضل العلماء والأدباء، وكانت مهمتها الإشراف على ما تخرجه المسارح من الروايات، وتخصيص إعانات تتناسب مع مجهود كل فرقة، وأثرها في تقدم هذا الفن في البلاد.
ندع هذا جانبا لنذكر حادثة طريفة وقعت حين إعداد رواية «أموت في كده». كان المرحوم إسماعيل (بك) شرين مديرا لإدارة المطبوعات، وكان يرأس لجنة ينحصر اختصاصها في مشاهدة تمثيل الروايات قبل عرضها في المسارح، وكان رحمه الله من أشد المعجبين بفرقتي ومجهودات العبد لله المتواضعة في خدمة فن التمثيل. ولما كنت لا أجد غضاضة في التصريح بنقائصي وعيوبي، فإنني أعترف بأن الفصل الثالث من كل رواية جديدة تظهر على مسرحي لا يتم تأليفه إلا في يوم ظهور الرواية. واديني عقلك بقى ... متى نستطيع إجراء البروفة له مثنى وثلاث ورباع ومش عارف كام؟!
فلما انتهينا من بروفات الفصلين الأول والثاني على ما يرام بدأنا (بديع وأنا)، نضع فكرة الفصل الأخير، ونرتب حوادثه، وكنا قد حددنا يوم ظهور الرواية، حتى إذا جاء الموعد لم يكن الممثلون قد رأوا أدوارهم في هذا الفصل، بل لم أكن قرأته لهم. وفي الساعة الثانية بعده ظهر ذلك اليوم شرفت لجنة إدارة مطبوعات المسرح وعلى رأسها المرحوم شرين (بك).
ومثلنا أمامها الفصل الأول على ما يرام، وتبعه الفصل الثاني على ما يرامين: كل ذلك واللجنة مغتبطة مستريحة. وأسدل الستار وجاء أوان عرض الفصل الثالث، وهو على ما وصفت، فما العمل؟ يقولون في الأمثال إن الحاجة تفتق الحيلة، فلتسعفنا الحيلة إذن! توكلنا على الله ورفعنا الستار بين استحسان السادة الأماجد أعضاء اللجنة، وابتساماتهم العريضة وأذهانهم المهيأة لسماع بقية ما رأوا من فكاهات الفصلين السابقين.
وكان حسين إبراهيم يمثل دور امرأة من النوع «القباقيبي المصفح»، فلما رفع الستار ظهر حسين على المسرح يتمخطر في الملاية والبرقع، وما كاد ينطق جملة واحدة حتى سقط مغشيا عليه، وتقدمنا جميعا لإسعافه، وشاركنا في هذا الإسعاف أعضاء اللجنة، جزاهم الله عن المروءة كل خير! ولم يكتفوا بهذه المعاونة الشخصية، بل خرج واحد منهم يعدو في الخارج باحثا عن طبيب. ورأى المرحوم شرين (بك) ألا يرهقنا بتمثيل الفصل الثالث أمام اللجنة، مكتفيا بالفصلين الأول والثاني، وتفضل رحمه الله بالتصريح بالرواية كلها! ولم أنس أن أشدد عليه في التريث لحظة حتى يفيق حسين إبراهيم، فنستأنف التمثيل! ولكنه شكر لي ذلك، ونصحني أن نذهب لنستريح بضع ساعات إلى موعد التمثيل مساء!
وخرج رحمه الله مع أعضاء اللجنة، وتركونا - لا للنوم والراحة - لاستئناف الشقاء وإجراء بروفة الفصل الطازة، وليس القارئ بالطبع في حاجة إلى إفهامه أن حسين إبراهيم أفاق في اللحظة نفسها التي غادرت اللجنة فيها المسرح!
لجنة تشجيع التمثيل
قلنا إن وزارة المعارف فكرت في تشجيع التمثيل إذ ذاك بمنح إعانات للفرق، ولذلك كانت اللجنة التي يرأسها الأستاذ العشماوي، بين أعضائها الأساتذة الأدباء مصطفى عبد الرازق، وطه حسين، تزور المسارح مرة في الأسبوع لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية.
وكان مسرحي من بين المسارح التي تتشرف بزيارة هذه اللجنة، وكم سمعت من حضرات أعضائها، وخاصة الدكتور طه حسين كلمات الثناء والإعجاب، وكيف أننا نستحق أكثر العطف والتقدير. وزاد الدكتور على ذلك قوله أنه يلمس الصدق في رواياتنا، ومماشاة الطبيعة دون خروج على أوضاعها، أو مغالاة في تصويرها، ذلك بينما يسمع عند غيرنا ألفاظا جوفاء كالطبل صوتها عال، جوفها خال.
وكان أن نلت من المبلغ المخصص في ميزانية المعارف لتشجيع التمثيل في ذلك العام، ثلاثمائة وخمسين جنيها، وكان عدد الفرق التي منحت مكافآت أربع، كانت فرقتي الثالثة من بينها، حسب الترتيب الذي وضع للمكافآت! وما له معلهش، برضه رضا، لأن هذه كانت المرة الأولى التي أحسسنا فيها تقديرا من الحكومة.
على أن أهم ما سررت له هو أن ممثلي فرقتي فازوا جميعا برضاء اللجنة، ونالوا كلهم مكافآت مالية، بنسبة لم ينلها زملاؤهم في الفرق الأخرى. وتناولت الثلاثمائة وخمسين جنيها، وكنت قبل ذلك قد أعددت كشفا بأصحاب الديون المستحقة علي، وقيمة هذه الديون ومواعيد الاقتراض، وشروط السلفيات، وكيفية التسديد، وما إلى ذلك من أمور أخرى. ورحت أسدد بعض هذه الديون بقدر الإمكان، بعد أن راجعت النظريات الاقتصادية القديمة، التي كنت أسمع بها أيام اشتغالي في البنك الزراعي ولا أعمل بها!
على مسرح الكورسال
وبقى لي من المكافأة - بعد تسديد المستحقات - مبلغ ضئيل استعنت به على افتتاح موسم صيفي في كازينو الفانتازيو بالجيزة، أشكر الله كثيرا على نجاحه كما كنت أقدر وأتوقع. وانتهى موسم الصيف وكان في نيتي أن أعود إلى مسرحي في عماد الدين، لولا ما حدث من سوء التفاهم بيني وبين صاحب الملك، فقد كنت أستأجر منه ذلك المسرح الضيق الصغير بمبلغ ألف جنيه في العام، مع أنني كنت أعمل به ستة أشهر سنويا.
ألغي التعاقد إذن بيني وبين صاحب الملك (المسيو عاداه)، ونظرت حولي باحثا منقبا عن مكان أعمل به، إلى أن عولت على استئجار مسرح الكورسال من الخواجة دلباني، وكان إذ ذاك في موضع عمارة عدس، التي تقع الآن عند ملتقى شارعي الألفي وعماد الدين. تعاقدت مع المسيو دلباني، وبقيت مهمة انتقاء رواية الافتتاح. فاجتمعت لجنة التأليف المكونة من شخصين لا ثالث لهما، وهما محسوبكم كاتب هذه السطور، أو الأحرف زي ما يعجبك، والثاني زميله وصديقه وعزيزه الأستاذ بديع خيري.
اجتمعت اللجنة وتناقش «الأعضاء» في الموضع الذي يقع عليه الاختيار، وهل يحسن أن يكون من نوع الكوميدي أو الريفيو أو الفودفيل ... أو ... أو ... إلخ وطرح أحد الأعضاء - وهو العبد لله - فكرة نالت موافقة «الأعضاء بالإجماع»، والإجماع هو بديع وحده طبعا، لأنني لم أقترع ولم أصوت، بصفتي صاحب الاقتراح.
كان قد ظهر في فرنسا أديب شاب اسمه (مارسيل بانيول) وضع رواية أطلق عليها اسم بطلها (توباز)، واختار له أن يكون مدرسا بسيطا في إحدى المدارس ... التي مش ولا بد.
قرأت هذه الرواية وقرأت ما استقبلت به من النقاد، وعرفت أنها ترجمت إلى جميع اللغات الحية، ونجحت في البلاد الأجنبية نجاحا لم تصادفه رواية قبلها! ولذلك اقترحت أن نقتبسها ونخرجها على مسرحنا، ونلت موافقة «الأعضاء» بالإجماع كما تقدم.
وإني لأذكر أننا قضينا في مهمتنا هذه (بديع وأنا) أسعد ليالي التأليف التي مرت بنا، وكنا كلما انتهينا في الليل من إعداد جزء منها، قرأناه للممثلين في الصباح فأبدوا كبير إعجابهم ومزيد استحسانهم.
إديني عقلك
أتممت وزميلي بديع اقتباس رواية (توباز) وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري». ومع أنني أثناء قراءتها لممثلي الفرقة كنت أشعر بدلائل الإعجاب ترتسم على وجوههم، إلا أنني كنت إذا خلوت ببديع، أصارحه بخوفي على الرواية، وإشفاقي من أنها لا تنال شيئا من إقبال الجماهير، أو من الإعجاب بها، لأسباب شتى تتراءى لي!
ولعله من المناسب في هذا المقام، أن أذكر بأن إدارة المطبوعات كانت تضم في ذلك الحين بين موظفيها طائفة وقاك الله شرها. كانت هذه الطائفة تتمتع بعقليات ممتازة! وقاك الله شرها برضه، وإليك عينة من المضايقات التي كان يسببها لنا أولئك السادة المراقبون.
كان المنظر الأول من الرواية عبارة عن فصل في إحدى المدارس الأولية أو الابتدائية، فلما أرسلنا الرواية إلى إدارة المطبوعات لمراجعتها قبل تمثيلها، أشار أحد حضرات المراقبين بأن فيها نقدا جارحا لمدرسة أميرية! ومن أين جاءك يا سيدي أن مدرستنا أميرية؟ وهل ورد على لسان أي واحد من الممثلين أية كلمة يشتم منها تعيين أو تحديد أو حتى تمييز نوع هذه المدرسة!؟ أبدا والله العظيم!
قال المراقب: «صحيح مافيش ما يثبت، ولكن لابد من أن تشيروا إلى أن المدرسة أهلية وليست أميرية» ... طيب حاضر ... على عيني وراسي! وتبعت ذلك أن سحبت القلم من جيبي وكتبت ما يأتي:
ملحوظة
هذه المدرسة أهلية وليست أميرية! ...
وبذلك استراح المراقب، ولم أخسر أنا شيئا لأن هذه الملحوظة لم تنقص من الرواية شيئا، ولم تؤثر في شيء، لأنها مجرد تسجيل في خانة الملحوظات، ولن يتفوه بها أي ممثل فوق خشبة المسرح! ولكن انظر ماذا تكون حالتي إذا نوقشت في مثل هذه الملحوظات كل يوم عدة مرات لا مرة واحدة.
سخرية وزارية!
قلت إنني اقتبست مع زميلي بديع خيري رواية «توباز» وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري» وافتتحنا موسمنا بالكورسال، وقدمنا لجمهورنا هذه الرواية المقتبسة. ولا تنس أنني وضعت قبل رفع الستار يدي على قلبي أتحسس خفقاته بعد أن سلمت أمري لله من قبل ومن بعد.
كان إيراد الليلة الأولى ثلاثين جنيها، ثم تقهقر في الليلة الثانية إلى ستة جنيهات، وبعدها أربعة ثم ثلاثة! شايف التعاديل! ثلاثة جنيهات! وأين؟ في تياترو الكورسال الذي كان أكبر وأرحب تياترو في مصر، يعني أن الزبائن الذين جادوا علينا بالجنيهات الثلاثة، ما كانوش باينين فيه! فكان ذلك صدمة لنا وضربة قاصمة لظهورنا من ناحية.
وأريد أن أقرر في هذه المناسبة أنني تلقيت بعض كتب التقدير والتهنئة من أقلية صغيرة من حضرات الأدباء والمثقفين، الذين راقت الرواية في نظرهم، أو الذين اطلعوا من قبل على أصلها الفرنسي. ولكن أين لمثل هذه الأقلية أن تظهر أمام تيار الأغلبية الجارف. الذي ثار في وجه الرواية ووقف منها موقفا ... ربنا ما يوري عدو ولا حبيب!
ولما لم تفلح الرواية في القاهرة، أردت أن أرى أثرها في غيرها. فقصدت إلى المنصورة، ولكن شعبها - الله يصبحه بالخير - لم ير فيها غير ما رآه القاهريون، بل قل إنهم كانوا شرا عليها من زملائهم هنا . فقد قابلوها مقابلة كلها هزؤ وزراية واستخفاف! وإني لا أزال أحتفظ إلى اليوم بخطاب وصلني من طالب بالمنصورة، يخلع علي فيه من النعوت أشنعها ومن الشتائم أقذعها، وهو فضلا عن ذلك يحذرني العودة إلى المنصورة بعد هذه «العملة» السودة! والعملة هي بالطبع تمثيل رواية «الجنيه المصري»! وانسدت في وجهي السبل، وانهار الأمل بعد أول محاولة قصدت إليها، فجلست قبالة بديع وتركنا لأفكارنا العنان، عسى الله أن يفتح علينا بالفرج بعد الضيق.
انتقام
الرواية قطعة فنية رائعة، لا في ترتيب حوادثها فقط، بل وفي المنطق السليم الذي عولجت به الوقائع وانتهت إليه النتائج! فما الذي حاق بالرواية يا ترى؟ وما الذي أنزلها إلى هذا الدرك في نظر جمهورنا، الذي شهدنا له بالتفوق في الإدراك والسمو في الفهم؟
لم أدر علة ذلك، وإن كنت أستدرك فأذكر أننا أعدنا في الموسم الأخير (أي في هذا العام) تمثيلها على مسرح رتيز، كتجربة نرى من خلالها هل لا تزال حافظة مكانتها المقندلة في نفوس الجمهور؟ أم أن الأفكار تغيرت نحوها؟ وقد راعنا أنها نجحت نجاحا لم نكن نتصوره، بل لم نكن نقدره.
ما علينا. نعود إلى أيام زمان فأقول إننا حين يئسنا من «الجنيه المصري»، هدانا التفكير إلى طريق فيه شيء من اللعب على الجمهور، بل قل من الانتقام منه. ذلك أننا جمعنا بعض الراقصات وأعددنا جملة مشاهد فكاهية، حشرنا بينها عدة نكات وهزليات، وأطلقنا على هذا العبث اسم رواية «المحفظة يا مدام»، فجاءت بعون واحد أحد، أسخف ما وضعنا في عالم التمثيل من مهازل، وأحط «ما جادت» به قرائحنا (بديع وأنا) مدة اشتغالنا بالمسرح! «المحفظة يا مدام» رواية - كما سميناها - لا في العير ولا في النفير، فلن تجد لها معنى ولا مغزى ولا ... ولا ... على آخره ... أو إلخ ... زي الناس ما بيكتبوها!
كان هذا حال الرواية في نظرنا، أما في نظر الجمهور، فقد كان شباك التياترو خير شاهد على التقدير والاستحسان. ويكفي أن أذكر أن الإيراد ضرب لفوق، وبدأنا لأول مرة في الكورسال نشاهد الأرقام القياسية التي حرمتنا رواية «الجنيه المصري» منها، بل وأنستنا إياها! وكم كنت أسمع أناسا يقولون أثناء انصرافهم عقب مشاهدة البتاعة اللي اسمها «المحفظة يا مدام»: «أيوه ... آدي الرواية والا بلاش ... مش الجنيه المصري».
إعانة الحكومة
أريد هنا أن أذكر بأن وزارة المعارف كانت تشترط إخراج ثلاث روايات جديدة على الأقل في أثناء الموسم، وإلا فلا إعانة ولا يحزنون وكانت فرقتي قد أخرجت اثنتين فقط، هما «الجنيه المصري» و«المحفظة يا مدام». ولم يبق من الموسم إلا شهر أو أقل! فماذا نفعل وكيف نستطيع تأليف الرواية الثالثة وإخراجها وتمثيلها؟
وفي هذه الأثناء تقدم إلينا الأستاذ أمين صدقي برواية جاهزة اسمها «الرفق بالحموات»، فوزعنا أدوارها وأسرعنا في تدريب الممثلين وأخرجنا الرواية، ومع ذلك فقد عاشت أسبوعا واحدا لا غير! وكان أن منحتنا لجنة المعارف الدرجة الرابعة، أي أقل مبلغ منحته لفرقة في هذا العام. وبذلك قد تقهقرنا في نظرها عن العام السابق وسبحان من يغير ولا يتغير.
وانتهى موسم 1931، وأسدلنا الستار على آخر لياليه. ورحت أعاود بفكري ما انتابني فيه، فتراءى لي أولا ما كان من قسوة الجمهور في معاملة «الجنيه المصري»، وما كان من الحكومة اللي أنزلتني لجنتها درجة بعد درجة إذ كان أملي معقودا على التقدم درجات! أضف إلى ذلك ما كنت أحس به من اضطرابات داخلية يرجع الفضل في أكثرها إلى القلب، وما صدم به من فشل في الحياة الخاصة، وهو ما كنت أبذل جهودي في كتمه عن الناس قاطبة، محتفظا بآلامه لنفسي وحدها.
في شمال أفريقيا
آليت على نفسي أن ألجأ إلى الراحة فترة من الزمن، أستريح فيها لا من عناء الأعداء وألسنتهم، التي كانت في قوارصها أحد من السيف وأشد من العضب، ومضت أيام شعرت بعدها أن ميلي إلى الجمهور العزيز وحبي له، يدفعني إلى العودة لمفاجأته. ورغم ما لقيت منه من عنف وظلم، فإن ميلي له لم يتخلله وهن ولا ضعف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعب سريع النسيان، فما هي إلا أن يغيب عن ناظره الشخص فترة حتى يدرجه في قائمة المنسيين، وحتى يصبح وكأنه لم يكن بالأمس ملء العين والأذن.
وكانت هذه العوامل سببا في أن أفكر في العودة إلى الظهور سريعا وكان أن تقدمت إلى إدارة كازينو الفانتازيو بالجيزة للعمل به شهرا أثناء الصيف، فمددت يدي مستريحا إلى ذلك. ويهمني هنا أن أقول بأنني نلت من عطف عبد الخالق مدكور (باشا) صاحب الكازينو ومن محبته ومعونته، ما لا أزال أذكره بالشكر والحمد الوافر. وأمضيت شهر الفانتازيو على خير ما أريد. فنجحت كما أؤمل، وعادت أواصر المودة بيني وبين الجمهور سيرتها الأولى. وكأن الذي جرى ما كان. ويا دار ما دخلك شر.
إلى المغرب
وفي هذه الأثناء قابلت صديقنا (الأستاذ علي يوسف) بعد عودته من بلاد المغرب، وكان قد رحل إليها مع فرقة السيدة فاطمة رشدي كدليل أو بالاصطلاح الفني (امبرزاريو) ... وراح يصف لي مقدار محبة القوم هناك لفن التمثيل، وشغفهم به، وكيف أنهم لا يضنون بأموالهم في سبيل مشاهدته. ثم أضاف إلى ذلك أنني إذا قصدت إلى بلاد المغرب، عدت منها مملوء الوفاض بأموال تحتاج في حصرها وعدها إلى حنكة صرافي بنوك العاصمة مجتمعين!
ولقيت أقوال علي يوسف مني نفسا «مفتوحة» وجيوبا «برضه مفتوحة»! فعزمت عزما صادقا على الرحيل كي أدلي بدلوي في دلاء هذه الثروة القريبة المنهل، السهلة المنال، وبدأت في تأليف فرقتي وكنت إذ ذاك في حاجة إلى مطربة تقوم بالأدوار الأولى في رواياتي، وتمثل الأدوار التي كانت تضطلع بها السيدة بديعة مصابني، التي خلا محلها منذ عهد طويل، فطوى معها كثير من الروايات التي كانت هي البطلة فيها.
وبعد البحث تمكنا من الاتفاق مع المطربة حياة صبري، التي كانت فيما قبل تلميذة لفقيد الموسيقى الشيخ سيد درويش، وقام قبلنا إلى بلاد المغرب الأقصى (الامبرزاريو) المحترم علي يوسف. وكانت مهمته أن ينشر الدعاية اللازمة للفرقة، وأن يقوم بحركة الإعلان الكافي لتعريف الناس في تونس والجزائر ومراكش بمكانة الممثلين الذين تضمهم، والممثلات اللواتي يعملن فيها. وعليه إلى جانب ذلك أن يبيع الليالي لمن شاء، أو أن يطبع التذاكر ويوزعها على الراغبين، ثم يرسل إلينا جانبا من المال، نستعين به في الموعد الذي يحدده.
نقول إن علي يوسف قام قبلنا، ومكثنا نحن في مصر نوالي عمل البروفات لجميع الروايات، ونحن نحدث أنفسنا بالخير الوافر الذي ينتظرنا في هذه الرحلة العتيدة.
الممثلة الأولى
وبعد أن قضينا في البروفات شهرا كاملا، انقطعت ممثلتنا الأولى (حياة صبري) عن الحضور، وبحثنا عن علة ذلك فقيل لنا أنها اتفقت مع فرقة أخرى، وإنها لن تكون معنا في رحلتنا المنتظرة! وما العمل الآن ونحن في انتظار برقية من علي يوسف بين لحظة وأخرى، يشير فيها علينا أن نقوم توا إلى المغرب؟
ورجونا حياة دون جدوى، فاضطررنا إلى البحث عن غيرها ... وكلما فكرنا في واحدة كعلية فوزي مثلا، قيل لنا إنها اتفقت منذ يومين أو أسبوعين أو ساعتين مع غيرنا للعمل معهم، فيسقط في أيدينا ونعود إلى ندب حظنا السيئ وبختنا اللي زي ما أنت شايف!
والآن، ونحن كالغرقى في محيط بعيد الغور، جاءنا من يحمل إلينا نبأ يتلخص في أن السيدة بديعة مصابني تعرض أن ترافقنا في رحلتنا هذه! بديعة! وماذا يا ترى ساقها إلى طلب ذلك؟
بل ما هو الدافع لها بعد أن هجرت عملنا، ومضت مدة لم تباشره وايانا؟ القصد! فما دامت هي التي تريد، فلنرد نحن ما يكون! واتفقنا مع بديعة والخيرة في الواقع.
كيف الرحيل
وسارت البروفات في طريقها كما كانت، ومضت مدة كنا ننتظر في أثناءها أي شيء من علي يوسف، ولكن لم نسمع عنه نبأ! فماذا حل به يا ترى؟ وإذا كان هناك ما يسوء فهل تبقى أخباره مكتومة مجهولة؟
هناك مثل إنجليزي معناه أنه «إذا لم يكن هناك أي أخبار، فالأخبار خير» طيب صدقنا وآمنا بأن الأخبار خير، ولكن كيف يمكننا الرحيل وليس في أيدينا حتى أجرة القطار من القاهرة إلى بنها؟!
ظللنا ننتظر أن يحن علينا (أبو يوسف) بقرشين من «العرابين» التي تسلمها، ولكن مضت أسابيع وأسابيع ولم نر فيها (ريح يوسف) ولما أكمل في غيابه عنا حوالي الشهرين، يئسنا من الرحلة ومن إتمامها، ورحت أفكر في الطريقة التي أعتذر بها إلى أفراد الفرقة، وأحمل إليهم نبأ حلها شيئا فشيئا. وفيما نحن كذلك، إذا بي أرى علي يوسف شخصيا! علي يوسف بنفسه لا خطاب منه ولا برقية! - ما الذي جاء بك؟ وما نتيجة عملك؟ - إنني أتيت إلى مصر لأدبر المال اللازم لترحيل الفرقة إلى بلاد المغرب! - ما شاء الله. والمال الذي ننتظره من هناك يا سي علي! هل تبخر؟ - كلا. ولكن مسرح البلدية تسلم النقود ولم يشأ أن يعطينا شيئا منها حتى تصل الفرقة إلى هناك ويروها رأي العين!
البحث عن ممول
وراح الله يمسيه بالخير يبحث هنا وهناك عن ابن حلال يدخل وإياه في هذه العملية، وكان له صديقان قديمان هما الشقيقان صالح وموريس كريم. وقد حملتهما هذه الصداقة على أن يعثرا لصديقهما هذا على «لقطة» أو زي ما تقول «هدية» في شخص صديق آخر لهما اسمه الخواجة «جياكومو». وما كاد علي يوسف يلتقي به حتى هيأ له البحر طحينة وأفهمه أن قرشه سيتضاعف آلافا مؤلفة، وأن المليم سيصبح بقدرة قادر دهب أحمر بعد الرحلة. وأن من قدم شيء بيداه التقاه.
ووضع الخواجة «جياكومو» يده في محفظته، فخرجت تحمل ثلاثمائة جنيه (جنيه ينطح جنيه) ويسلمها لعلي يوسف قائلا هذا نصيبي كشريك في هذه الرحلة. وبعد أن تأكد أبو يوسف أنه يحمل هذا القدر من المال (ضحك في عبه) على رأي إخواننا المبسوطين! وعاد إلينا وقد تهلل وجهه بشرا، فأعطانا مما أعطاه الله، وأبلغنا أنه سيسبقنا إلى تونس على أن نلحق به بعد إتمام بعض الإجراءات الخاصة بالتأشير على جوازات السفر وما إلى ذلك. فودعناه أحسن وداع، وانتظرنا بصبر نافد موعد الرحيل يا حبايب! وترك الخواجة «جياكومو» أعماله التجارية بالإسكندرية، وجاء للقيام معنا إلى تونس، انتظارا لجمع الأموال الطائلة التي ستدرها الرحلة عليه وعلينا، وعلى الناس أجمعين!
وسبقتنا السيدة بديعة مصابني إلى فرنسا لأعمال سينمائية خاصة، بعد أن اتفقنا على اللقاء في معهد مرسيليا. وبعد أيام قمت أنا على باخرة فرنسية وقصدت مرسيليا توا.
أما أفراد الفرقة ومعهم الخواجة «جياكومو»، والزميل العزيز الأستاذ بديع خيري فقد اختار لهم علي يوسف قبل سفره من باب الوفر والاقتصاد باخرة (على قد الحال)، تسير إلى الإسكندرية لبورسعيد لبيروت لأثينا ... إلى ... إلى أن تصل مرسيليا بعد عمر طويل! ... هذا إذا وصلت في سنتها.
الباخرة التائهة
وقامت هذه الباخرة قبل باخرتي بأيام، وكان المفروض أن تصل بعدي بيومين، فلما وصلت انتظرت يوما ويومين وأسبوعا وأسبوعين ولكن اشتد قلقي إذ لم تصل الباخرة ولم يصلنا عنها أي خبر!
سألنا في إدارة الشركة التي تتبعها الباخرة وفي جميع إدارات شركات الملاحة الكبرى والصغرى كمان، ولكن للأسف كنا نسمع جوابا واحدا، معناه بالعربي الذي يفهمه المعلم «دؤدؤ» وأفهمه أنا وأنت ... أن العلم عند الله!
طبعا العلم عند الله يا بني آدم أنت وهو، لكن احنا كمان عاوزين يكون عندنا علم ... نعمل إيه؟ لست أحاول شرح حالتي النفسية وما انتابني من آلام طيلة هذه الأيام.
فقد فقدت الأمل في لقاء أعزائي وأصدقائي الذين شاركوني في حلو الحياة ومرها، فلعنت علي يوسف، ولعنت الساعة التي أشار فيها بهذه الباخرة المقصوفة الرقبة! ولقيت بديعة مصابني، فحملت معي نصيبا من البحث.
وأخيرا وبعد أن كاد اليأس يقطع خيوط الأمل الدقيقة، عرفنا أن إصابة بالطاعون ظهرت في أحد ركاب الباخرة بأثينا، فأخرجوا الركاب جميعا وحجزوهم في «كردون». وكان هذا سبب التأخير. وبعد انتهاء أيام الحجر الصحي استأنف الركاب سفرهم إلى مرسيليا، وبينهم زملاؤنا الأعزاء الذين فرحنا بلقائهم فرحا لا يوصف.
وهنا أرى أن أسرد قليلا مما قصوه علينا في محنتهم هذه. فقد ذكروا أن الأطباء كانوا يجرون الكشف علينا يوميا، وكانوا يأمرونهم بخلع كل ما عليهم من ملابس. أما في مواعيد تناول وجبات الطعام ... فقد كانوا يلقون إليهم المأكل من بين قضبان حديدية، بحيث لا تلمس أيديهم يد أحد من نزلاء «الكارنتينا» أو «الكردون» الذي كان محاطا من جميع نواحيه بالأسلاك الشائكة وخلفها هذه القضبان الحديدية.
وأخيرا تونس
والآن نترك باخرة «الطاعون» ونحمد الله الذي نجى زملاءنا منها، فنقول إننا أخذنا باخرة أخرى من مرسيليا إلى تونس. ولا أطيل عليك القول، فأقول إننا وصلنا إلى ثغر «بيزرت» فاستقبلنا أهلها الأكرمون استقبال الفاتحين ورأينا الموسيقيين يدقون الطبول والزمور، وشاهدنا مندوبي الجمعيات الخيرية يحملون إلينا الأزهار، والشعراء ينثرون أمامنا القصائد من كل البحور، وخطب الترحيل تتلى علينا من هنا ومن هناك بشكل لم نر له مثيلا من قبل.
شاهدت كل ذلك فقلت: اللهم إني أسألك أن تجعل الخاتمة خيرا، وأن لا تسئنا يا ربي في عملنا، ولا تخيب رجاءنا يا أكرم الأكرمين.
وراحت السكرة ثم جاءت الفكرة. كان علي يوسف - وآخ من علي يوسف - كان قد استأجر مسرح البلدية في تونس لمدة اثنتي عشرة ليلة، وهي كل الليالي الخالية فيه إذ ذاك، لأنه استأجر لفرق أخرى بعد ذلك. ولكن الطاعون قاتله الله، وتأخير الباخرة أكل علينا أربعا من هذه الليالي، لأننا وصلنا متأخرين أربعة أيام عن الموعد الذي قدره علي يوسف.
آدي دقة، أما الأخرى فهي أن الأستاذ أبا علوه ... كان قد استدان قبل وصولنا مبلغ ألف ومائتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، وقبل أن نبدأ العمل بوغتنا بحضرات السادة الدائنين وقد شرفوا قبل وصول أي زبون، شرفوا لا للفرجة كغيرهم لا سمح الله، بل للحجز على إيراد الشباك سدادا لديونهم المستحقة بس! ... والله عال ... يعني جايين من مصر مخصوص، وشايفين الويل وويل الويل في البر والبحر وفي الطاعون وأثينا علشان تسدد الديون. وإن شالله ما حد أكل ولا شرب.
زاد الطين بلة
كانت الرحلة منصبة على اثنتي عشرة حفلة كما سبق القول، ولكنها رست على ثمان (كما سبق القول برضه)، ومع ذلك فإن الطين رأى أن يزداد بلة أخرى، وكأن هذا كله لم يكف! هذه البلة هي أن سي على رأي أن يتبرع للجمعيات الخيرية في تونس بإيراد أربع حفلات مجانا لوجه الله.
وهنا جلس مديرنا المالي (الخواجة جياكومو) على قرافيصه يندب حظنا اللي ما فيش منه. وإني لأذكر جملة مأثورة خرجت من فمه فأضحكتنا جميعا (وشر المصائب ما يضحك) جلس جياكومو يذكر صديقيه اللذين ورطاه هذه الورطة فقال: «يعني صالح وموريس بعتوا تلغراف لعلي يوسف قالوا له فيه وجدنا بغل نركبه سوا»!
ذلك هو الوصف الذي ارتضاه مديرنا المالي لنفسه، فجزاه الله عن المروءة كل خير!
كان موقفي في منتهى الحرج مع فرقة مؤلفة من أربعين شخصا بينهم ست ممثلات وراقصات ممتازات، وليس معنا ما نقتات به. فكنت أعمل جاهدا لإدخال أكبر كمية من الصبر على قلوبهم، بينما كان (الخيبة الثقيلة) الأخ علي يوسف يزوغ مني هنا وهناك ولا حياة لمن تنادي.
عملنا أول ليلة فكان الإيراد مائتين وخمسين جنيها، ولكن هل دخل جيبنا منها مليم واحد؟ أبدا والله العظيم والبركة في الدين والدائنين!
وقد فاتني أن أشير إلى شخص بالذات تقدم إلي مرحبا أجل ترحيب، ومحييا أحسن تحية، وتطوع بالتعريف قائلا إنه من هواة التمثيل، وإنه سمع عني كثيرا ورغب في العمل بفرقتي، وقد رحبت به أنا الآخر، ولكن رابني منه بعض تصرفات لم أفهم سرها! فما كدنا نصل مدينة تونس حتى سعى في كثير من العناية والاهتمام بإنزالنا في أكبر فنادق المدينة (واسمه ماجيستيك)، وراعني أنه نجح في حجز أحسن أجنحة الفندق لنا، كما راعني قبول إدارة الفندق أن تتقاضى من الممثلين مبلغ عشرين قرشا فقط كأجر عن الغرفة يوميا، في حين أن إيجار غرفتي في اليوم الواحد هو مائة وستون قرشا. وهو أجر معقول بالنسبة لفخامة الفندق الذي لا يقل من هذه الناحية عن أفخم فنادق القاهرة.
أقول إنني رأيت في هذه التصرفات ما رابني، وأخيرا عرفت أن ريبتي كانت في موضعها تماما، وأن صديقنا الجديد هذا، لم يكن إلا عينا خصصته الإدارة الفرنسية ليكون بمثابة رقيب علينا في كل خطوة نخطوها، أو حركة نأتيها. وذلك خشية من أن نثير في البلاد شعور الوطنية والحماس، وهو ما يأباه الاستعمار ويعمل على محاربته بكل وسيلة .
ولما كنا والحمد لله لم نقصد من رحلتنا أن نثير حربا شعواء بين الفرنسيين والوطنيين، فإن هذه الرقابة لم تؤثر فينا أقل تأثير، بل بالعكس أفادتنا كل الفائدة بأن جمعت أفراد الفرقة كلهم في صعيد واحد، وصعيد إيه يا سيدي ... أوتيل، لا تقوللي ولا تعيد لي. والأجرة إيه؟! تراب الفلوس!
نهايته ... توددت إلى الأخ المحترم الرقيب الهاوي وقربته إلي ... وصافي يا لبن.
الدائنون وراءنا
قلت إن إيراد الحفلة بلغ مائتين وخمسين جنيها استولى عليها الدائنون وتركونا نأكل بعضنا.
أما رواية الافتتاح فكانت (الليالي الملاح) ... أظن كمان رايح تقول إن السجع هنا مقصود! أبدا واللي خلقك! وقد كان استعدادنا لها فائقا بحيث كانت المناظر والملابس من أفخم الأصناف، كما أن الممثلات والممثلين كانوا على سنجة عشرة، ولذلك ظهرت الرواية بأحسن مظهر ونالت أحسن ما كنا نرجوه من النجاح. وكان هذا الجمهور بالطبع يملأ جوانب تياترو البلدية العظيم وكنت أشعر بفرح كبير لهذا النجاح «الأدبي» الممتاز وأعتبره تعزية لا شك فيها. ولكن حينما أرى الإيراد منحدرا في اتجاه غير طبيعي، كنت أشعر أن لسان حالي يقول: «آخ أيها الفن أتمنى في تلك اللحظة أن تكون خبزا فتؤكل أو عرقسوسا فتشرب!».
قلت إن مجموع الليالي الباقية لنا من التعاقد في التياترو ثمان. ولكن متعهدنا المبارك (السيد علي يوسف) كان قد طبع قبل وصولنا تذاكر اشتراكات عن اثنتي عشرة ليلة، وباع منها الشيء الكثير وتسلم الأثمان كذلك.
ولما لم يكن في طوقنا أن نقدم أكثر من هذه الليالي الثمان، فقد خفت أن يرمينا مشترو تذاكر الاشتراكات بالنصب والاحتيال. ولذلك قصدت إلى محام مشهور هناك وطلبته إليه أن يكتب عريضة باسمي إلى النيابة العمومية يشرح فيها الموقف، ويقول إنني مستعد أن أعيد لمن بيدهم الاشتراكات أثمانهم بعد أن أحصل على المال من بقية البلاد التي في النية زيارتها.
وأخيرا استطعنا أن نتفق مع إدارة التياترو على العمل به بعض ليال أخرى نحييها عقب عودتنا من عدة بلاد غير مدينة تونس، وقمنا إلى صفاقص وصوصه وبيزرت وكان النجاح في كل منها بالغا أشده، وبدأت يدي تلمس النقود بعض الشيء، ولكن السادة دائني متعهدنا كانوا لنا بالمرصاد، فلم يرحموا غربتنا ولم يرعوا مصيبتنا فلاحقونا في كل مكان!
الفصل الحادي عشر
بين المسرح والسينما
قررنا أن نزور الجزائر بعد أن انتهى مقامنا في تونس، فشددنا رحالنا إليها.
وهنا أقف لحظة بسيطة لأقول إن علاقتنا بالسيد السند علي يوسف (الامبرزاريو) كانت قد انقطعت، وإننا احتجنا إلى من يقوم مقامه ليسبقنا إلى البلاد التي نزورها ويمهد لعملنا فيها، فكان أن أوفدنا الزميل العزيز بديع خيري إلى بلدة «سراكوس». وقد قصد إليها قبل وصول الفرقة بعدة أيام. وبعد أن انتهينا من هذه البلدة، زرنا بلادا أخرى، وأخيرا قصدنا إلى عاصمة القطر (الجزائر)، فأحيينا فيها بنجاح منقطع النظير ثلاث حفلات جاءتنا بإيراد كبير، استطعت ببعضه أن أسدد جميع الديون التي طوقنا بها متعهدنا السابق، كما أنني وسعت على الممثلين بالبعض الآخر.
ثم حدث في بلدة «وهران» ما لم أكن أتوقعه. فقد سافرت بديعة دون علمي، فأسندت أدوارها إلى كل من فتحية شريف وبهية أمير، ولكن بديعة بعدئذ اتصلت بي تليفونيا من الجزائر واعتذرت عن تسرعها بالهرب، وأكدت أنها عائدة في اليوم التالي. ولكنها للأسف لم تف بوعدها.
العودة إلى مصر
وبعد أن انتهينا من بلاد الجزائر، قمنا إلى مراكش، فلقينا الكثير من ضروب الحفاوة في قصر «الباشا»، الذي نفحنا كثيرا من الهدايا في الليلة الختامية لرحلة الفرقة في بلاد المغرب الأقصى. ثم قصدنا إلى مرسيليا ومن هناك قصد أعضاء الفرقة إلى مصر، بينما سافرت أنا إلى باريس، وهناك استطعت أن أسترد من جمعية المؤلفين مبلغ ضريبة الستة في المائة، التي كانت تحجزها مسارح البلديات من إيراد رواياتي في بلاد المغرب الأقصى، وقد بلغ ما استرددته من الجمعية مائة وعشرين جنيها، بقي لدي منها بعد «فسحة» باريس خمسون جنيها مصريا عدت بها إلى مصر. وقد حزمت أمري على أن أجعل بيني وبين الممثلين سدا، فلا أجمع فرقة ولا أعتلي المسرح لحسابي.
وبعد أيام قليلة «برم» المبلغ وأصبحت على الحديدة، فعمدت إلى بعض ما لدي من أثاث وحلي وهات يا بيع، هو احنا رايحين ناخد حاجة.
واستحكمت حلقات الأزمة (أزمتي الخاصة) واستولت «الكريزة» على جيب العبد لله، فهبطت بطعامي من «الرستورانات» إلى محلات الفول المدمس!
أول فيلم سينمائي
وقضيت على هذه الحال المدة من أبريل إلى أغسطس سنة 1933، ثم وصلتني برقية من الأستاذ إميل خوري، الذي كان سكرتير تحرير جريدة الأهرام، يحمل تحويلا بمبلغ خمسين جنيها ويطلب مني أن أوافيه بباريس، لتصوير فيلم كان قد حدثني عنه وقت مروري بباريس. فقمت على عجل بعد أن طلبت من زميلي بديع أن يعد نفسه للحاق بي حين أرسل برقية باستدعائه.
ووصلت إلى باريس وقوبلت بالحفاوة اللازمة، وما هي إلا يومين ثلاثة وبدأت أفهم الفولة!! وإيه هي الفولة؟ هي أن عم خوري أخذ المقاولة من شركة جومون لحسابه هو، وجاء يقنعني بقبول الاشتراك معه بنسبة الثلث، ثم قدم لي سيناريو من وضعه هو، وذكر أنه مشرف لمصر وأنه سينال نجاحا لا نظير له ... وأنه ... إلى آخر الأنهات اللي في الدنيا!
اطلعت على السيناريو فوجدت أنه لا بأس به، إذ تركت لنا الحرية في وضع الحوار الذي يدور بين ممثليه، وفي الحال أرسلت في طلب بديع. ولكن قبل أن يصل الزميل، تقدم إلي إميل وأعطاني نسخة من حوار وضعه باللغة الفرنسية، وطلب إلي ترجمته إلى العربية، بحيث لا نخرج عنه قيد أنملة، فلما قرأته وجدت أنه لا يصلح بتاتا، وخاصة لجمهوري الذي عرفته وعرفني، فحاولت أن أقنع الشريك (المخالف) بأن هذا الحوار في مقدوره أن يسقط بدل الفيلم الواحد فيلمين أو ثلاثة، ولكنه أصر ولم يصغ لأي اعتراض. فصممت إزاء هذه الصلابة على التوقف عن العمل والعودة إلى الوطن، فظل بديع يهدئ من ثورتي، ويعمل على إقناعي بأن عودتي خاوي الوفاض إلى مصر ستطلق ألسنة الناس بالإشاعات والأقوال، وستدع لحضوري فرصة النيل مني، وستكون النتيجة كيت وكيت.
وخشت هذه النصائح في مخي، وزادها ثباتا أن جيبي كان فارغا حتى من ثمن تذكرة العودة، فقلت في نفسي صهين يا واد يا نجيب وأهو فيلم ويفوت ما حد يموت!
وبدأنا عملنا في الفيلم - وقد نسيت أن أذكر لك بأننا اخترنا له اسم (ياقوت) - بدأنا في إخراجه باستوديو جومون يوم الاثنين وانتهينا منه نهائيا يوم السبت التالي، أي أننا كروتناه في ستة أيام!
أما الداعي لهذه «الكروتة» و«الطلصقة»، فهو أن السيد خوري لم يكن يهمه إلا أن يضغط الميزانية. وقد كان، وبعد أسبوعين انتهت عملية المونتاج وجاء خوري ومن معه يجزلون لي التهنئة ويقسمون إنني ... فشر هاري بور وشارل بواييه ومش عارف مين ومين كمان، فهززت رأسي وطمأنتهم بأن الفيلم - مع هذا وذاك - لن تقوم له قائمة، ولن يلاقي أي حظ من النجاح.
أما لماذا نظرت إلى الفيلم هذه النظرة فذلك لأنني صادفت مخرجا لا يفهمني ولا أفهمه وسيناريست عقله زي الحجر وممثلين، سيدي يا سيدي، جمعناهم من الحي اللاتيني ومن جميع الملل والنحل، فمثلا احتجنا لشخص يقوم بدور أستاذ يلبس العمة والقفطان فلم نجد من نسند إليه الدور إلا شخصا فرنسيا لا يعرف من العربية حتى اسمها. وقس على ذلك بقية الأدوار الهامة وغير الهامة، أي أن صيغة منتهى الجموع بتاعة قلة البخت، قد تفضلت بمرافقتي في ذلك الفيلم من بدايته إلى نهايته. ما علينا والسلام نقول إن نجاح هذا الفيلم بعد عرضه كان نسبيا لأنه - كما قلت - لم يكن شعبيا وقد اقتنع ممول الفيلم بصحة ما ذهبت إليه ولكن بعد إيه ... بعد خراب مالطة.
وقبل أن أبارح باريس «ليموني» على خمسين جنيها أخرى على أن أتناول حصتي في الأرباح بعد عرض الفيلم في مصر وعلى خير!
عودتي إلى المسرح
وفي هذه الآونة تسلمت - وأنا بباريس - خطابا من الحاج حفني مدير تياترو برنتانيا يعرض علي العودة إلى مصر لتوقيع عقد اتفاق معه على العمل في مسرحه. ففكرت في ذلك الفن الجميل الذي أحببته من كل قلبي، وتملكت هوايته نفسي، واحتل حبه فؤادي حتى صار كالحسناء التي أخلصت لي وأخلصت لها. فهل أستطيع هجر هذه المعبودة؟ كلا ... وألف مرة كلا!!
وعدت إلى مصر ... واتفقت مع الحاج مصطفى، على أن يتكفل هو بالفرقة مما جميعه، بما في ذلك الممثلات والممثلون، على أن أتقاضى أنا حصة معلومة. وهنا بدأت في تنظيم حياتي ووهبت نفسي مرة أخرى للفن الذي عشقته بعد أن رفعت عن كاهلي عبء التفكير فيما عداه.
وأعددت مع الزميل العزيز بديع رواية «الدنيا لما تضحك» وما كدت أظهر على المسرح في الليلة الأولى من التمثيل، حتى قابلني الجمهور المحبوب بعاصفة من التصفيق عقدت لساني، فطفر الدمع من عيني لحظات غمرني فيها شعور لا أستطيع وصفه.
فيلم ثان
وفي هذا الوقت تقدم إلي بعض الممولين السينمائيين، وطلبوا الاتفاق معي على إخراج فيلم «بسلامته عاوز يتجوز»، وعرضوا أن أتقاضى منهم ثمانمائة جنيه مصري وخمسة في المائة من الإيراد وشاورت عقلي، فاتضح لي أن هذه الجنيهات الثمانمائة مبلغ لا يستهان به، خصوصا في وقت أنا فيه بحاجة إلى ... إلى إيه ... إلى مائة فقط.
ومن ناحية أخرى فإنني ذهبت إلى أن إخراج الفيلم الجديد قد يعوضني ما فات في سابقه (ياقوت)، لا سيما وأن مدير الإنتاج الأخير قد أظهر لي منتهى الاستعداد في أن يدع لي جميع المهام الفنية التي يقضتيها إظهار الفيلم في مظهر لائق.
وجاء المدير المالي بشخص وفد من بلاد المجر، وقال لي إنه شقيق السينمائي الشهير «فاركاتش» الذي اقترن اسمه باسم فيلم (الموقعة)، مثل فيه شارل بواييه ... وأنه ... وأنه ... إلخ ... فقلت له إنني لا أطمئن لمخرج أجنبي، حتى ولو كان من الذين أشرفوا على أفلام جريتا جاربو ومارلين ديتريش، لأنه لن يصل إلى حقيقة أخلاقنا وباطن عاداتنا، قلت هذا قبل أن أرى المخرج المذكور أو أختلط به، فلما تم ذلك زدت يقينا بما أدليت، واعتقدت أنني سائر بالفيلم الجديد في نفس الطريق الذي رسم في رصيفه القديم، وأن «شهاب الدين» لا يزال يسعى وراءنا مطالبا بأخيه!!
وحاول المنتج أن يزيل مخاوفي فطمأنني بأنه سيتركني أقبل ما بدا لي.
وبدأنا الفيلم ، بل وقطعنا في العمل شوطا بعيدا، كانت الحزازات أثناءه بيني وبين المخرج تزداد ضراما، لأنني كنت أشاهد بعيني منه عكس ما أريد، فقد كانت إرشاداته للممثلين في المواقف الفكاهية باعثة على البكاء ... لا على الضحك.
وعرض الفيلم على المتفرجين، وكنت بين المتفرجين بالإكراه. وأصارحك أيها القارئ العزيز بأنني حين رأيت نفسي على الشاشة لم أكن أتصور أنني بمثل هذه الفظاعة المؤلمة، وأنني من السخافة على مثل هذه الدرجة التي ابتدعها المخرج من «صبيان» أفكاره البايخة، حتى لقد كان يتراءى لي - كمتفرج - أنني لو لقيت نجيب الريحاني عند الباب أثناء خروجي، لخلعت - يكرم من سمع - ونزلت ترقيع في أصداغه إلى أن أوصله بيته العامر!
انتقام من السينما
وفي هذا الوقت كان حظي في المسرح «ضارب» نار، وكأنني كنت أنتقم من خذلاني في السينما، فقد شفيت غليلي ومعي بديع زميلي، ووضعنا كل همنا في إخراج رواية كاملة المعاني. وكان التوفيق رائدنا بعون واحد أحد، فأتممنا تأليف رواية «حكم قراقوش»، وقد جاءت هذه الرواية بدعة من حيث الوضع والتنسيق، ومن ناحية وجود الفكاهة العذبة والتسلية اللذيذة، في سرد حوادثها وفي رسم شخصياتها.
فلما رأيت نجاحها، حمدت الله الذي عوضني عن السينما بهذا النجاح المسرحي الهائل، ولهذا عقدت نيتي من ذلك الحين على أن أهجر الشاشة بتاتا، وفي خشبة المسرح متسع لي، وإطفاء لشهوتي الفنية وغذاء لروحي المتلهفة على الوصول إلى الكمال بقدر الإمكان، ومن ثم رفضت جميع العروض السينمائية التي تقدم إلي بها كثيرون من الماليين ومن رجال الفن العديدين.
وبعد «حكم قراقوش» أخرجت «مين يعاند ست»، فكانت هي الأخرى انتصارا لي مع أنها كوميديا من النوع «الناعم»، إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن، وحل الصيف فتأبطت ذراع زميلي بديع وقصدنا إلى جزيرة قبرص، وهناك هيأت لنا الظروف الصالحة وضع رواية «مندوب فوق العادة»، وكان في عزمنا أن نفتتح بها موسم 1946، ولكن الظروف المواتية مكنتنا من وضع رواية (قسمتي)، التي افتتحنا بها ذلك الموسم، وأبقينا الرواية الأولى بمثابة احتياطي لنا. وأعترف بأن هذه هي أول مرة في حياتي أحتفظ فيها بما يسمى الاحتياطي.
وبعد عرض الروايتين «قسمتي» و«مندوب فوق العادة» فكرت في إخراج رواية استعراضية نختم بها الموسم فأعددت العناصر اللازمة لها واشتركت مع الزميل بديع خيري في وضعها بعد أن أطلقنا عليها اسم «الدنيا على كف عفريت».
فيلم ثالث
وفي أحد الأيام التي كنا نستعد لإخراج تلك الرواية على المسرح، وبينما كنت أرتدي ملابسي لموافاة الممثلين في البروفة دق جرس التليفون وكان المتحدث زميلي بديع، يبلغني أنه في أستوديو مصر، وأن الأستاذ أحمد سالم مديره يود رؤيتي سريعا. فسألت بديعا: ألم يطلعك على أسباب هذه الرغبة؟ فقال كلا. وقبل أن أتوسع في طلب معلومات من بديع تناول الأستاذ سالم بوق «الأرزيز» ... أنت فاهمني؟ الأرزيز ... والأرزيز هو التليفون بلغة المجمع اللغوي، واسألوا أهل الذكر! وسمعت الأستاذ أحمد سالم يضرب لي موعدا أقصاه نصف ساعة ولكي يسهل مأموريتي أبلغني أن سيارته ستكون أمام منزلي قبل هذا الموعد.
وأكملت ارتداء ملابسي، ورحت أضرب أخماسا في أسداس. لا شك بأن مدير أستوديو مصر لم يطلبني بمثل هذه السرعة لأشترك معه في مباراة شطرنج، والا عشرة دومينو أمريكاني، فلابد إذن أن هناك عملا اقتضى هذا الاستدعاء، وأن هذا العمل لن يكون إلا فيلما للأستوديو. لقد كان مجرد التفكير في السينما يزعجني، بعدما رأيت منها فيما مضى، وبعدما قاسيت ممن اشتركت معهم، ولذلك قضيت الطريق بين منزلي وبين الأستوديو، مفكرا في طريقة الاعتذار «بذوق» عن ظهوري على الشاشة، وبزيادة علينا المسرح ... وبينا وبين السينما ربنا!!
ووصلت الأستوديو وهناك لقيت الأستاذ أحمد سالم وحسني نجيب وبديع خيري. سلام عليكم. عليكم السلام، وبعد التحيات الطيبات، والمجاملات المتبادلات (معلهش يا اخوانا يا فصحاء القافية حكمت)، فهمت من الأستاذ سالم أنه يسر الأستوديو أن يخرج فيلما لي ... آه وقعت الفاس في الراس!! ولم أجد ما أجيب به غير أنني مشتغل إذ ذاك بإخراج رواية مسرحية جديدة وأنها تستغرق كل أوقاتي فأمهلني حتى أنتهي منها.
ودارت بيننا مناقشة أكد لي فيها الأستاذ سالم أن روح التعاون بيننا ستكون وثيقة، ويظهر أنه أحس من ناحيتي بعض التردد أو الرغبة في «الحمرقة»، فصارحني بحقيقة كنت أجهلها، قال لي ما معناه إن الناس بدءوا يلوكون اسمك في معرض الفشل في السينما، وإن واجبك يدعوك إلى الدفاع عن نفسك بطريقة عملية، فقدم الدليل لأولئك القوم على أن الفشل الماضي أتى عن غير طريقك، لأن العوامل التي أفسدت عليك سبيلك لن يكون لها وجود في ستوديو مصر.
كان هذا الكلام الحكيم وغيره كافيا لإقناعي، لا سيما وقد شعرت من خلال الحديث أن روح الصداقة تتمثل فيه، وأن الصراحة هي التي تمليه. كما تبين لي أن محدثي كان يرمي إلى أن يجعل هدفه الأول، وغرضه الأسمى، الوصول إلى النجاح دون كل الاعتبارات المتباينة ... النجاح الذي يعود أثره لا لي وحدي - بل وللهيئة التي يشرف على إدارتها. وانتهت هذه الجلسة بالاتفاق المبدئي على الاشتراك في إخراج الفيلم بعد الانتهاء من رواية «الدنيا على كف عفريت».
لماذا عدت إلى السينما
وفي هذه الأثناء ظهر فيلم «الحل الأخير» فكان نجاحه مشجعا لي على الإقدام، لأننا رأينا من الجمهور ناحية طيبة مطمئنة، هي أنه بدأ ينظر إلى العمل من حيث قيمته الفنية لا من حيث الشخصيات القائمة به. أقول إن هذا الإقبال الكبير على «الحل الأخير» زادني طمأنينة، وطرد من مخيلتي شبه التردد الذي كان يلازمني قبل مشاهدته، واشتركت مع بديع في وضع فكرة السيناريو ثم ذهبنا إلى الأستوديو ولقينا الأستاذ أحمد سالم، فعرضنا عليه فكرتنا، ولكنه أمهلنا يومين قابلناه بعدهما فعرفنا منه أنه قائم في الغد إلى أوربا، لأعمال تستدعي غيابه فترة. ثم قص علينا فكرة جديدة مفضلا جعلها أساسا للسيناريو الذي نضعه، ولا أجد غضاضة في التصريح بأن هذه كانت المرة الأولى التي استحسنت فيها قصة لأي إنسان كان!
ووافقني بديع على صلاحية هذه الفكرة، فعقدنا النية على بناء سيناريو «سلامة في خير» على أساسها. وقد كان. وأود أن أشير هنا إلى أن اختيارنا كان قد وقع على اسم «أفراح » لإطلاقه على الفيلم، ولكن الأستاذ سالم فضل عليه اسم «سلامه في خير» وقد كان ... برضه، وسافر الأستاذ أحمد سالم إلى أوربا بعد أن سلمنا للأستاذ نيازي مصطفى بصفته مخرجا للفيلم. وإني لأذكر أنني صدمت هذا الفتى في ذلك الحين بتصريح غير مستحب، لأنني لدغت من مخرجين قبله. ولا يلدغ الممثل من مخرج مرتين!! ولكن بمرور الوقت وبالاختلاط في العمل عرفت قيمة نيازي، فاعترفت بخطئي السابق في تقديره فهو كفء مخلص لفنه.
وكانت اجتماعات متعددة متتالية بيني وبين بديع ونيازي عالجنا فيها وضع السيناريو وربط موضعه وحوادثه.
وهنا أكشف للقراء سرا لم يقف عليه واحد منهم، وهو أنه بعد أن تم من تصوير الفيلم أربعة أخماسه ولم يبق إلا خمسه، كانت هناك أجزاء من الفيلم لم ننته من تأليفها بعد تماما. كما نفعل في رواياتنا المسرحية ... واللي فيهش ما يخلهش!
وسرنا في عمل الفيلم وحولنا جو من التفاهم التام لم يكن لي به عهد من قبل، فقد كان المخرج يعمل في حدود واجبه، وكثيرا ما عاوننا بأفكار ثاقبة، وآراء ناضجة، فكنا نحن الثلاثة نواصل العمل سويا، وكل منا يشعر أنه يؤدي فرضا واجبا يدفعه إليه الإخلاص والحرص على النجاح.
وقبل أن ننتهي من آلام الوقوف أمام الكاميرا آناء الليل وأطراف النهار، استلمني المسرح. ولهلبني الموسم فاقتحمته بروايات قديمة نزولا على نصائح الأعزاء من الإخوان واقتراحات المحبين من المتفرجين. ولكن ذلك لم يحل بيني وبين التفكير مع الزميل في الرواية الجديدة «لو كنت حليوه».
ومع ذلك فإن أبراج المخ الغلبان، كانت حاتطير طيران، والذي زاد الطين بلة ما أصابه في نهاية العمل بالأستوديو على أثر الأضواء التي كنت أقف تحت وهجها الساعات الطويلة، والتي تكفي من غير مبالغة لكهربة خزان أسوان، ولولا أن الله قيض لي بعض الأطباء الأصدقاء الذين اختشى منهم المرض على عرضه ففارقني غير مأسوف عليه ... أقول لولا ذلك لعرضت نفسي على مؤتمر الرمد الدولي الذي عقد بالقاهرة، ولكن الحمد لله جت سليمه ... والبركة في الإخوان.
لتحيا المنصورة
وشاء الحظ أن أتنقل بعدئذ بين طنطا والمنصورة ودمياط حيث أمضيت مع الفرقة ليلة في كل من هذه المدن، أحيينا في الأولى حفلتين (ماتينيه وسواريه) وأريد أن أثبت هنا أن الفقير الماثل الآن بين يديكم أيها القراء، استقبل في مدينة المنصورة استقبالا لم يكن ينتظره. ويظهر أن منشأ هذه الحفاوة عائد إلى أن فيلم «سلامه في خير» عرض في المنصورة قبل أن نزورها، فأرادوا - المنصوريون الكرام - أن يظهروا «لمحسوبهم» لونا من ألوان التكريم، الذي اشتهروا به، فقابلوني تلك المقابلة التي لا أنساها!! وقد أطلق جميلهم لساني بترديد الشكر لهم في كل مجال وأثبته في مذكراتي ليكون مسكا للختام.
وفي المساء قدمنا رواية (مندوب فوق العادة)، فما كدت أظهر على المسرح حتى استمر التصفيق بضع دقائق. وهذا عمل أعترف بعجزي عن الشكر من أجله. وإن كنت لا أجد ما أقوله غير: «فلتحيا المنصورة».
وعدت إلى القاهرة في يوم الأربعاء، ويصح أن أعترف أن الأيام الثلاثة التي قضيتها خارجها كانت بمثابة إجازة من بعض الوجوه، استراح فيها فكري ومخي راحة أرجو أن تعوضني بعض ما أفقدني العمل إياه، وهاأنذا واضع نصب عيني وضع رواية جديدة «لو كنت حليوه» بالاشتراك مع أخي وصديقي بديع وأرجو الله أن يكتب لها الفلاح فنضمها إلى لستة أخواتها السابقات.
نتيجة
الآن يا قارئي العزيز أقف لحظة قبل أن أضع القلم في مكمنه وقبل أن أدفع هذه الخاتمة إلى المطبعة.
أقف لأتذاكر وإياك في حديث لابد منه، وهو أنني قصرت ما نشرت على حياتي العملية وحدها ولم أمس الحياة الشخصية إلا مسا خفيفا كانت تقتضيه ظروف السرد والشرح، وكم كانت ذكريات الحوادث تمثل أمام ناظري حين كتابتها وكأنها كانت من حوادث اليوم الذي أكتب فيه مع أنه مضى على وقوعها سنوات.
والآن ... بعد أن تذوقت من الحياة حلوه ومرها، وبعد أن جرعتني كأسها حتى الثمالة - كما يقولون - بعد ذلك كله أقر وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي، خرجت منها بصديق واحد، صديق هو كل شيء، وهو المحب المغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد ... ذلك الصديق هو عملي!!
إنه أشبه بالمعشوقة الفاتنة التي كملت أوصافها ومحاسنها، أولا أنها غيور ... غيور بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فهي وفية ما دمت وفيا لها، أما إذا حدثتني النفس بخيانتها فالويل وسواد الليل إنها تكشر عن أنيابها، وتقلب لي ظهر المجن تتنمر وتتنكر، وترغي وتزبد، وتفور وتثور، وتطلع القديم والجديد. نعم أيها السادة، فإنني حين أتفرغ لعملي أجد النجاح يواتيني والحظ مقبلا علي ... أما إذا اتجهت بقلبي إلى شيء آخر ... أو إذا ساقت لي الظروف غراما طائشا ... فإنه يخلع نعليه ... ليجعل من رأسي منفضة لهما ... والعياذ بالله.
وكثيرا ما تعاودني الذكريات حين أجتمع بالأخ الصادق بديع خيري فنتذكر شئون الماضي، ونعترف بأننا كوفئنا حق المكافأة إذ اكتسبنا جمهورا يقدرنا ويقدر عملنا، وإن كان حظنا من الناحية المادية هو حظ الأديب في مصر ولكن معلهش برضه ... مستورة والحمد لله، وكل ما يهمنا هو أننا نشعر بأن علينا رسالة نؤديها للوطن المحبوب وقد أديناها كاملة وكوفئنا على هذه التأدية، وحتى لو فرضنا أننا لم نكافأ فما كان ذلك ليحول بيننا وبين أداء الواجب.
بقيت العبرة التي أبثها أخيرا وهي أنني أصبحت أعتقد أن العواطف وما إليها من الكلمات والاصطلاحات المنمقة ليست إلا لهوا ولعبا وتجارة، يمارسها بعض الناس للضحك بها على عقول السذج وقاصري الإدراك، تماما كما تفعل «المعددة» في المآتم، فإنها تأتي بعبارات الأسى والحزن العميق الذي يفتت الأكباد ويحرك الجماد، ومع ذلك فإنك تبحث في قرارة فؤادها فلا تجد مثقال ذرة من الحزن والألم.
ذلك ما أوصلتني إليه التجارب فيما يختص بالعواطف، ولعل ما يراه الجمهور من المواقف المضحكة في رواياتي منشؤها هذا الاعتقاد الراسخ في حياتي.
كلمة واجبة
وهنا أراني مدينا للصديق العزيز توفيق المردنلي بكلمة شكر لأنه كان السبب الأول والأخير في حملي على كتابة هذه المذكرات، فأنا - ولا حياء في الحق - أقرب إلى الكسل إذا لم أجد الدافع الذي يسوقني إلى ما أريد.
وقد قيض الله لي في صديقي توفيق ناصحا أقنعني في البداية بضرورة كتابة مذكراتي ونزلت على تلك النصيحة إلى أن انتهيت منها بعون الله وحمده ... فليكن شكري لتوفيق آخر ما تخط يميني في هذه المذكرات. ووداعا يا قرائي الأعزاء.
ناپیژندل شوی مخ