فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ولم تكن تمر ليلة إلا ويقف في إحدى مقاصير كازينو دي باري في أثناء التمثيل، أو في فترة الاستراحة، خطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويهتف بسقوط الريحاني (داعية الإنجليز وربيب نعمتهم). كل ذلك وهم يعرفون تماما أن الريحاني كان هدفا لنقمة الإنجليز وسلطتهم العسكرية في مصر، وكثيرا ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمتنورين، فيردون على سفاسف أولئك الخطباء ويسفهون آراءهم.
انتصار
ولكنني مع ذلك أعترف بأن دعاة السوء قد استطاعوا التأثير في بعض السذج بهذه الدعاية.
فلما رأيت هذه النتيجة طلبت إلى الصديقين المرحوم محمد تيمور بك والأستاذ بديع خيري، أن يقصدا إلى أحد البارزين من أعضاء الوفد المصري الذين يعتقد الشعب بآرائهم، ويطلبا إليه أن يتفضل بمشاهدة تمثيل الرواية، ثم يحكم بعد ذلك من الناحية الوطنية لها أو عليها. فكان أن وقع اختيارهما على المرحوم مرقص حنا، وكان إذ ذاك وكيلا للجنة الوفد المركزية. فذهبا إليه، وفي المساء نفسه حضر رحمه الله في رفقة السيدة قرينته والآنسة كريمته السيدة عايدة هانم (قرينة الأستاذ مكرم عبيد).
وفي اليوم التالي تفضل المرحوم مرقص حنا فنشر في الصحف رأيه الصريح، مقرظا الرواية نافيها عنها كل ما يذيعه المغرضون لحاجة في نفس يعقوب. فكان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة، معولا دك حصون خصومي ودورهم على أعقابهم خاسرين. ومع ذلك فإن فرارهم من الميدان العام لم يكن ليحول بينهم وبين بث دعايتهم، كل وما يقدر عليه. ولعله من الظريف أن أروي في هذه المناسبة ما وقع بين واحد منهم وبيني شخصيا!
مقارنة مضحكة
كان ذلك في سنة 1920، حين وفد إلى مصر الممثل الفرنسي الكبير (جان كوكلان). وكانت الصداقة قد ربطت بيني وبينه موثقا، فدعاني إلى مشاهدة إحدى رواياته في حفلة (ماتينيه) بتياترو برنتانيا القديم. ولبيت الدعوة، وكان إعجابي بالرواية شديدا بحيث كنت من أكثر المتفرجين تصفيقا. وهنا التفت إلي الشخص الجالس في المقعد المجاور لي ولم يكن بالطبع يعرف من أنا، وقال ما نصه: «أيوه كده ... أهو دا التمثيل الصحيح مش الراجل كشكش اللي بيضحك على عقلنا بكلامه الكارع».
وتمشيت معه في الحديث، فوصفت كشكش بأنه دجال لا أقل ولا أكثر. «وتبحبح» الرجل معي بحبحة «فضفض» فيها بكل ما يأكل قلبه من حقد. وأنا أنصت إليه بكل انتباه. ويظهر أن الشك داخل الرجل أخيرا، فسألني عن شخصيتي، وتطمينا له أجبته بأنني وإن أكن «شقيق» نجيب الريحاني، إلا أنني لا أقر خطته في المسرح، ولا أوافق مطلقا على النوع الذي يعرضه أخي الدجال!
تدهور مادي ومعنوي
ناپیژندل شوی مخ