وفي حفلة أقامها نادي الضباط المصري قدم الريحاني مسرحية «حكم قراقوش» فهرع إلى تهنئته والإعجاب به سير سايمور هيكس، عميد المسرح الإنجليزي إذ ذاك، وقرر أنه إنما يشهد ممثلا في الصف الأول من الممثلين العالميين.
ولقد لقي الريحاني تكريم عظماء عصره، وكان من بين المعجبين به طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وتوفيق نسيم، وغيرهم.
ولقد كانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في «الميزانسين» - أي ترتيب حركة وأوضاع الممثلين - تخالف المألوف ... كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية دون تغيير أو تبديل! •••
والصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارا على المسير في الاتجاه الكوميدي. ولقد كان الريحاني يحب الدراما، وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته «جورج الريحاني» الذي اختفى قبل موته بسنوات طويلة لغير ما سبب. وقد ظل سبب اختفائه حتى مات نجيب الريحاني - ولا يزال - لغزا غامضا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهب واعتكف في أحد الأديرة!
وكان الريحاني يحن من وقت إلى آخر للدراما، ولكنه كان لا يلقى تجاوبا من الجمهور، ويقول الريحاني نفسه عن ذلك: «بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي هذه الديون من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة ... كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدراما من غير «إحم» ولا «دستور!».
نعم ... أجبره جمهوره على ترك الدرامة، فقد كان الجمهور يراه فكها بالسليقة، أو كما عبر عنه أحدهم: «لا تتمالك أن تراه حتى تضحك، ولو من تكشيرته ووجهه المكفهر»! والواقع أنه حتى في تعبيراته وإيماءاته وحركاته كان فكها غير متكلف. كانت الفكاهة في دمه، وكان الممثل المفضل عنده هو شارلي شابلن، الذي كان يعتبره فيلسوف الفن، ولك أيها القارئ أن تقارن بين المعجب والمعجب به. لقد كان كلاهما فيلسوفا، وكانت فلسفة الضحك على نقائص المجتمع الذي يعيش فيه، فلسفة إصلاح تهدف إلى علاج هذه العيوب بإبرازها في شكل يجعلنا نضحك منها ونسخر!
ومع ذلك فقد كان لا يفتأ يعاوده الحنين إلى الدراما، فلما كتب عليه ألا يمارسها، كان يرضي ميله هذا بتغذية مسرحياته الفكاهية بالكثير من الدراما، ولولا محاولاتي الدائمة للحد من هذا الاتجاه، تمشيا مع رغبات الجمهور الذي كان يرى أنه خلق للفكاهة، لتمادى فيه! •••
والصورة الثالثة ... هي صورة الريحاني الوطني الثائر، الذي جعل من المسرح منبرا للوطنية ... الرجل الذي عالج السياسة بالفكاهة، وفتح عيون الجماهير إلى سوء حالها، وهاجم الإنجليز وأعوانهم في مسرحياته وتهكم عليهم، فلقي من عنت الاستعمار، واضطهاد السراي، الشيء الكثير. ويقول نجيب الريحاني في مذكراته: «حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال، وذلك النجاح، أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي: فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان يغازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية»!
وأشهد أن الريحاني لم يأبه بهذه الحملات على شخصه، وظل سادرا في حملاته التهكمية اللاذعة، فالريحاني إذن قد مهد بفنه للثورة الحديثة التي حررت مصر من الأدواء التي ضحك منها وتهكم عليها، وعلى رأسها الاستعمار والاستبداد والطغيان والاستغلال. واستمع إلى أغاني سيد درويش التي ضمنها الريحاني مسرحياته، تستمع إلى ثورة متأججة في سبيل العزة والكرامة والحرية. لقد كان الريحاني هو الفنان الوحيد الذي وقف في وجه السراي، وتهكم على الجالس على العرش، وأبرز مساوئ محترفي السياسة وأضحك الناس عليهم جميعا، مما أثار حقدهم وغضبهم. •••
والصورة الرابعة هي صورة الريحاني الإنسان الوفي لأصدقائه وأبناء مهنته. كان الريحاني يفر من الحفلات العامة، ولكنه لا يتردد في حضور حفل يقيمه أصدقاؤه، وكثيرا ما كان يقيم لهم الحفلات، وكان مبالغة في التكريم يطهي لهم لونا من ألوان الطعام، وإن لم يتسع له الوقت كان يصنع السلطات. ووفاؤه وحبه لخادمه النوبي «حسن صالح» - الذي اشتهر فيما بعد «بحسن كشكش» - يعد مضرب المثل. فقد كان نجيب يعتبره «قدم سعد»، إذ اقترن عصره الذهبي في المسرح بالتحاق حسن بخدمته. ومن بين النساء كانت صديقته «لوسي دي فرناي» هي التميمة السعيدة التي صحبت عشرته لها السعادة في الحب والمال. ويقول نجيب: «كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها».
ناپیژندل شوی مخ