وشاء الحظ أن أتنقل بعدئذ بين طنطا والمنصورة ودمياط حيث أمضيت مع الفرقة ليلة في كل من هذه المدن، أحيينا في الأولى حفلتين (ماتينيه وسواريه) وأريد أن أثبت هنا أن الفقير الماثل الآن بين يديكم أيها القراء، استقبل في مدينة المنصورة استقبالا لم يكن ينتظره. ويظهر أن منشأ هذه الحفاوة عائد إلى أن فيلم «سلامه في خير» عرض في المنصورة قبل أن نزورها، فأرادوا - المنصوريون الكرام - أن يظهروا «لمحسوبهم» لونا من ألوان التكريم، الذي اشتهروا به، فقابلوني تلك المقابلة التي لا أنساها!! وقد أطلق جميلهم لساني بترديد الشكر لهم في كل مجال وأثبته في مذكراتي ليكون مسكا للختام.
وفي المساء قدمنا رواية (مندوب فوق العادة)، فما كدت أظهر على المسرح حتى استمر التصفيق بضع دقائق. وهذا عمل أعترف بعجزي عن الشكر من أجله. وإن كنت لا أجد ما أقوله غير: «فلتحيا المنصورة».
وعدت إلى القاهرة في يوم الأربعاء، ويصح أن أعترف أن الأيام الثلاثة التي قضيتها خارجها كانت بمثابة إجازة من بعض الوجوه، استراح فيها فكري ومخي راحة أرجو أن تعوضني بعض ما أفقدني العمل إياه، وهاأنذا واضع نصب عيني وضع رواية جديدة «لو كنت حليوه» بالاشتراك مع أخي وصديقي بديع وأرجو الله أن يكتب لها الفلاح فنضمها إلى لستة أخواتها السابقات.
نتيجة
الآن يا قارئي العزيز أقف لحظة قبل أن أضع القلم في مكمنه وقبل أن أدفع هذه الخاتمة إلى المطبعة.
أقف لأتذاكر وإياك في حديث لابد منه، وهو أنني قصرت ما نشرت على حياتي العملية وحدها ولم أمس الحياة الشخصية إلا مسا خفيفا كانت تقتضيه ظروف السرد والشرح، وكم كانت ذكريات الحوادث تمثل أمام ناظري حين كتابتها وكأنها كانت من حوادث اليوم الذي أكتب فيه مع أنه مضى على وقوعها سنوات.
والآن ... بعد أن تذوقت من الحياة حلوه ومرها، وبعد أن جرعتني كأسها حتى الثمالة - كما يقولون - بعد ذلك كله أقر وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي، خرجت منها بصديق واحد، صديق هو كل شيء، وهو المحب المغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد ... ذلك الصديق هو عملي!!
إنه أشبه بالمعشوقة الفاتنة التي كملت أوصافها ومحاسنها، أولا أنها غيور ... غيور بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فهي وفية ما دمت وفيا لها، أما إذا حدثتني النفس بخيانتها فالويل وسواد الليل إنها تكشر عن أنيابها، وتقلب لي ظهر المجن تتنمر وتتنكر، وترغي وتزبد، وتفور وتثور، وتطلع القديم والجديد. نعم أيها السادة، فإنني حين أتفرغ لعملي أجد النجاح يواتيني والحظ مقبلا علي ... أما إذا اتجهت بقلبي إلى شيء آخر ... أو إذا ساقت لي الظروف غراما طائشا ... فإنه يخلع نعليه ... ليجعل من رأسي منفضة لهما ... والعياذ بالله.
وكثيرا ما تعاودني الذكريات حين أجتمع بالأخ الصادق بديع خيري فنتذكر شئون الماضي، ونعترف بأننا كوفئنا حق المكافأة إذ اكتسبنا جمهورا يقدرنا ويقدر عملنا، وإن كان حظنا من الناحية المادية هو حظ الأديب في مصر ولكن معلهش برضه ... مستورة والحمد لله، وكل ما يهمنا هو أننا نشعر بأن علينا رسالة نؤديها للوطن المحبوب وقد أديناها كاملة وكوفئنا على هذه التأدية، وحتى لو فرضنا أننا لم نكافأ فما كان ذلك ليحول بيننا وبين أداء الواجب.
بقيت العبرة التي أبثها أخيرا وهي أنني أصبحت أعتقد أن العواطف وما إليها من الكلمات والاصطلاحات المنمقة ليست إلا لهوا ولعبا وتجارة، يمارسها بعض الناس للضحك بها على عقول السذج وقاصري الإدراك، تماما كما تفعل «المعددة» في المآتم، فإنها تأتي بعبارات الأسى والحزن العميق الذي يفتت الأكباد ويحرك الجماد، ومع ذلك فإنك تبحث في قرارة فؤادها فلا تجد مثقال ذرة من الحزن والألم.
ناپیژندل شوی مخ