يا ربَّة العير ردِّيه لمرتعه ... لا تظعني فتهيجي النَّاس بالظَّعن
أضحت أيادي بني عمرو مجلَّلة ... تمَّت بلا كدر فيها ولا منن
ثواب ما قد أتوه عندنا لهم ... الشُّكر منَّا لما أسدوا من الحسن
فأجاز أبو سيّارة العدوانيّ بالناس أربعين سنة على عير له، حتى إن كانت العرب لتضرب المثل به فتقول: أصحُّ من عير أبي سيَّارة.
قال: فبينا عامر يدفع بالناس إذ بصر به رجل من ملوك غسّان فأعجبه نحوه فكلّمه، فإذا أحكم العرب وأحلمهم، قولا، وفعلا، وفعلا. فحسده الغسّانيّ، وقال في نفسه، لأفسدنَّه.
فلما صدر الحاجّ أرسل الملك إلى عامر، أن زرني حتى أتَّخذك خَّلا، وأحسن حباءك، وأعظِّم شرفك.
فأقبل عامر على قومه، فقال، ماذا ترون؟ قالوا: نرى ألا تردَّ رسوله، اشخص، ونشخص معك، فتصيب من رفده ونفعه، ونصيب معك، ونتَّجه بجاهك. فخرج وخرج معه نفر من قومه.
فلما دخل بلاده تكشف له رأيه وأبصر أنه قد أخطأ، فجمع إليه أصحابه، فقال: " ألا ترون أن الرأي نائم والهوى يقظان، وقد يغلب الهوى الرأي، ومن لم يغلب الهوى بالرأي ندم، وعجلت حين عجلتم عليّ، ولئن سلمت لا أعود بعدها لمثلها، وإنا قد تورّطنا في بلاد هذا الرجل، فلا تسبقوني بريث أمر أقيم عليه، ودعوني ورأيي وحيلتي لكم ".
فقدم على الملك، فضرب له قبّة ونحر له جزورا.
فقال له القوم: قد أكرمنا كما ترى، وما وراء هذا خير منه.
فقال: لا تعجلوا، فلكلّ عام طعام، ولكل راع مرعى، ولكل مراح مريح، وتحت الرًّغوة الصريح.
فمكثوا أياما، ثم أرسل إليه الغساني، قد رأيت أن أجعلك الناظر في أمر قومي، فإني قد رضيت عقلك وأتفرغ للذَّتي ومركبي، فما رأيك؟ فقال: أيها الملك، ما أحسب أن رغبتك فيّ بلغَّتك أن تجعل لي ملكك، فقد قبلت إذ وليتني أمور رعيّتك وقومك، وإن لي كنز علم، وإن الذي أعجبك من علمي إنما هو من ذلك الكنز، أحتذى عليه وقد خلّفته خلفي، فإن صار في أيدي قومي علم كلُّهم مثل علمي، فأذن لي حتى أرجع إلى بلادي فآتيك به، فإن صرت بهذا العلم إلى بلدك أبحته ولدك وقومك حتى يكونوا كلهم علماء.
وكان الملك جاهلا، فطمع أن يقطع أصل العلم من عندهم، ويصير لقومه دونهم. فقال له الملك: قد أذنت لك بتعجيل الرَّجعة.
فقال له عامر: إن قومي أَضنَّاء بي، فاكتب لي كتابا بجباية الطريق فيرى قومي طمعا يطيب أنفسهم عني، واستخرج كنزي، وأرجع إليك.
فكتب له بذلك.
فعاد إلى أصحابه، فقال: ارتحلوا.
فقالوا تالله ما رأينا وافد قوم قطُّ أبعد عن نوال، ولا أحيد عن مال.
قال لهم: مهلا، فإن أفضل الرزق الحياة، ولها يراد الرزق، وقال، ليس على الرزق فوت، وغنم من نجا من الموت، ومن يرد باطنا يعيش واهنا، " يقول من لم ينظر في المتعقِّب عاش واهنا ضعيفا، والباطن ها هنا المتعقّب والنظر في العاقبة ".
ولو أخذ في لومكم لاتبعت قولكم، ويل أمِّ الآيات والعلامات، والنظر والاعتبار، والفكر والاختبار.
ثم قدم على قومه، فقال: ربَّ أَكلة تمنع أَكلات، وسنة تجبر سنوات ثم أقام، فلم يعد.
وكان من حديث عامر بن الظرب أيضا أنه خطب إليه صعصعة بن معاوية ابنته، فقال: يا صعصع، قد جئت تشتري مني كبدي، وأكرم ولدي عندي، منعتك أو بعتك، النكاح خير من الأَئمة، والحسب كفاء الحسب، والزوج الصالح يعدّ أبا، قد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، يا معشر دوس: " قال، وقال أكثر أصحابنا يا معشر عدوان ": خرجت كريمتكم من بين أَظهركم من غير رغبة عنكم، ولكنه من خطّ له شيء جاءه، ربّ زارع لنفسه ما حاصده غيره، ولا قسم الظوظ ما أدرك الآخر مع الأول شيئا يعيش به، ولكن رزق آكل من آجل وعاجل، إن الذي أرسل الحيا أنبت المرعى ثم قسمه " أي حفظ "، وكلاَّ لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون، ولن يرى ما أصف لكم إلا كلُّ قلب راع، ولكل رزق ساع، ولكل خلق خُلق، كَيس أو حُمق، وما رأيت شيئا قطّ إلا سمعت حسَّه ووجدت مسَّه، وما رأيت شيئا خلق نفسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا ذاهبا، ولا غانما إلا خائبا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء، فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: وما هو؟ فقد قلت فأصبت، وأخبرت فصدقت.
فقال: أرى أمورا شتى، وشيئا شيئا حتَّى.
1 / 20