فلما كبر عامر وتخوّف قومه أن يموت اجتمعوا إليه، فقالوا له، يا سيدنا وشريفنا، أوصِنا.
فقال: " يا معشر عدوان، كلفتموني تعبا، إن القلب لم يخلق، ومن لك بأخيك كلِّه، إن كنتم شرَّفتموني فقد التمست ذلك منكم، وإني قد أريتكم ذلك من نفسي، وأنّي لكم مثلي، افهموا عني ما أقول لكم؛ من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، وإن الحق لم يزل ينفر من الباطل، ولم يزل الباطل ينفر من الحق، لا تفرحوا بالعلق ولا تشمتوا بالزلّة، وبكل عيش يعيش الفقير، ومن ير يوما ير به، وأعدّوا لكل أمر قدره، قبل الرِّماء تملأُ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامة، فلا تذموا العقوبة، واليد العليا معها عافية، والقود راحة لا عليك ولا لك، وإذا شئت وجدت مثلك، إنَّ عليك كما أَنّ لك، وللكثرة الرُّعب وللصبر الغلبة، من طلب شيئا وجده، وإلاّ يجده يوشك أن يقع قريبا منه.
فيا معشر عدوان، إياكم والشر فإن له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، إنه من دفع الشرَّ بالشرِّ رجع الشرُّ عليه، وليس في الشرِّ أسوة، ومن شبقكم إلى خير فاتبعوا أثره تجدوا فضلا، إن خالق الخير والشر وسعهما، ولكل يد منهما نصيب.
يا معشر عدوان، إن الأوّل كفى الآخر، فمن رأيتموه أصابه شر فإنما أصابه فعله، فاجتنبوا ذلك الذي فعله؛ يا معشر عدوان، إن الشرّ ميّت، وإنما يأتيه الحيّ فيصيبه، ومن اجتنب الشرّ لم يثب الشرُّ عليه؛ يا معشر عدوان، إن الخير عزوف ألوف، ولم يفارق الخير صاحبه حتى يفارقه ولن يرجع إليه حتى يأتيه؛ يا معشر عدوان، ربُّوا صغيركم، واعتبروا بالناس ولا يعتبر الناس بكم، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جر أثركم، وإياكم والحسد فإنه شؤم ونكد، وإن كلَّ ذي فضل واجد أفضل منه، ومن بلغ منكم خطَّة خير فأعينوه واطلبوا مثلها، ورغِّبوه في نيّته، وتنافسوا في طريقته، ومن قصّر فلا يلومنّ إلا نفسه، وإني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا تصدَّقوا.
" يقول من لزم الصدق وعوّده لسانه وفِّق فلا يكاد يتكلم بشيء يظنّه إلا جاء على ظنّه ".
وإنّي رأيت للخير طرقًا فسلكتها، ورأيت للشرّ طرقًا فاجتنبتها، وإني والله ما كنت حكيما حتى تبعت الحكماء، وما كنت سيِّدكم حتى تعبّدت لكم، إن الموعظة لا تنفع إلا عاقلا، وإن لكلّ شيء داعيا، فأجيبوا إلى الحق وادعوا إليه وأذعنوا له " يريد ذلُّوا للحق ".
وكان من حديث عامر أنه زوّج ابنته فعمة ابنة عامر ابن أخيه عامر بن الحارث ابن ظرب، وقال لأمها، وهي ماوية بنت عوف بن فهر حين أراد البناء بها: " يا هذه، مُري ابنتك فلا تنزلن فلاة إلا معها ماء، وأن تكثر استعمال الماء فلا طيب أطيب منه، وإن الماء جعل للأعلى جلاء وللأسفل نقاء، وإياك أن تميلي إلى هواك ورأيك فإنه لا رأي للمرأة، وإيَّاي ووصيّتك، فإنه لا وصيّة لك، أخبري ابنتك، أن العشق حلوٌ، وأن الكرامة المؤاتاه، فلا تستكرهنّ زوجها من نفسها، ولا تمنعه عند شهوته، فإن الرضا الإتيان عند اللذة، ولا تكثر مضاجعته فإن الجسد إذا ملّ ملّ القلب، ومريها فلا تمزحنّ معه بنفسه، فإن ذلك يكون منه الانقباض، ومريها فلتخبأ سوءتها منه، فإنه وإن كان لا بد من أن يراها فإن كثرة النظر إليها استهانة وخفة ".
فلما أدخلت الجارية عليه نفرت منه ولم ترده.
فأتى ابن أخيه العمَّ، فشكا ذلك إليه، فقال له عامر: " يا ابن أخي، إنها وإن كانت ابنتي فإن لك نصيبًا مني " أو قال، فإن نصيبك الأوفر مني " فاصدقني، فإنه لا رأى لمكذوب، فإن صدقتني صدقتك، إن كنت نفَّرتها فذعرتها، فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وإن كانت نفرت منك من غير إنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإلا يكن وماق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم نترك أهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها، وهي فعلت ذلك بنفسها.
فزعمت علماء العرب أن هذا أول خلع كان في العرب وثبت في الإسلام.
وكان من حديث عامر بن الظَّرب أيضا، أنه كان يدفع بالناس في الحج، وذلك أنه كان وقومه طلبوا أن يجيزوا من ورد عليهم من تلقاء محلّتهم ببطن وجّ، وكان طريق أهل السَّراة، وهم أزد شنوءة، فدخلوا على صوفة، فكانوا يجيزون عدوان يوما، وصوفة يوما، وكان الذي يتولى إجازة الحج من عدوان أبو سيّارة العدوانيّ " هكذا أملاه أبو حاتم، وليس بمستو العدواني "، فقال:
1 / 19