يا نفس! إنما أحلام الدنيا ليست بشىء حق بالإضافة إلى أسباب الدنيا. وكذلك أسباب الدنيا ليست بشىء حق بالإضافة إلى عالم العقل الذى هو الشىء الحق والمحل الحق. وإنما شرحت لك يا نفس هذه المعانى لئلا تغتبطى بمشاهداتك التى فى عالم الحس، فتكونى كالذى نام فرأى فى منامه أشياء حسنة مبهجة أنيسة فركن إليها. فلما استيقظ حزن وجزع على مفارقته تلك الأشياء التى رآها فى نومه نعما، حتى إنه بضعف عقله وقلة علمه يعود إلى النوم شوقا منه إلى الأشياء التى رآها فى نومه. فإن كان هذا، يا نفس، قد اتضح لك، فاعلمى أن النفس إذا كانت فى عالم الكون مشاهدة لنعيمه ولذاته وسروره، فإنها مهما تفارقه تألم لذلك أشد الألم وتجزع له أشد الجزع. وبالحقيقة إنما تعود إليه تطلب تلك الأشياء التى كانت تشاهدها — شوقا إليها واغتباطا بها. ومتى كانت النفس فى عالم الكون مشاهدة لبؤسه وأحزانه وضيقته فإنها مهما تفارقه تجد لمفارقته أعظم اللذة وأكمل السرور والراحة. وبحق إنه لو رأى نائم فى منامه كأنه مشاهد الأشياء كلها سمجة وحشة مؤذية، ثم استيقظ من نومه ذلك، لوجد عند استيقاظه أعظم اللذة وأتم السرور والراحة لمفارقته تلك المعانى التى شاهدها فى نومه. نعم! ويكره أن يعود إلى النوم استيحاشا وفزعا من تلك المكاره التى رآها.
يا نفس! متى أعطتك الدنيا شيئا فلا تأخذيه منها، فإنها ربما تطربك لتضحكك قليلا وتبكيك كثيرا. وهذا الفعل منها إنما هو بالطبع، لا بالتكلف. ولن يقدر الشىء الطبيعى أن يكون غير ما هو. فأما النفس فلأنها حية عاقلة مميزة فلها الاستطاعة على أن تنخدع وعلى أن لا تنخدع. فإذا شافهت أفعال المخادع لها ثم انحرفت عن خداعه وحذرته فقد نجت من سوء العاقبة. وإذا قبلت المخادعة والمحال فإنما ذلك بهواها وشهواتها. وكما أنه يمكنها أن تقبل الخداع، فكذلك يمكنها أن لا تقبل ذلك: فهى مالكة الاستطاعة إن شاءت تحرزت من الهلكة، وإن شاءت دخلتها. — فانظرى يا نفس إلى هذه الوصايا، وتدبرى بها، لتفوزى بالنجاة إلى دار البقاء ومحل النور والصفاء، مع السادة الأخيار والأنبياء الأبرار.
مخ ۱۱۱