[chapter 0: Preface]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب معاذلة النفس لأفلاطون وهو أربعة عشر فصلا
مخ ۵۳
[رسالة منسوبة إلى هرمس الحكيم فى معاتبة النفس، وزجرها عن الأمور السفلية، وحضها على طلب ما يلائمها ويشاكلها من الأمور العلوية، وقصوها عما يؤذيها ويوبقها، وحثها على ما فيه استقامتها وصلاحها. وأوضح الدلائل والبراهين على ما شرحه من ذلك. ولم يقتصر على سبر المعنى، بل أغرق فى كشفه لكل أحد بغير قصد تفسير ولا تنميق لفظ، بل بما يقوم فى العقول والأفكار، ويقبله كل ذى لب صحيح. إذ كان ذلك مما يردع عن الانحطاط فى شغب هذه الدنيا الفانية، والتمسك بحبال غرتها، ويرشد إلى أعمال الخير ويحض على الإكثار منه وما يقرب من خالقها ويزلف لديه ويسكن نعيمه الذى لا زوال له ولا انقضاء لمدته.
نفع الله به قارئه، وألهمه طاعته، ووفقه لمرضاته، بمنه وخفى لطفه. والشكر لله كثيرا مستمرا].
[chapter 1: 1] الفصل الأول
قال أفلاطون قدس الله روحه العزيز فى مخاطبته لنفسه:
مخ ۵۴
يا نفس! تمثلى وتصورى ما أنا مورده لك من المعانى العقلية الموجودة وجودا دائما. فما تصورته فقد عقلته واقتنيته وتيقنته كتيقنك أن الحى جنس لنوع الإنسان، وأن المتنفس جنس لنوع الحى، وأن الجسم جنس لنوع المتنفس، وأن الجوهر الأقصى جنس لنوع الجسم؛ وكتيقنك أيضا أن المستوى غير المعوج، وأن الكل أعظم من الجزء، وأن الماء يروى من العطش وأنه بارد رطب بالطبع، وأن النار تحرق وتنضج وأنها حارة يابسة بالطبع — وكسائر ما قد عقلته وشاهدته وشافهته فى عالم العقل وعالم الحس، وما خفى عنك يا نفس مما أنا مبينه لك، فاستعملى فيه التمثل العقلى المتقن الصحيح البرىء ومن الاختلاط والاختلاف، فإنه سيدلك ظاهر ما شاهدته على باطن ما خفى عنك، كما استدل الناظر إلى الصورة الممثلة فى الحائط على وجود المصور لتلك الصورة الممثلة، وكما استدل بما عاين من حركات يده على سرائر تخطيطها وتشكيلها على لطائف ما كان قائما فى فكره ونفسه من جملة ذلك، يا نفس: فإنه قد يستعمل التمثيل على سائر الأشياء بالآثار الموجودة عند غيبة المؤثرين لها، وأيضا قد يستعمل التمثيل له فى الاعتبار والتعجب مما قد ورد ومما هو وارد لا محالة بضروب الأمثال على غائب الأشياء وشاهدها. فاستعملى، يا نفس، التصور والتمثل فى سائر الأشياء الموجودة عقلا وحسا. واعلمى أن الشىء الذاتى بالحقيقة الأصلى التام النورى هو المفيد الحكم اللطيفة والتمييزات الشريفة والحياة الدائمة وسائر الأشياء التى هى جزئيات له لا أجزاء، وهو كلى لها لا كلا. فاعتبرى ذلك يا نفس وتيقظى واحذرى الغفلة والتوانى، واستعملى التهذب من أوساخ الطبيعة؛ واستعينى على ذلك بالخضوع والرغبة والابتهال إلى ينبوع الخير ومظهره، وأصل العقل ومبدعه، ومفيد الحياة والحكمة والجود التام والرحمة، تحيى بذلك يا نفس وتسعدى.
يا نفس! عن مبدع الأشياء ومبدئها ومنشئها — جل جلاله وتقدست أسماؤه — صنعك وأبدعك وجعلك ذات التصور والتمثل: فأما التصور فتصورك الشىء على حقيقة ما أبدعه مبدعه؛ وأما التمثل فتمثلك ما خفى عنك معناه من عالم العقل بما شاهدته فى عالم الحس، مثلا بمثل، ومعنى بمعنى، كما أن تدل ذات الصورة المطبوعة فى الشمع على معناها وحقيقتها فى الطابع، وكما تدل الصورة الممثلة فى الطابع على معنى حقيقتها فى نفس ممثلها ومصورها؛ وكما يؤثر الماء فى الرمل والطين معانى حركاته وتموجه.
مخ ۵۶
فاكتفى منى يا نفس بحقيقة ما قد أوردته لك، واعلمى أن جميع ما أنت مشاهدة له فى عالم الكون والفساد من الصور والصنع إنما هى تمثيلات وتشكيلات معان هى فى عالم العقل بالحقيقة غير زائلة ولا بائدة. وما فى العالم الروحانى فملاحظته بالمشاهدة العقلية. فيجب على كل روحانى وجسمانى عند بلوغه الكون الجزئى أن يتيقن بالعقل أنه حقيقة غير زائلة. وإنما يصور العقل ذاته لذاته فى الهيولى، ثم ينظر بذاته إلى معانى ذاته وصورها فيلتذ بذلك إعجابا منه بذاته، إذ اللذة العقلية هى مما يناله العقل من ذاته بذاته لا بشىء خارج عنه، ولا بعرض عارض بل من ذاته لذاته. وهذه هى اللذة الحق الدائمة الأبدية.
يا نفس! تيقنى واقتنى معرفة الأشياء بآنياتها وماهياتها ولا تحتفلى بمعرفة كيفياتها وكمياتها، لأن المطلبين الأولين بسيطان أزليان ولا وسيط بين النفس وبينهما، وأن المطلبين الآخرين مركبان زائلان زمانيان مكانيان. واعلمى يا نفس أن علم التركيب لن ينفصل معك مجردا محمولا فى ذاتك عند مفارقتك الحس. فخذى علم البسيط، وذرى علم المركب.
مخ ۵۷
يا نفس! هذا جرم الأرض هو أثقل الأشياء كلها وذلك لرسوبه تحت سائر الأشياء وطفو سائر الأشياء كلها عليه. ولذلك صار هذا الجرم فى الغاية القصوى من الكثافة والجلافة والانحصار والكزازة وعدم النور والحياة. — ثم يتلو هذا الجرم من الأشياء جرم الماء وهو ألطف من الأرض وأصفى وأشرف وأنور وأقرب إلى الحياة. ثم يتلو جرم الماء جرم الهواء، وهو ألطف من الماء. ثم جرم النار الذى هو ألطف العناصر الأربعة وأشرفها وأشدها نورا. ثم يتلو جرم النار جرم الفلك الذى هو صفو ما تحته والمخصوص بالشرف على سائر الأجرام للطافته وإشفافه وشدة أنواره وحسن نظامه وترتيبه وقربه من الحياة ومجاورته الأشياء الشريفة الحية العاقلة، وأنه متشكل بسيد الأشكال وأتمها وأصحها الذى هو الشكل الكرى المدور، وأن سائر ما يحتوى عليه متشكل بشكله كرة دون كرة على الترتيب الذى ينتهى إلى كرة الأرض. ثم التالى لجرم الفلك الذى هو أقصى الأجرام كلها هو جوهر النفس المعطية الأفلاك الحركة النظامية والأنوار الصافية الشريفة التى هى ألطف من سائر ما أحاطت به من الأشياء واحتوت عليه. وذلك أن سائر ما تحتوى عليه أجسام وهى لا جسم ألبتة، وأن سائر الأشياء ممادونها لا حياة له إلا بها، وأنها ذات الفكرة والإرادة والتمييز: فما واصلته أظهرت فيه ذاتها على حقيقة قبوله فصار حيا، وما لم تواصله لم يوجد له فكر ولا إرادة ولا حركة ولا تمييز. وما فقد شيئا من هذه الأشياء فهو ميت لا محالة. والشىء التالى لجوهر النفس والعالى عليها والمحيط بها هو العقل. وبحق إنه ألطف الموجودات وأشرفها وأعلاها منزلة، وإنه المرتب تحت أفق الأزلى تبارك وتعالى والآخذ عنه بغير وسيط، والمفيد جميع ما تحته الشرف والنور والحياة، وأنه الترجمان الأعظم والحاجب الأقرب.
فتأملى، يا نفس، هذا الترتيب وتيقنيه واعتقديه فإن هيئة الموجودات ونظامها وترتيبها.
مخ ۵۸
[chapter 2: 2] الفصل الثانى
مخ ۵۹
يا نفس! لا تذمى الدنيا وتقولى: هى دار خديعة ومصيدة وغرور، فإنها ليست كذلك إلا عند ذوى العقول الناقصة ومن يعرض له الجهل والنسيان. ولو كانت دار خديعة بالحقيقة لكان الإنسان منذ بدء ظهوره فيها إلى وقت خروجه منها لا يشافه منها إلا نعيما ولذات وسرورا. ثم تأتيه المساءة حينئذ بغتة فتزيله عن ذلك النعيم ويستحيل به ما كان فيه إلى خلاف ذلك. وليس الأمر فيها كذلك، بل إنما يرى الإنسان ينشأ فى هذه الدنيا ويتربى بأحوال مختلفة لا نظام لها: فيوما محزون، ويوما مسرور، ويوما متلذذ، ويوما متألم متوجع. والشىء إذا أظهر لك جميع ما فى طبعه فقد أنصفك ونصحك؛ وإنما المخادع من كان فى طبعه الخير والشر فأظهر لك الخير وأبطن الشر لوقت الفرصة والمكنة منك. ولست أرى أحدا نال من هذه الدنيا فرصة إلا وأعقبه ذلك غصة وألما. وليس هذا شرط المخادعة من قبل الدنيا، وإنما المخادعة من قبل الإنسان لنفسه، وذلك أن الإنسان الناقص هو المخادع نفسه المهلك لها، لا الدنيا، لأن الدنيا قد أظهرت له جميع ما فى طبعها من نعيم وبؤس. فاغتبط الإنسان الضعيف العقل بنعيمها واعتقده دائما وأنسى بؤسها وأهمله ثم يقول: خدعتنى الدنيا! وأى خداع خدعته الدنيا! وإنما هو المخادع نفسه والمهلك لها.
يا نفس! لا تكن أخلاقك فى هذه الدنيا كأخلاق الصبى الذى لا عقل له: إن أطعم ورفق به رضى وضحك؛ وإن شدد عليه بكى وغضب: فهو بينما يكون ضاحكا حتى يكون باكيا، وبينما يكون راضيا حتى يكون غضبان. وليست هذه أخلاق العقل الوحيد، بل أخلاق مشتركة مذمومة.
يا نفس! إنما رتبت الدنيا على هذه المعانى المختلفة التى هى خير وشر، ونعيم وبؤس، وشدة ورخاء — تنبيها للنفس، وإيقاظا لها، ومثالات تعمل عليها فتكتسب بذلك العقل المضىء المنير والعلم الثابت الذى هو الحكمة والمعرفة بحقائق الأشياء، وإنما وردت إليها النفس لتعلم وتخبر. ومن ورد إلى محل من المحال ليعلمه ويخبره ويعرف حاله ثم ترك العلم والبحث والاختيار وتشاغل بالنعيم والتلذذ — فقد ضيع مطلبه ونسى أربه الذى قصد له.
وإنما شرحت لك يا نفس هذا الشرح لئلا تكونى فى رتبة الذامين للدنيا عند سخطهم عليها، والمادحين لها عند رضاهم عنها، وليس هم بالحقيقة لا ذامين ولا مادحين، بل هم تائهون ضالون قد أضاعوا طلبهم وأنسوا أربهم وذهب استعمالهم آلاتهم باطلا غير متحققين بعلم ولا مكتسبين لقنية.
مخ ۶۰
يا نفس! إنما هذه الدنيا دار علم وبحث واختبار للمتأملين. فتأملى، يا نفس، جميع معانيها وصورها وصنعها وتشكيلاتها المحسوسة السائلة الزائلة البائدة الأعراض والأشخاص. واعلمى أنما هى مثالات الصور بالحقيقة والصور الحقية والتشكيلات الحقية الدائمة الأبدية.
وبالجملة، يا نفس، فإنه ليس فى عالم العقل نوع إلا وشكله ظاهر فى كيان جريان الطبيعة. وكذلك جميع ما هو موجود فى عالم الكون إنما هى دواع ومثالات: فلذاته الكاذبة الزائلة تدل على اللذات الصادقة الدائمة، وصوره المنحلة الزائلة السائلة الهالكة تدل على الصور الباقية الثابتة؛ وإن اختلاف جميع ما فى الحس وزواله يدل على اتفاق جميع ما فى العقل وبقائه وثباته.
مخ ۶۱
فما دمت، يا نفس، فى عالم الطبيعة فلا تطلبى منه لذة ولا تتشاغلى بمحسوس عن التعلم والتصور والتمثل والبحث والاستكشاف لجميع ما قصدت له من مطالبك وآرابك لتكفى العودة والرجوع على اكتساب العلم. فإذا تشوقت يا نفس إلى اللذات والسرور الدائم فانزعى لباسك الكدر وتهذبى من أوزار جسمك، وتنقى من الأشياء المخالفة لجوهرك. ثم صيرى إلى عالم اللذات الحقيقية والسرور الدائم، والبسى حللك الذاتية، وتصورى بصورك الجوهرية الدائمة الباقية التى أنت مشاهدة لتشكيلاتها ومثالات أنواعها وأنت فى عالم الكون والفساد.
فتيقنى يا نفس جميع ما قد شرحته لك واعقليه. واعلمى يا نفس أن مهلكات الأمور ثلاثة أجناس: أولها الشرك وسائر أنواعه، والظلم وسائر أنواعه، والتلذذ وسائر أنواعه. ويجمع هذه الأجناس وسائر أنواعها كلها أصل واحد — وهو حب الدنيا. فتحرزى، يا نفس، من الدنيا وأعرضى عنها، وانظرى إليها بعين الخائف الوجل منها. وكونى منها كالطائر الذى عرف الفخ المنصوب وفطن له فانحرف عنه وحذره. واعلمى يا نفسى أن تحرزك وهربك من جنس الشرك يذهب بك إلى مرتبة التوحيد، وأن تحرزك من جنس الظلم يذهب بك إلى رتبة النور والصفاء والتهذيب والتمحيض، وأن تحرزك من جنس التلذذ يريحك من مقاساة الخوف والحزن والجهل والفقر. فتيقنى يا نفس حقيقة هذه المعانى، واعلمى صحتها تنجى وتسلمى من الهلكة.
مخ ۶۲
يا نفس! تأملى حكمة مبدع هذه الأشياء واعتبرى بها، واعلمى أن الإنسان لم يخلق لمعنى من المعانى إلا للعلم والعمل به، وكذلك الثمرة الطيبة لم تخلق إلا للأكل. فكما أن عنقود العنب يبدأ وهو لا يصلح لشىء مما يراد له، ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى حد الحموضة العذبة فيكون حينئذ يصلح لبعض ما يراد منه، لا لكله؛ ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى حد الكمال فى جميع المعانى التى لها يراد، فيتكامل حينئذ — فكذلك الإنسان المحسوس يبدأ إلى عالمه وهو لا يصلح لشىء من المعانى التى تراد منه، ثم ترد إليه المادة السائرة به إلى المعنى الذى به يصلح أن يكون متعلما، لا عالما. فإذا ارتاض بهذه الرتبة وردت إليه المادة الكبرى الكاملة المكملة فتجعله حينئذ عالما عاملا فيكمل حينئذ. وكذلك الإنسان المعقول إنما هو القوة الآتية فى العضو الواردة مع المنى إلى الرحم ثم حينئذ ترد إليه القوة المصورة التى يمكن أن تصوره بتوسط الأجرام الإلهية. فإذا صار عقلا بالقوة ذا غضب وشهوة وردت إليه حينئذ القوة الثانية المتممة التى هى عقل بالفعل فسارت به إلى حد الكمال فحينئذ تكون جميع أسبابه بالفعل بعد أن كانت فى الابتداء: لا بالفعل، ولا بالقوة. ثم انتقل إلى مرتبة كان فيها بالقوة، ثم ذهب من رتبة القوة إلى رتبة الفعل والكمال فصار حينئذ فاعلا كاملا، مصورا متصورا، ممثلا متمثلا. — واعلمى يا نفس أن التأمل لهذه المعانى دليل على لطيف حكمة مبدع العالم جل جلاله وتقدست أسماؤه.
يا نفس! إن المبدع جل اسمه كالناطق الفائض بما عنده من المعانى والجواهر كلها للمستمعين منه؛ وليس كل المستمعين يفهمون عن التكلم، بل منهم من يحتاج إلى ترجمان يؤدى إليه ووسيط يتوسط بين الناطق والسامع، وذلك لضعف تصور السامع عن فهم القول. ومن هو كذلك فهو أعجمى لا يفهم حاجته إلا بترجمان يفسر له حقيقة القول. فلا تكونى، يا نفس، من الجواهر المحتاجة إلى الوسائط: فإن الترجمان ربما خان فى تعبير الكلام، وغير القول وحرفه — فاخرجى يا نفس من رتبة العجومية إلى رتبة الفصاحة، واقتنى، يا نفس، العلم قبل العمل، ومعرفة الثمرة قبل غرس الشجرة، لتحققى بالقول الثبوت على العلم قبل العمل، فإن لك فى ذلك راحة كبيرة وفائدة عظيمة.
[chapter 3: 3] الفصل الثالث
يا نفس! إن الأعراض الحالة فى الجوهر الكثيف عدمت الاتفاق، وأتت إلى الاختلاف والمضادة، فتحرزى يا نفس منها وانحرفى عنها: فهى المعنى الذى حذرته والخوف الذى خوفته.
مخ ۶۴
يا نفس! أنت وحيدة وهى متكاثرة، وأنت متفقة وهى مختلفة، وأنت ناصحة وهى مخادعة، وأنت حق موجود وهى لا حقيقة لوجودها، وأنت خير دائم باق وهى زخارف وتمويه مستحيل فان. فأعرضى يا نفس عنها واحذرى استبعادها إياك وقطعها لك وخذلانها بك. فلا تخرجى يا نفس عن ذاتك الوحيدة الحقية الشريفة وتتبعى تكاثرها واختلافها ومحالاتها وخساستها وعورها — فتضلى وتهلكى.
مخ ۶۵
يا نفس! حتى متى أنت فقيرة هاربة من ضد إلى ضد؟ فتارة هاربة من الحر إلى البرد، وتارة من البرد إلى الحر، وتارة من الجوع إلى الشبع، وتارة من الشبع إلى الجوع — وكذلك فى سائر الأطعمة والروائح: إن أسرفت عليك الحلاوة افتقرت إلى الملوحة، وإن أسرفت عليك الملوحة افتقرت إلى الحموضة، وكذلك فى جميع المشمومات وجميع ما أنت مشاهدة له فى عالم الحس: فبينما أنت فقيرة إلى المقتنيات، فإذا وصلت إليها اكتسبت الخوف عليها ما دامت معك، فإذا فارقتك وفارقتها فقد زال عنك الخوف وأعقبك ذلك أحزانا وغموما؟ فانزعى يا نفس هذا الشىء الذى أنت فيه ومشاهدة به لهذه الأشياء، والذى أنت معه واجدة لهذه الأمراض والآلام. ولا تأسى لمفارقة الأحزان والهموم والخوف والفقر ، ولا تكرهى مواصلة الغنى والأمن والسرور: فإنه من آثر الفقر على الغنى، والخوف على الأمن، والذل على العز كان جاهلا، ومن جهل فقد ضل، ومن ضل فقد هلك.
يا نفس! تيقنى أنك قد برزت عن أصل أنت فرعه؛ وأن الفرع — وإن جرى إلى غاية البعد عن أصله، فإن بينه وبينه وصلة ورباطا، ولهذه الوصلة والرابطة يستمد كل فرع من أصله كالشجرة المثمرة: فإن الثمرة وإن بعدت عن أصلها المبدئ لها فإن بينها وبينه اتصالا ذاتيا به يكون استمدادها منه. ولو عدمت ذلك الاتصال — بأن يقطع بينهما قاطع مما سواهما، فحال بين الأصل والفرع وأوجب قطع المادة عن الفرع — لفسد فى حال وتلف. — فتصورى يا نفس هذا، وتيقنيه، واعلمى أنك راجعة إلى مبدئك الذى هو أصلك؛ فتهذبى من أوساخ الطبيعة وأوزارها المبطئة بك عن سرعة الرجوع إلى عالمك وأصلك.
مخ ۶۶
يا نفس! هذا عالم الطبيعة وهو محل الفقر والخوف والذل والحزن، وهذا عالم العقل وهو محل الغنى والأمن والعز والسرور. وقد شافهتهما جميعا وشاهدتهما، فتخيرى على خبرة منك، واعلمى أنك لابثة فى أيهما شئت غير مدفوعة ولا ممنوعة. واعلمى أن من الممتنع أن يكون الإنسان فقيرا غنيا، خائفا آمنا، عزيزا ذليلا، مسرورا حزينا. وإن كان هذا هكذا، فكذلك لا يمكن أن يجمع الإنسان حب الدنيا وحب الآخرة، بل ذلك من باب الممتنع أشد الامتناع.
يا نفس! إنه من نزع سلاحه وكف نفسه واستسلم لعدوه وجب أسره. ومن قاتل بسلاحه وحمى نفسه ولم يستسلم لعدوه، وجب قتله. وأى نفس وردت إلى عالم الطبيعة فلا بد لها أن تسلك إحدى هاتين الحالتين: إما القتل، وإما الأسر. فمن اختار الأسر فقد اختار طول العذاب وهوان الاستعمال وذل العبودية. ومن اختار القتل فقدمات عزيزا وكان موته حياة له واستراح من الأسر وهوانه وطول ذله.
يا نفس! متى نويت ترك الأفعال الخسيسة الدنيئة فاقصدى نبعها واجتنبيه وهو حب الدنيا. ومتى نويت الأفعال الشريفة الإلهية فاقصدى أصلها واغرسيه وربيه، وهو الزهد فى الدنيا؛ وليكن فعل ذلك بريئا من النفاق والتمويه.
مخ ۶۷
يا نفس! لا تخرج بك شدة الحذر وإفراطه إلى حد الجبن فتعدمى الشجاعة وشرفها، وتكتسبى الدناءة وخساستها. واعلمى أن كل شىء مستمد هو غير ذات، وإن كان غير ذات فمحتاج إلى المادة، وأن كل محتاج إلى المادة فمادته متوالية به دائما طول مدته المقسومة له. فتيقنى يا نفس هذا، فإن لك تحته راحة كبيرة وفائدة عظيمة.
يا نفس! تمسكى بالتدبير الجزئى على حسب الإمكان. فإن تدافعت بك الأمور إلى جهات التدبير الكلى فارضى بذلك واطمئنى إليه، واعلمى أن بذلك يسقط عنك ثقل الاهتمام والتكلف: كرجل تكلف مصباحا يستضىء به فى طول الليل وظلمته؛ فلما طلعت الشمس استغنى عن المصباح وزال عنه ثقل التكلف.
يا نفس! لا تقترنى بدنيئات الأمور وخسائسها فتلزمك العادة بذلك وتكتسبى طبعا مخالفا لطبعك، فتعدمى بالانصباب إليها الرجوع إلى وطنك. واعلمى أن مبدع الأشياء — جل وعلا — هو أشرف الأشياء كلها. فاقترنى بشرائف الأشياء لتقربى من بارئك بطريق المجانسة، واعلمى أن شرائف الأشياء منضافة إلى شرائفها، وأن خسائس الأشياء منضافة إلى خسائسها.
مخ ۶۸
يا نفس! تطالبين بالاستقرار وأنت فى عالم الكون؟! وأى استقرار يوجد فى عالم الكون! إن الزق ما دام على ظهر الماء فلا قرار له ولا طمأنينة ألبتة. وإن استقر وقتا ما، فإن ذلك بالعرض، ثم يعود الماء إلى اضطرابه وتموجه بما على ظهره. وإنما يستقر ذلك الزق إذا أخرج من الماء وأعيد إلى الأرض التى هى ينبوعه وأصله المشاكلة له بالكثافة والثقل — فحينئذ يستقر به القرار. وكذلك النفس ما دامت فى جريان الطبيعة فلا قرار لها ولا راحة ولا طمأنينة لإتعابه إياها وخذلانه إياها وقطعه لها. فإذا عادت النفس إلى ينبوعها وأصلها استقرت وظفرت بالراحة، واستراحت من شقاء الغربة وذلها.
[chapter 4: 4] الفصل الرابع
يا نفس! إن عالم الطبيعة صفو وكدر، فتجرعى كدره قبل صفوه. وكذلك ينبغى لمن طلب السعادة أن يسوس نفسه هذه السياسة. واعلمى أن شرب الصفو بعد الكدر خير من شرب الكدر بعد الصفو، فلا تغترى بأن فى عالم الطبيعة صفوا يوجد؛ فإن وجد فيه صفو فليس هو بالحقيقة، لأن ما لا دوام له لا صفو فيه، بل كدر كله وثقل. وإنما ضربت لك مثلا. فإن أردت الشىء الصافى الهنىء فاطلبيه فى غير عالم الكون والفساد. فإنك إن طلبته فى معدنه وجدته، وإن طلبته فى غير معدنه عدمته. وإن أنت عدمت طلبك وفاتك أربك، اقترنت بك الأحزان والفقر، وأعقبك ذلك مرضا يؤديك إلى الموت من العيش العقلى والحياة الدائمة.
يا نفس! إن هذا المركب الذى قد ركبته فى هذا البحر العظيم إنما هو من أمياه تجمد وبالعرض تركب. ويوشك أن تطلع عليه الشمس فينحل إلى عنصره ويتركك جالسة على وجه الماء، إن أمكنك الجلوس: تطلبين مركبا ولا مركب تجدين إلا ما اكتسبته من جودة السباحة وحسن التهدى.
مخ ۶۹
يا نفس! إن الماء الصافى النقى يؤدى البصر إلى سائر ما فى ذاته. وإذا شابه الكدر والوسخ حجب النظر عن إدراك سرائر الأشياء المستكنة فيه، وكذلك نور الشمس إذا أشرق على الأشياء كان النظر مدركا لها بالحقيقة. فإذا عرض فيه البخارات والدخان والغبار حيل بين البصر وبين إدراكه تلك الأشياء. وكذلك أنوار العقل اللطيفة الشريفة إذا امتزجت بالأشياء الجلفة الكثيفة المظلمة كدرتها وأعاقتها عن إدراك ما فى ذاتها من الصور والأشكال، وأعدمتها التصور العقلى. فحينئذ تبقى النفس فقيرة من مقتنياتها، جاهلة بمعلوماتها، عادمة حسن التهدى إلى طريق نجاتها.
مخ ۷۰
يا نفس! ليس الزهد فى الدار ترك تزويقها وإصلاحها مع الرضا بالمقام فيها. وإنما الزهد التام الرضا بالتحول عنها، والاشتياق إلى النقلة منها. وكذلك يا نفس: ليس الزهد فى عالم الطبيعة ترك لذاته وشهواته مع الرضا بالمقام فيه. وإنما الزهد بالحقيقة شدة الشوق إلى مفارقته والراحة منه ومن معاندته ومضادته واختلافه وظلمته. — فينبغة لك يا نفس أن تعتقدى الشوق إلى الموت الطبيعى والرضا به؛ وتحاذرى الفشل عنه. فبالخوف منه تكون الهلكة، وبالتشوق إليه تكون السلامة. أليس تعلمين يا نفس أن بالموت الطبيعى تنتقلين من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الحزن إلى السرور، ومن الخوف إلى الأمن، ومن التعب إلى الراحة، ومن الألم إلى اللذة، ومن المرض إلى الصحة، ومن الظلمة إلى النور؟ فلا تأسى يا نفس أن تسلبى حلل الشر والشقاء، وتلبسى حلل الخير والبقاء، مع تيقنك حقيقة ذلك ومشافهتك إياه ومشاهدتك له بذاتك الفاردة الوحيدة.
يا نفس! تطالبين بالإخوان والأصحاب فى عالم الكون، وقد علمت أن ذلك من جنس الممتنع، وإنما يوجد ذلك فى عالم الروحانيين لانفراد ذواتهم وتمحضها وصفائها. فإن أحببت ذلك فصيرى إلى هناك لتظفرى بمطلوباتك، ولا تطلبى فى عالم الكون ما ليس فيه، لأن سكانه أسرى ومماليك. وأى أخوة لأسير، وأى عهد لمملوك! فتيقنى ذلك، واعملى به، واعتقديه.
يا نفس! اعلمى وتيقنى أن كل فاقد تائه، وأن كل تائه هالك. فاحذرى أن تقتنى ما تفقدينه فتتوهى وتهلكى.
يا نفس! ما أشد مفارقة الأحباب! وأشد من ذلك محبة كل مفارق!
يا نفس! إن أهل الدنيا مظلومون ظالمون، مغرورون غارون: ومن ذلك أنهم يستقبلون النفس الواردة إلى دار الهموم والأحزان بالطرب والسرور، ويشيعونها — إذا صدرت عنها — بالبكاء والعويل. وكفى بهذا، يا نفس، ظلما ومخالفة للحق والعدل!
مخ ۷۱
يا نفس! تيقنى وتفهمى بالاستقراء والتأمل، واعلمى أن أربعة أشياء هى السبب فى هلاكك لا محالة: وهى الجهل، والحزن، والفقر، والخوف. فاعلمى يا نفس أن من بحث عن العلم عدم الجهل، ومن ترك المقتنيات الخارجة عنه عدم الحزن، ومن عف عن الشهوات عدم الفقر، ومن تشوق إلى الموت الطبيعى ورضى به عدم الخوف.
يا نفس! الجاهل لا يعلم الشىء حقيقة ألبتة. والمقتنى الأشياء الخارجة عنه حزين طول دهره، والفقير إلى الشهوات الحيوانية فقير أبدا. والخائف من الموت الطبيعى قد عدم حلاوة الأمن. فهل يكون أشقى من نفس جاهلة حزينة فقيرة خائفة؟!
يا نفس! إنه لو تقررت لك رتبة الصبر على مضض العدم السائر بك إلى حد الانفصال من الطبيعة — لعدمت الخوف مع الفقر جميعا. فاعتقدى يا نفس الصبر، ولا تجمعى مع الحزن والأسر والغربة فقرا وخوفا فتهلكى.
يا نفس! إن الموت تحت الصبر والثبات عز، وإن الموت تحت الهزيمة والفشل ذل.
يا نفس! إن القتل إنما هو ساعة وتنقضى؛ ومقاساة ذل الأسر حال تطول؛ فارضى بالقتل فى الطبيعة ولا ترضى بالأسر، فإن القتل فى الطبيعة هو الحياة الدائمة، وإن الأسر فى الطبيعة هو الموت الدائم.
مخ ۷۲
يا نفس! هذه رتب ثلاث — فكونى على أشرفها وأجملها: فأدناها رتبة رجل عالم غير عامل، ومثل ذلك كرجل ذى سلاح لا شجاعة فيه. وما عسى يصنع الجبان بالسلاح! والرتبة الثانية: رجل عامل غير عالم — وهو كرجل شجاع لا سلاح له — فكيف يلقى عدوه من لا سلاح معه! غير أن الشجاع على السلاح أقدر من الجبان على الشجاعة. وكذلك عامل غير عالم أشرف من عالم غير عامل. والرتبة الثالثة هى رجل عالم عامل: فهو كرجل ذى شجاعة وسلاح. وهذه ينبغى أن تكون الرتبة الشريفة.
يا نفس! إن القمر نير ما دام يرد إليه نور الشمس. فإذا عرض له أن يحول بينهما ظل الأرض انخسف وأظلم. فكذلك النفس نيرة مضيئة ما دام يرد إليها نور العقل. فإذا توسطت أسباب الكون والفساد حيلانا بينهما عدمت النفس نورها فانكسفت وأظلمت. وكما أنه ما دامت الأرض فى وسط العالم لن يعدم القمر الخسوف، فكذلك النفس ما دامت ملازمة الطبيعة لن تعدم الظلمة والأذى. — فقد تبين من هذا الشرح أن راحة النفس فى مفارقتها للطبيعة والتحول عن هذه الدنيا عاجلا.
[chapter 5: 5] الفصل الخامس
يا نفس! إن العقل ليس هو شيئا غير التصور والتمثل. وأى نفس عدمت التصور والتمثل فقدت ذاتها. ومن فقد ذاته فهو ميت.
يا نفس! إن التصور والتمثل هو العقل الذى هو الحياة الدائمة والتلذذ؛ والتنعم بالدنيا هو الموت الدائم. فلا تؤثرى مزايلة الحياة الدائمة على مفارقة الموت الدائم فتهلكى.
مخ ۷۳
يا نفس! ما بال سائر الجواهر الطبيعية غير العاقلة متحركة بالطبع إلى عناصرها ومواضعها الخاصة بها؟ وبحق أن كل جوهر إنما شرفه وعزه أن يرجع إلى عنصره ويكون بنبعه ومحله وأصله!
مخ ۷۴