يا نفس! إن السياسة هى خلة لا تصلح لمخلوق ألبتة، وإنما هى محنة يمتحن بها الناس: فإن امتحن بها العاقل الرشيد تبين من نفسه الضعف عن القيام بتدبيرها فخضع وذل ورغب إلى سائس الكل وعلته، الفائض بالخير كله على الطالبين إليه، فاكتسبت نفسه بانصبابها إلى الخير خيرا وبصيرة، فيهدى إلى حسن السيرة والقصد إلى وجه الإصابة والنجاة من الخطأ بحسن التوفيق. فتكون هذه النفس تشرب من ينبوع الخير والعدل، ثم تفيض بما فيها على من تشتمله سياستها. فبذلك يكون ظهور العدل والخير وسعادة السائس والمسوس. — وأما الجاهل فإنه إذا امتحن بالسياسة سره ذلك وأبهجه، ورأى أن فى قوته وطبعه ما يقوم بهاو بأضعافها. فحينئذ يتهاون بها وبتدبيرها، وينصرف بجميع قوته إلى التلذذ والتنعم المثمرين الجهل والعمى والزلل والخطأ؛ فتكون تلك النفس تشرب من ينبوع الشر والجور، ثم تفيض بما فيها على من هو تحت سياستها، فيكون بذلك ظهور الشر والجور وهلكة السائس والمسوس. يا نفس! إذا دخلت عالم الأحلام فلا تغتبطى به، ولا بمشاهدته ولا تتحققيه وإلا صرت عند اليقظة ضحكة ومسخرة وملهاة.
يا نفس! إن عالم الكون والفساد هو عالم الأحلام، فينبغى أن تتمثلى أن النائم الحالم فيه إنما هو نائم نوما ثانيا وحالم حلما ثانيا. فإذا استيقظ فإنما هو نائم انتبه من نومه العرضى ورجع إلى نومه الطبيعى: كرجل أبيض اللون بالطبع عرض له الخجل فاحمر لونه ثم رجع بسرعة إلى لونه الطبيعى. وكلا اللونين يؤول إلى زوال، غير أن حمرة الخجل هى عرض سريع الزوال ويسمى حالا، واللون الطبيعى هو عرض ثابت يزول بزوال الطبع. — فعلى هذا القياس قياس النائم الحالم فى عالم الطبيعة: إنما هو نائم ينام وحالم يحلم، أعنى أنه فى الدنيا نائم بالعرض الثابت؛ ثم يعرض له النوم بالعرض الغير ثابت: فكأنه إنما اكتسب نوما على نوم، فإذا انتبه فإنما انتبه من نوم إلى نوم.
مخ ۱۰۹