يا نفس! كيف توجد فى الدنيا لذة، وكل رتبة تقف النفس عليها فى الدنيا تحتاج إلى الصبر، والصبر مر المذاق، وكل شىء حلو إن خلطته بالمرارة فهو يصير مرا. ومتى نفرت النفس من الصبر والتأدب به ثم ذهبت تطلب المعنى المرضى لها حصلت على التوهان: تذوق هذا وتتركه، وتواصل هذا ثم تقطعه، وترغب فى هذا ثم ترفضه. وهذا معنى قبيح وفعل خسيس وخلق دنىء. ومتى تأدبت النفس بالصبر على أى رتبة كانت من رتب الدنيا فقد اقترنت بها مرارة الصبر. — فقد حصل من هذا الشرح كله: إما أن يكون الإنسان تائها ذواقا فيحصل على رتبة الخساسة والدناءة، وإما أن يرضى برتبة صالحة من رتب الدنيا مع الصبر عليها، فيحصل على مقاساة المرارة مدة مقامه فى عالم الطبيعة. ولأكل المرارة مع اكتساب الشرف والعز خير من أكل الحلاوة مع اكتساب الخساسة والدناءة.
يا نفس! إن غرض الحق وقضاء العقل أن تكون الأشياء على ترتيبها الطبيعى ثابتة. فإذا كانت كذلك فما أحسنها وأجملها وأعدلها! وذلك كالصانع الذى ينبغى له أن يكون هو الذى يستعمل الآلة، لا الآلة تكون مستعملة له؛ وكالفارس الذى ينبغى أن يكون هو مدبر الفرس ويجريه ويروضه، لا أن يكون الفرس يدبر الفارس؛ وكالسلطان الذى يجب أن يكون هو مدبر الرعية والسائس لها، لا أن تكون الرعية تدبره وتسوسه. فإذا جرت هذه الأشياء على كيانها الطبيعى ظهر الحق والعدل الحسنان الجميلان. وإذا انعكست بالضد والخلاف ظهر الشر والجور القبيحان الرديئان.
يا نفس! إن كان الجسد بالنفس يحيا وبها يبصر ويسمع ويشم ويذوق ويلمس، فقد وجب ضرورة الإقرار بأن الجسد آلة النفس. ومن القبيح أن تكون الآلة تدبر الصانع وتستبعده؛ فإن الصانع المدبر، لا الآلة، لأن الجاهل إذا اتخذ آلة اشتغل بتزيينها وتزويقها وترفيهها — عن استعمالها والاكتساب بها ثم يحصل على عبادته لها، فحينئذ ينقلب الحق باطلا، ويصير العدل جورا، والحسن الجميل قبيحا سمجا، إذ يصير الحى البصير السميع العاقل الشريف عبد الميت الأعمى الأصم الجاهل الخسيس.
مخ ۱۰۷