يا نفس! ينبغى أن تتيقنى معرفة ذاتك وما لها من المعانى والصور، ولا تتوهى أن خارج ذاتك شيئا مما يجب أن تطلبى علمه، بل جميع معلوماتك كلها معك وفيك، فلا تتوهى بطلبتك ما هو معك، فإن كثيرا من الناس يكون معه شىء وينسى أنه معه فيطلبه خارجا عن ذاته ويتوه ثم يأتيه الذكر فيذكره ويجده مع نفسه لا خارجا عنها. فتيقنى يا نفس أنه لا شىء من الأشياء المعلومة والموجودة وجودا دائما أبديا خارج عنك البتة. وإنما الشىء الخارج عنك هو ما امتاز من كدرك وثقلك فى الابتداء الأول وهو الشىء القابل للأعراض الجارى مع الكون. ولا شىء آخر يوجد ألبتة غير هذا. فارجعى، يا نفس، إلى ذاتك فاطلبى جميع معلوماتك فيك لا خارجا عنك، ولا تخرجى عن ذاتك فترجعى إلى كدرك تطلبين علم ما فيه فتقعى فى تيار الاختلاف وتتلاعب بك الأعراض كتلاعب البحر الهائج بما فيه من السفن؛ ثم آخر أمرك أن لا تكسبى منه خيرا ولا شرا، ولا يحصل معك منه علم. فثقى يا نفس بحقيقة هذا القول ولا تنسى الشىء الذى هو معك وتمضين تطلبينه فى موضع آخر، فإن جميع ما ينبغى أن تعلمه النفس هو فى النفس بلا غيار ولا غيرية من النفس، بل إنما يعرض (من) الحس الذى هو الجسد.
يا نفس! إن آلة الصانع إذا خلقت أو كانت منتقضة لا هندام لها، فما اقل منفعته بها! وما أقل جدواها عليه! وتركها خير له من استعماله لها، واستبداله بها أصلح من شحه عليها.
يا نفس! إنه ليجب على الصانع متى وجد الآلة المحمودة أن يعمل بها ويكد ويحرص على الاكتساب وجمع الأموال. وإن الصانع إذا كثر ماله استغنى عن العمل، وإذا استغنى باع آلته بالثمن البخس واستراح من الكد والتعب.
مخ ۱۰۴