يا نفس! إن هذا عالم الطبيعة قد وردته واختبرته. فهل اختبرت منه شيئا غير مبصرات موحشة ومسموعات مفزعة مبهته وطعوم مؤلمة مضجرة وروائح كريهة منتنة وملموسات نجسة دنسة؟ فلما وردت إلى هذه الأشياء اغتبطت بها إعجابا وهوى وعشقا، ونسيت معانيك الذاتية الشريفة. فلما عرفت خطأك وزللك أردت أن تشركى معك فى خطئك غيرك وتحيلى الذنب على سواك. هيهات! هيهات! يا نفس! ليس الذنب إلا ذنب من جناه، وليس الخطأ إلا خطأ من أخطأه. فتلافى يا نفس خطأك وزللك: فإنك كما وقعت فيما تكرهين بهواك وشهوتك، فكذلك تتخلصين منه بهواك وشهوتك.
يا نفس! كل مكروه أصابك وأنت فى عالم الكون فتيقنى أن سببه وأصله هو من قبلك ومن حيث خطؤك وزللك. ومتى تذكرت ذلك ذكرته وعرفته، ومتى ورد عليك وارد من المكاره فلم تعرفى سببه وأصله فلا تحيليه على غيرك، بل اجعلى سببه وأصله خطأك القديم الأول الذى قد نسيته، لأن من دخل إلى دار المصائب وأتاها وأصابته مصيبة، فإن ذلك بخطئه إذ أتى إلى دار المصائب فدخلها وقد كان له بد من دخولها. وأعظم من هذا كله أنه قد حذر منها فلم يحذر، وقد خوف منها فلم يخف، ونصح فلم يقبل، واتبع هواه وشهوته.
يا نفس! أليس وأنت خارج السجن كنت تبصرين الأشياء وتسمعين الأخبار؛ فلما دخلت إلى السجن خفى ذلك كله عنك وصرت مسجونة أسيرة تتشوقين إلى خبر تسمعينه، وتتشوقين إلى علم تدركينه وتبصرينه؟ فما الذى حملك على دخولك السجن؟ أليس هذا كله بخطئك؟
مخ ۹۹