يا نفس! إن التجار ليس يظهرون بضائعهم ويزينونها ليراها العميان، لكن ليراها ذوو الأبصار الصحيحة. وكذلك القصاص والمتكلمون إنما يتكلمون على قوارع الطرق لا ليسمعهم الصم وإنما ليسمعهم ذوو الآذان السامعة الصحيحة. كذلك الحكماء: ليس ينطقون بالحكمة ويشيرون بالمعانى إلى النفوس السالكة رتبة الموت. وإنما يومئون بالحكمة ويشيرون إلى النفس السالكة رتبة الحياة؛ وذلك أن النفوس السالكة رتبة الحياة هى نفوس واردة راغبة فى المعانى، لكن النفوس السالكة رتبة الموت صادرة عنها وزاهدة فيها — فتأملى يا نفس هذا المعنى، واعلمى أن شتان بين الصادر والوارد، وبين الراغب والزاهد!
يا نفس! إن كرهت العقاب فاتقى الزلل واحذريه، وتجنبى الخطأ واطرحيه. وإن آثرت الثواب فتهدى إلى الإصابة واعلمى أن مقاصد النفس فى جميع معانيها تكون إلى حالين هما الخطأ والإصابة، وأنه لن يخلو الخطأ أن يثمر العقاب والخسران، ولن تخلو الإصابة أن تثمر الثواب والربح. فإن لم يكن ذلك كذلك، فليكن الخطأ يثمر الثواب، والإصابة تثمر العقاب. وهذا ما لا ينساغ فى العقل، ولا يوجد فى مشاهدة الحس. فقد وجب ضرورة أن يكون الخطأ يثمر العقاب بالحقيقة.
يا نفس! إنه بانصبابك إلى العقل يقوى ضوؤك فتدركين الإصابة ببصرك، وبانحرافك عن العقل وانضيافك إلى الحس تعدمين النور العقلى، فتظلمين وتضعفين فتقترنين بالخطأ بعماك وظلمتك.
يا نفس! إن الطبيب يأمر العليل أن لا يأكل ما يضره: فإن أطاعه أصاب وأثمرت له الإصابة البرء والصحة؛ وإن عصاه أخطأ وأثمر له الخطأ السقم والألم.
مخ ۹۴